الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد المجلد 1

اشارة

نام كتاب: الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى

تاريخ وفات مؤلف: 1426 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 2

ناشر: مؤسسه انصاريان

تاريخ نشر: 1412 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

ملاحظات: شرح استدلالى عروة الوثقى سيد كاظم يزدى

الجزء الأول

[مقدمة التحقيق]

الإهداء

الى حجة اللّه. و خليفته، و بقية اللّه في أرضه، إلى من له الولاية المطلقة الإلهية، إلى ناشر لواء العدل، الى العدل المجسم الى الامام المهدي المنتظر، حجة بن الحسن العسكري، عجل اللّه فرجه الشريف و جعلني من كل مكروه فداه.

أقول بلسان الحال و المقال يٰا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنٰا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنٰا بِبِضٰاعَةٍ مُزْجٰاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا إِنَّ اللّٰهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ «1».

تصدق علينا بالقبول. و ان تغمض عما فيه من الاشتباه و القصور و أوف لنا الكيل بان تشفع لنا عند اللّه تعالى شفاعة حسنة مقبولة.

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة و في كل ساعة وليا و حافظا و قائدا و ناصرا و دليلا، و عينا حتى تسكنه أرضك طوعا و تمتعه فيها طويلا اللهم اجعلني من أنصاره و أعوانه و الذابين عنه و المستشهدين بين يديه آمين يا رب العالمين.

المؤلف

______________________________

(1) يوسف 12: 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 7

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

كلمة المؤلف

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين، و اللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الان الى قيام يوم الدين.

و بعد فمن منن اللّه تعالى على هذا العبد المفتاق الى ربه الغنى السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي ابن سماحة فقيه أهل البيت آية اللّه السيد مرتضى الحسيني اللنگرودي تغمده اللّه بغفرانه: ان وفقه للبحث و المذاكرة حول السفر النفيس و الكتاب المنيف، و هو كتاب العروة الوثقى، تصنيف فقيه عصره، و وحيد دهره سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس اللّه سره) فأستعين منه

تعالى و ابتهل اليه: ان يوفقني و يلهمني الصواب و أعوذ به تعالى: ان أضل، أو أضل من يحضر بحثي و مذاكرتى، و من يطالع ما يصدر منى، و يمثله قلمي القاصر.

و كان شروع البحث و المذاكرة يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثاني من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و خمس و تسعين (1395) هجرية قمرية، في قم المحمية حرم أهل البيت. و عش آل محمد (عليهم السلام).

ثم انه بعد ما انتهينا في مباحثتا الأصولية إلى مبحث الاجتهاد و التقليد رأينا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 8

أولا: ان يجرى البحث على ما هو المتعارف لدى المشايخ في هذا البحث، و لكن بعد المشورة مع الأعزاء، و شركاء البحث تمايلوا الى جعل محور البحث فروع تقليد هذا الكتاب المستطاب لاشتماله على كثير من فروع التقليد المبتلى بها و جملة من مسائل الاحتياط، و لكن مع التعرض لبعض مسائل الاجتهاد التي لم يتعرض لها المصنف قدس لكون كتابه رسالة عملية.

فحمدت اللّه على هذه الموهبة فابتهل اليه حيث سهل لنا تجديد العهد بما أسلفناه، و تحريره، و تهذيبه، و اضافة ما بدئ، أو يبدوا إن شاء اللّه خلال البحث و المذاكرة، فإن وقع موقع القبول فهو من فضل اللّه تعالى يؤتيه من يشاء، و الا فمن قصور الباع و قلة البضاعة فإن كل إناء يترشح بما فيه، و المعروف بقدر المعرفة.

و على كل أسئله تعالى ان يمن علىّ بقبول حسن و يجعله ذريعة يرتقى بها لنيل بعض المقاصد و المطالب، و يجعله ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم و سميته ب- الدر النضيد

في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد- انه خير موفق و معين.

قم المشرفة- محمد حسن المرتضوي اللنگرودي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 9

[مقدمة الماتن]

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و صلى اللّه على محمد خير خلقه و آله الطاهرين.

و بعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربه محمد كاظم الطباطبائي: هذه جملة مسائل مما تعم به البلوى (1)، و عليها الفتوى جمعت شتاتها، و أحصيت متفرقاتها عسى ان ينتفع بها إخواننا المؤمنون و يكون ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، و اللّه ولى التوفيق.

______________________________

(1) أقول: و قد صار بعض مسائله في زماننا خارجة عن محل الابتلاء كالأحكام المتعلقة بالعبيد و الإماء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 10

..........

______________________________

أقول: و ليعلم ان بعض المسائل التي ذكرت في الكتاب المستطاب و ان كان مما يبتلى بها حال تصنيف الكتاب الا انه صار في زماننا خارجا عن محل الابتلاء، كالأحكام المتعلقة بالعبيد و الإماء المذكورة في كتاب النكاح و غيره.

ثم ان المسائل المبتلى بها ليست على نسق واحد، فان فيها ما يكون كثير الدوران و هو واضح إلى النهاية و منها ما يكون قليل الدوران نادرا جدا ملحقا بالعدم كبعض فروع العلم الإجمالي، و قسم ثالث متوسط بينهما يجده المتتبع في الفقه.

و لا يخفى انه لم يرد قدس بقوله و عليها الفتوى: الفتوى المقابل للاحتياط، و الاشكال، و التوقف، لأنه ليس له قدس سره و لا لغيره من الفقهاء، فتوى صريح في جميع المسائل و الفروع الفقهية فربما يناقشون في المسئلة و يشكل عليهم أمرها، و يتأملون فيها إلى ان يحتاطوا فيها، بل المراد:

ان المسائل المذكورة في كتابه الشريف معنونة بين الأصحاب و مطرح لانظارهم الشريفة.

و قوله قدس: جمعت شتاتها و أحصيت متفرقاتها: يشير الى تحمل المشاق في تدوينه و هو كذلك، و لعمر الحق ان كتابه هذا من أحسن ما صنف في بابه، حاو لفروع لا تجد كثيرا منها في كتب الأصحاب إلا بعد الفحص و التنقيب كيف لا؟!! و هو مصنف الفقيه المقدم في عصره فقيه أهل البيت رئيس الملة و الدين، و من خضع له الموافق و المخالف- و قد قيل في حق الكتاب و مصنفه: انه خير مصنف لخير مصنف.

وليته قدس يتم على منواله سائر أبواب الفقه، أو يتمه بعض المشايخ اللاحقة تتميما للفائدة، و من المؤسف جدا وقوع كتابه القيم ناقصا مقتصرا على بعض كتب الفقهية كما هو الشأن في كثير من الكتب الفقهية لأصحابنا المتأخرين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 11

..........

______________________________

و بالجملة قد أكب على كتابه القيم منذ تدوينه فحول العلماء، و أكابرهم فجعلوه محور ابحاثهم الفقهية و دراساتهم العميقة، و افكارهم القيمة، فمنهم من اكتفى بتدريسه و المذاكرة حوله، و منهم من علق عليه و تعرض لمواقع النظر بعنوان التعليقة و التحشية، و منهم من لم يكتف بذلك الى ان شرحه شرحا مختصرا مفيدا، أو مفصلا غير ممل، فجزاهم اللّه عن الإسلام و اهله خير الجزاء. اللهم متّعنا بانظارهم الشريفة و آرائهم السديدة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 13

[مسئلة 1- وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط على المكلف في العبادات و المعاملات]

اشارة

مسئلة 1- يجب (1) على كل مكلف (2) في عباداته، و معاملاته (3) ان يكون مجتهدا، أو مقلدا، (4) أو محتاطا (5)

______________________________

(1) بحكم العقل الارتكازي.

(2) ملتفت.

(3) المراد بالمعاملة حيث تطلق قبال العبادة

معناها الأعم فتعم السياسيات و العاديات، فالمراد بها جميع ما لا يعلم حكمه من الأفعال، و التروك المبتلى بها عادة و لا يحتاج الى التقييد كما توهم.

(4) يعني في غير اليقينيات و الضروريات كما يصرح به في المسئلة السادسة.

(5) المراد بالاحتياط هنا الإتيان بجميع ما يعتبر دخله فعلا أو تركا فيكون في عرض الاجتهاد و التقليد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 14

..........

______________________________

أقول: المراد بالمكلف من وضع عليه قلم التكليف و هو العاقل البالغ فان العقل، و البلوغ معتبران في جميع التكاليف الشرعية.

يدل على ذلك مضافا الى نفى الخلاف بل الإجماع المستفيض بل المتواتر، بل اتفاق المسلمين: الكتاب العزيز، و السنة المستفيضة، بل المتواترة. و قد أورد شيخنا الحر العاملي (ره) في البابين- الثالث و الرابع- من أبواب مقدمات العبادات من كتاب الوسائل اخبارا يستفاد منها اشتراط العقل في تعلق التكليف، و في بعض أبواب الشهادة، و الوصايا، و الحجر، و ميراث الأزواج، و الوقوف، و الصدقات و مقدمات النكاح الى غير ذلك من الأبواب: اخبارا يستفاد منها اشتراط التكليف بالاحتلام، أو إنبات الشعر الخشن على العانة، أو إكمال الذكر خمس عشرة سنة، و الأنثى تسع سنين.

و قد تعرضنا حال البحث و المذاكرة للأخبار الواردة في المسئلة، و التوفيق بين متعارضاتها، أو الترجيح للمختار منها، و كلمات الأصحاب و ما هو المختار فيها.

البلوغ و علاماته

و كان يعجبني إيراد ما ألقيناه في مجلس المذاكرة في طليعة هذه الرسالة، و لكن حيث طال البحث بنا حولها فصارت رسالة في حد نفسها طوينا عنها كشحا لئلا يمل انظار المراجعين في هذا الكتاب، فان ساعدنا المجال نحررها و نجعلها في معرض الاستفادة إن شاء اللّه تعالى.

و

لكن بدا لنا بلحاظ ان ما لا يدرك كله لا يترك كله- إيراد حاصل ما أوردناه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 15

..........

______________________________

في تلك الرسالة فلعله لا تخلو عن فائدة و هو: ان المراد ببلوغ الإنسان بلوغ الحلم و الوصول الى حد النكاح، بسبب تكون المنى و تحرك الشهوة و النزوع الى الجماع و إنزال الماء الدافق الذي هو مبدء، خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه، بل و في غيره لبقاء النوع، فالبلوغ كمال طبيعي للإنسان يبقى به النسل، و يقوى معه العقل، و هو حالة انتقال الأطفال من الصباوة إلى حد الكمال، و في سائر الحيوانات حالة طبيعية لبقاء النوع بل في النباتات أيضا حيث انها قد تكون قابلة لتوليد المثل و اثمار الثمرة في مدة معينة، و مثلها لا تكون مثمرة في تلك المدة.

و كيف كان فمن حصل له تلك الحالة حصل له البلوغ و يترتب عليه الآثار المترتبة على البلوغ و ان لم يصل الى السن المقرر شرعا فاذا قطع بعدم وصوله الى ذلك الكمال الطبيعي فلا يترتب عليه الآثار المترتبة على البلوغ و ان بلغ خمس عشر سنة فتأمل.

فالملاك كل الملاك في البلوغ هو حصول ذلك الكمال الطبيعي للطفل فمن حصل له ذلك يصير موضوعا للأحكام المرتبة على البالغ و من لم يحصل له ذلك و لو المرتبة النازلة فلا.

و حيث ان العلم بتحقق ذلك الكمال الطبيعي و حصوله للطفل، و من يكون هو بين أيديهم قلما يتفق الأبعد مضى مدة لا يستهان بها جعل الشارع الأقدس أمارات و علائم لتشخيص البلوغ.

فمنها: إنبات الشعر الخشن على العانة التي هي حول الذكر و القبل للذكر و الأنثى.

و

منها: خروج المنى- و هو الماء الذي يخلق منه الولد- من الموضع المعتاد مطلقا ذكرا كان أو أنثى، يقظة كان أو في المنام: و قد عبر عن خروج المني في اخبار الباب بالاحتلام.

و منها: إكمال الذكر خمس عشرة سنة، و إكمال الأنثى تسع سنين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 16

حكم العقل بلزوم إرسال الرسل و بيان الأحكام

______________________________

و على كل كما قرر في محله ان حكم العقل و قاعدة اللطف أوجب على اللّه سبحانه إرشاد العباد الى مرضاته و الفوز بلقائه بإرسال الرسل، و تبليغ الأحكام، و لئلا يكون للناس على اللّه حجة و قد أرسل رسلا مبشرين، و منذرين و كان أفضلهم و خاتمهم نبينا محمد بن عبد اللّه «صلوات عليه و آله و عليهم أجمعين» قال اللّه تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ «1».

و قد قام الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بأعباء الدين و نشر الأحكام، و تتميم مكارم الأخلاق طيلة حياته المقدسة المباركة الى ان خطب في حجة الوداع.

فقال فيما قال: يا ايها الناس و اللّه ما من شي ء يقربكم من الجنة و يباعدكم من النار الا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم من النار و يباعدكم من الجنة الا و قد نهيتكم عنه إلخ «2».

و لم يكتف بذلك الا و قد نصب ابن عمه على بن أبي طالب صلوات اللّه و سلامه عليهما يوم الغدير قائدا للأمة و اماما مفترض الطاعة بعد مماته لئلا تقع الأمة الإسلامية في الحيرة و الضلالة بل يصلوا إلى أعلى مدارج النور و العظمة

فأمر صلوات اللّه عليه برجوعهم اليه- سلام اللّه عليه- في جميع شئونهم الفردية و الاجتماعية.

ثم انه (عليه السّلام) بإشارة و تعيين منه (صلوات اللّه عليه) نصب أئمة أهل البيت الأنثى عشر أئمة الهدى و أعلام التقى، و العروة الوثقى واحدا بعد واحد الى ان انتهى الأمر إلى الحجة بن الحسن العسكري، و بقية اللّه الأعظم عليه و على آبائه

______________________________

(1) الجمعة 62: 2.

(2) أصول الكافي باب الطاعة و التقوى ج 2 ص 74.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 17

..........

______________________________

الهداة المهديين أفضل صلوات المصليين، و جعلني من كل مكروه فداه اللهم عجل فرجه الشريف و اجعلني من أنصاره و أعوانه. فقاموا صلوات اللّه عليهم أجمعين بإحياء الشريعة و نشر الأحكام و بث العلوم حسبما اقتضته بقدرتهم و امكاناتهم حسبما قرر في محله.

وجوب التعرض للأحكام المجعولة

و بعد إتمام الحجة بإرسال الرسول الأعظم و نصب ولاة الأمر، صلوات اللّه عليهم أجمعين، و بيان معارف الدين و نشر أحكام الشريعة المقدسة ببركات أنفاسهم المقدسة، فلا بد للأمة الإسلامية من القيام بالوظيفة بامتثال ما وجب عليهم و الانزجار عما نهوا عنه لما تقرر في محله: من ان الناس غير مهملين و لم يتركوا سدى. فلا بد لهم من تحصيل المؤمّن و التعرض لتلك الأحكام، لان في ترك القيام بالوظيفة، و ترك التعرض لها احتمال الوقوع في الضرر المحتمل لو لم يكن مظنونا.

و حكم العقل بدفع الضرر المحتمل مما عليه غريزة كل حيوان فضلا عن الإنسان و لذا ترى ان الشاة مثلا بمجرد إحساس وجود الذئب، أو احتماله لا تبقى مكانها بل تفر و تتبعّد، و كذا كل حيوان إذا أحس الضرر على نفسه من ناحية يدفعه عنها

و هذا واضح لا سترة فيه.

أنحاء التعرض للأحكام المجعولة

و لا يخفى ان القيام بالوظيفة للاحكام المعلومة بالإجمال لا بد و ان يكون بأحد أمور:

الأول: العلم الوجداني كالاستماع من لفظ المعصوم عليه السّلام، أو قيام خبر متواتر أو خبر واحد محفوف بالقرائن القطعية و نحوها.

الثاني: العلم التعبدي و ما علم حجيته شرعا- سواء كانت حجة على الحكم الواقعي، و امارة كاشفة عنه، أو حجة في مرحلة الظاهر، و ناظرة إلى تعيين الوظيفة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 18

..........

______________________________

في ظرف الجهل و الشك في الواقع- و هذا حال الاجتهاد.

الثالث: الاستناد في أفعاله و تروكه الى قول الغير و نظره الذي علم حجيته- و لو بحكم العقل الارتكازى- و هذا هو التقليد.

الرابع: الإتيان بكل ما يحتمل وجوبه و ترك ما يحتمل حرمته و هذا هو الاحتياط.

وجوه حكم العقل بلزوم التعرض و بيان الفرق بينها

فظهر ان القيام بحكم العقل بدفع ضرر العقاب المحتمل بالنسبة إلى التكاليف المعلومة إجمالا في الشريعة المقدسة في غير الضروريات و القطعيات، اما بالاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط، فلا بد و ان يكون المكلف الملتفت اما مجتهدا أو مقلدا، أو محتاطا.

و قريب من قاعدة نفى الضرر ما يقال في مدرك ذلك: من ان حكم العقل بذلك من باب قانون العبودية و المولوية بلحاظ ان في مخالفة المولى خروجا عن رسم العبودية و يصير بذلك ظالما لمولاه و العقل مستقل بقبحه.

و بعبارة اخرى ان العقل بعد ثبوت المبدء و إرسال الرسل و تشريع الشريعة، و بعد عدم كون العبد مهملا يدرك و يذعن بان عدم التعرض لامتثال أوامره، و الانزجار عن نواهيه خروج عن زي الرقيّة و رسم العبودية، و هو ظلم يستحق بذلك الذم و المؤاخذة من قبل مولاه فلا بد له من التعرض

لها و ذلك بأحد الأمور المذكورة و لا يخفى ان نطاق دائرة هذا الوجه أضيق من نطاق دائرة دفع الضرر لان هذا مخصوص بمحيط العقلاء و أرباب العقول بخلاف القاعدة فإنها تعم سائر الحيوانات و قد يقرر وجوب التعرض للاحكام المعلومة إجمالا بالأمور المذكورة بمناط حكم العقل بوجوب شكر المنعم بلحاظ ان في ترك التعرض بما ذكر ترك لشكر المنعم على الإطلاق، و هو قبيح عقلا و يكون معرضا لزوال النعمة و نزول النقمة، و العقل كما يحكم بدفع الضرر فكذلك يحكم بوجوب شكر المنعم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 19

..........

______________________________

ربما يناقش في ذلك: بان حكم العقل بذلك ان كان بلحاظ ان ترك شكر المنعم مظنة زوال النعمة و نزول النقمة فيدخل تحت قاعدة نفى الضرر المحتمل فليست قاعدة مستقلة، و الا فليس للعقل حكم إلزامي بمناط وجوب شكر المنعم.

و على تقدير وجوب شكر المنعم فإنما هو في الجملة لعدم ما يدل على وجوب كل ما هو شكر للمنعم و بالنسبة إلى كل منعم فلا ينفع الاستدلال به.

و لكن يجاب بان ترك شكر المنعم و ان كان معرضا لزوال النعمة الا ان حكم العقل بقبحه ليس لدخوله تحت قاعدة نفي الضرر المحتمل بل هو مما يستقل به العقل و يرى ان ترك شكر المنعم الذي أعطاه أنواع النعم و المواهب بنفسه قبيح مستنكر خصوصا إذا كان في تركه الشكر، كفران النعمة فتدبر.

و العقل و ان كان لا يحكم بوجوب كل ما هو شكر للمنعم و انما يحكم بحسنه الا ان المقام من باب ما يجب فيه الشكر، و ذلك لان المكلف إذا رأى نعم اللّه الظاهرة و مواهبه الباطنة غير

المحدودة على شخص، يخضح له و يحكم عقله بلزوم شكره تعالى بل يرى ان ترك شكره تعالى يؤدى الى كفران النعمة. و من الواضح ان قيام العبد بوظائف العبودية من أعظم مصاديق شكر المنعم. و قد أشرنا ان ذلك لا يخلو عن واحد من الثلاثة فتدبر و اغتنم.

و ان شئت مزيد توضيح فنقول فرق بين المناطين فان مناط حكم العقل بدفع الضرر فطري جبلي ليس مختصا بالعقلاء و ذوي الألباب بل يعم سائر الحيوانات ضرورة ان الحيوان مهما أمكن يدفع عن نفسه الضرر الذي احسّه أو احتمله.

و لم يكن حكم العقل هذا مبنيا على مسئلة التحسين و التقبيح العقليين بخلاف مناط حكم العقل بوجوب شكر المنعم فإنه غير فطري و يكون مختصا بذوي العقول، و مبنيا على مسئلة التحسين و التقبيح العقليين.

فعلى هذا لا وجه لإرجاع حكم العقل بلزوم شكر المنعم الى حكمه بلزوم دفع الضرر بدعوى انه ليس همّ العقل الا التحذر و الاتقاء عن ضرر المخالفة و العقوبات

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 20

..........

______________________________

المترتبة عليها، و ذلك لما أشرنا من اختلاف المناطين جهة و موردا.

و مجرد انتهاء حكم العقل بوجوب شكر المنعم بنحو الى حكم العقل بدفع الضرر بلحاظ ان ترك شكر المنعم يمكن ان يؤدى الى الضرر لا يوجب ان يكون حكم العقل فيهما بملاك واحد.

المراد بالحكم العقلي الفطري

كما ان حكم العقل بامتناع اجتماع الضدين برأسه في عرض حكم العقل بامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما و ان أمكن إرجاعه إليه بنحو بلحاظ ان وجود أحد الضدين ان لم يمتنع اجتماعه مع الضد الأخر- إذا كانا ضدين لا ثالث لهما- فلا بد و ان يجتمع مع عدمه فيلزم اجتماع

النقيضين فتدبر.

ثم انه لا يخفى ان المراد بالفطرى هنا هو الذي جبّل عليه الإنسان بل سائر الحيوانات و ليس معناه ما اصطلح عليه في المعقول و لعله واضح لا يحتاج الى البيان.

و من العجيب مناقشة المحقق الأصفهاني (قدس سره) في ذلك حيث قال: ان الفطري المصطلح عليه في فنه هي القضية التي قياسها معها ككون الأربعة زوجا، لانقسامها الى متساويين و ما هو الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نورا و كمالا للعاقلة في قبال الجهل لا لزوم التقليد عند الشارع و العقلاء، و لا نفس رفع الجهل بعلم العالم، و الفطري بمعنى الجبلة و الطبع هو شوق النفس الى كمال ذاتها، أو كمال قواها لا لزوم التقليد «1».

و حاصل الإيراد هو ان الفطري هي القضية التي تكون قياسها معها و لا يحتاج الى النظر و الاستدلال كزوجية الأربعة و واضح ان حكم العقل المزبور ليس كذلك.

و أنت خبير بأنه خروج عن طور البحث و مناقشة في الاصطلاح و لا شبهة في ان حكم العقل بلزوم رفع المضار الأخروية، أو المضار المهمة الدنيوية كتلف النفس، أو الأطراف مما جبّل عليه الإنسان بل كل حيوان فتدبر.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 21

..........

______________________________

و بالجملة ما افاده جمود على الاصطلاح الدارج عند أرباب المعقول، و تكلف و تعسف غير وجيه في إدخال مصطلحاتهم في العلوم المبتنية على الأفهام الساذجة العرفية غير المشوبة بالاصطلاحات. بداهة ان المراد بالفطرى هنا معناه العرفي، و هو الجبلي الارتكازي، ضرورة أن الاتقاء من الضرر ارتكازي لكل ذي شعور و درك من سائر الحيوانات فضلا عن الإنسان، فالمراد بالفطرى هنا قبال حكم العقل بالنسبة

إلى شكر المنعم غير المبنى على التحسين و التقبيح العقليين.

عدم اختصاص حكم العقل بصورة العلم الإجمالي

و لا يخفى ان حكم العقل بلزوم الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط ليس مخصوصا بما إذا كان للمكلف علم إجمالي بوجود تكاليف إلزامية. بل تعم حتى بعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بجملة منها بالاجتهاد، أو التقليد لما تقرر في محله:

من عدم جريان الأصل النافي للتكليف في الشبهات الحكمية بل مطلقا و لو في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، فمجرد احتمال التكليف الإلزامي يكفي في تنجزه و لا يصح له مخالفته إلا إذا كان هناك مؤمّن عقلي فتدبر.

فظهر بما ذكرنا ان حكم العقل بتنجز الأحكام الواقعية على كل مكلف: اما للعلم الإجمالي بها، أو لاحتمالها فيلزم الخروج عن عهدتها اما بالاجتهاد، أو التقليد أو الاحتياط.

ليست الأمور الثلاثة في عرض واحد موردا للتخيير

اشارة

ثم ان الاجتهاد و التقليد و الاحتياط ليست في عرض واحد موردا للتخيير لكل مكلف.

ضرورة أن العامي الفاقد لملكة الاجتهاد لا يمكنه الاجتهاد كما ان من اجتهد و عرف حكم المسئلة لا معنى لان يتعبد بنظر الغير- سواء كانت فتوى الغير مخالفة لما اجتهد أو موافقا- و ذلك واضح.

نعم الواجد لملكة الاستنباط إذا لم يستنبط فعلا ففي جواز تقليده للغير كلام فعن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 22

..........

______________________________

جملة من الأصحاب عدم جواز التقليد له بل يجب عليه الاجتهاد أو العمل بالاحتياط، و عن بعض التأمل في ذلك، و عن ثالث جواز التقليد له، و سنتعرض ما هو الحق عندنا فارتقب حتى حين.

و اما الاحتياط فهو في عرضهما بمعنى ان كلا من المجتهد و العامي مخير في أداء الوظيفة بين العمل بالاحتياط و بين الاجتهاد أو التقليد، و ان كانت كيفية احتياطهما متفاوتة لأن شأن العامي العارف بموارد الاحتياط هو الاحتياط في خصوص الفتاوى، و اما من

له ملكة الاجتهاد فيحتاط فيها و في غيرها كما ستتضح الحال عن قريب

توهم عدم كون الاحتياط في عرض الاجتهاد و التقليد و دفعه

ربما يتوهم ان الاحتياط في غير العبادات و فيها إذا لم يستلزم تكرار جملة العمل و ان كان حسنا و يحرز به الواقع ضرورة انه إذا شك في اعتبار تعدد الغسل في حصول طهارة الثوب المتنجس بالبول مثلا يجوز له الاحتياط بتكرر الغسل الى ان يحصل له العلم بالطهارة، و كذا إذا شك في وجوب السورة في الصلاة يجوز قراءتها من غير فرق بين صورة التمكن من العلم الوجداني بالحكم أو العلم التعبدي به أولا، و لا خلاف و لا إشكال في ذلك.

الا انه لا يكاد يحرز الواقع بالاحتياط في العبادات إذا استلزم تكرار جملة العمل مع التمكن من الامتثال التفصيلي و ذلك لأنه من المحتمل اعتبار قصد الوجه أو التمييز، أو الجزم بالنية في المأمور به، فيقدم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي، و لذا يحكى عن المشهور كما سيجي ء بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد.

فحينئذ كيف يحرز الواقع بالاحتياط فلا يكون الاحتياط في عرض الاجتهاد و التقليد بقول مطلق.

و لكنه يدفع أولا: بما سيجي ء في ذيل المسئلة الثانية من عدم اعتبار قصد الوجه في المأمور به و عدم اعتبار الجزم بالنية، و عدم تقدم الامتثال التفصيلي على الإجمالي و ثانيا: بأنه لو سلم ذلك فغاية ما يقتضيه هي المناقشة في الصغرى و هو عدم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 23

..........

______________________________

تحقق الاحتياط في العبادات مطلقا، أو فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل، و الكلام في جوازه انما هو بعد إمكانه، فمهما أمكن إحراز المأمور به بنحو من الأنحاء و إتيانه بجميع المحتملات فلعل جوازه

من الأحكام التي قياساتها معها لأنه مما يقطع جواز الامتثال به.

توهم عدم كون الاجتهاد و التقليد في عرض الاحتياط و دفعه

و لعله لذا ربما يتوهم بان المتمكن من الاحتياط ليس له الامتثال بالاجتهاد أو التقليد بل هما في طول الامتثال به لعدم كونهما موجبين للقطع بالامتثال و انما يوجبان الظن به، و معلوم ان الامتثال القطعي مهما أمكن يقدم على الظني منه.

و ان كان فيه ما فيه لأنه كما قرر في محله انه بعد قيام الدليل على اعتبار أمارة ظنية لا يرى العقل فرقا بين الامتثالين كما لا يخفى.

مضافا إلى ان إيجاب الاحتياط موجب للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة بل ربما يوجبان اختلال النظام و هو منهي عنه فيها.

فتحصل انه لا ينبغي الإشكال في جواز الاحتياط في الجملة و انه في عرض الاجتهاد و التقليد في الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة في الشريعة المقدسة، و لا فرق في ذلك بين العامي العارف بموازين الاحتياط و العالم بها.

نعم فرق بينهما من حيث ان شأن العامي الاحتياط بالنسبة إلى خصوص الفتاوى الموجودة لكون وظيفته الأخذ بفتاويهم، و اما العالم فيحتاط فيها و في غيرها فتدبر.

و من لطيف ما في المقام ما عن كشف الغطاء:

«ان للناس بطريق الاحتياط و طريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى و الأحكام و يسهل الخطب على من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد».

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 24

المراد من التخيير بين الأمور الثلاثة

______________________________

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تعلم ان مراد المصنف (قدس سره) بقوله يجب على كل مكلف إلخ: ان المكلف في مقام الأمن من العقاب و فراغ الذمة عما اشتغلت به لا يخلو غالبا عن واحد من الأمور الثلاثة لا انه يجب على كل واحد من المكلفين على ما هم عليه من الاختلاف، التخيير العقلي بأحد الأمور الثلاثة.

مورد التخيير بين الأمور الثلاثة

ثم لا يخفى: ان مورد التخيير بين الأمور الثلاثة في غير اليقينيات و الضروريات لما سيجي ء منه في المسئلة السادسة.

و ذلك لأنه إذا حصل للمكلف علم بالواقع فلا مجال للتعبد بالأمارة- سواء كانت فتوى الغير أو غيرها من الأمارات- بل و لا التعبد بالأصل أيضا ضرورة اختصاص حجية الأمارة أو الأصل بمن جهل الواقع و شك فيه، و من حصل العلم به لا معنى للتعبد لا بالمعلوم لأنه تحصيل للحاصل بوجه بشيع و لا بخلافه.

فلا فرق بين الامارة و الأصل الأمن حيث أخذ الشك موردا في باب الأمارات و موضوعا في باب الأصول، و مع العلم لا مورد للأول كما لا موضوع للثاني.

فظهر انه فيما إذا حصل العلم الوجداني لا مجال للاجتهاد و التقليد بل و لا الاحتياط.

المراد من اصطلاح العبادات و المعاملات

ثم ان المراد بالعبادة العمل الذي يعتبر فيه قصد القربة و يقابله المعاملة و هي ما لا يعتبر فيها ذلك و ان كان دخيلا في كماله فتعم المعاملة كل فعل أو ترك صادر من المكلف و ان لم تكن معاملة بالمعنى الأخص (و هي ما تتقوم بالطرفين).

و ذلك لان المعاملة تطلق تارة و يراد بها ما تقابل العبادة فتعم السياسيات و العاديات و ذلك عند ما تذكر المعاملة وحدها قبال العبادة كما في تقسيم الفقه أحيانا إلى العبادات و المعاملات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 25

..........

______________________________

و قد تطلق و يراد منها خصوص ما تتقوم بالطرفين فلا تشمل السياسيات و العاديات و ذلك عند تقسيم الفقه أحيانا إلى العبادات و المعاملات و السياسيات.

و قد جرت اصطلاحهم ذلك في معنى المعاملة في كلماتهم كما حكى التنصيص بذلك عن صاحب الجواهر (قدس سره).

فاذا المراد بالمعاملة

عند تثنية أبواب الفقه الى العبادات و المعاملات كما في المتن غير المراد بها عند تثليث أبوابها إلى العبادات و المعاملات و السياسيات فالمعاملة المذكورة في المتن حيث وقعت قبال العبادة تعم جميع أفعال المكلف و تروكه غير المتوقفة على قصد القربة: سواء كان مما يتقوم بإنشاء الطرفين و هي المعاملة بالمعنى الأخص، أو بإنشاء طرف واحد كالطلاق و العنق و غيرهما و هي المعاملة بالمعنى الأخص على وجه، أو عادياتها و سياسياتها.

فما علق على المتن بإضافة: بل كل أفعاله و تروكه مستدرك و لعله غفلة عما يطلق عليه لفظة المعاملة أحيانا حسبما اصطلحوا عليه.

و كيف كان كما سيجي ء منه (قدس سره) في ذيل مسئلة 29 انه يجب تعلم كل فعل يصدر من المكلف سواء كان من العباديات أو المعاملات أو العاديات فتدبر.

حكم العقل بلزوم أحد الأمور الثلاثة في جميع أفعاله و تروكه

و الوجه في تعميم الحكم بالنسبة إلى تمام أفعال المكلف و تروكها عباديا كان أو غيرها هو جريان الوجوه الثلاثة المتقدمة. فكما يحكم عقله في العباديات بعدم جواز خلو المكلف عن أحد الثلاثة فكذلك في سائر أفعاله و تروكه فآكل شي ء أو شاربه، أو الماشي الى حاجة لا يجوز له ان يحوم حوله الا مع تحصيل المؤمّن.

نعم لو جزم في مورد بالجواز و لكن لم يعلم انه مباح، أو مستحب، أو مكروه فلا حاجة الى التقليد، أو الاجتهاد، أو الاحتياط الا ان يريد إتيان العمل بعنوانه بأن يأتي العمل بعنوان الاستحباب فلا بد له من التقليد أو الاجتهاد و الا فلو لم يستند إليهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 26

..........

______________________________

لكان الإتيان بذلك العنوان من التشريع المحرم.

فتحصل ان عدم جواز خلو المكلف عن أحد الأمور الثلاثة سار

في جميع أفعاله و تروكه عباديا كانت أو غيرها في خصوص ما احتمل هناك حكما إلزاميا فتدبر.

التسامح في تفسير عبارة المتن بتطبيق العمل على أحدها

ثم انه قد يقال في تفسير عبارة المتن. انه يجب ان يعمل على طبق الاجتهاد أو التقليد، أو الاحتياط. و لعله لا يخلو عن مسامحة و لذا أورد عليه بان الاحتياط عنوان لنفس العمل لا ما ينطبق عليه العمل، و كذا التقليد: ان قلنا بأنه تطبيق العمل على رأى المجتهد كما هو الحق فلا يقابل الاحتياط و التقليد: الاجتهاد الذي ينطبق على العمل هذا و لكن الأمر سهل بعد معلومية المراد.

التخيير بين الأمور الثلاثة بحكم العقل لا بالتقليد

ثم انه قد عرفت: ان التعرض للاحكام بأحد الأمور الثلاثة انما هو بحكم العقل فلا مورد للتقليد حتى الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات: كغسل الثوب المتنجس بالماء مرتين لو شك في اعتبار التعدد فهو أيضا مما يستقل به عقل كل ذي لب.

نعم جواز الاحتياط بالمعنى المتعارف في بعض الموارد لا بد و ان ينتهي إلى الاجتهاد أو التقليد لاحتمال اعتبار قصد الوجه و التمييز في المأتي به العبادي و اعتبار الجزم في النية، فيهما و في المعاملي بالمعنى الأخص، أو اعتبار تقدم الامتثال التفصيلي مهما أمكن.

فقد ظهر لك ان تعرض الأحكام الشرعية يكون بأحد الأمور الثلاث: اما ان يأتي بها حسب اجتهاده و استفراغه الوسع بمعرفتها، أو يستند بمن يكون قوله حجة بحسب ارتكازه، أو يحتاط و يأتي بجميع ما يحتمل دخالته فيه، أو يترك جميع ما احتمل زجره، و هذا إجمالا مما لا ينبغي الإشكال فيه.

و لكن ربما يقع الإشكال في مشروعية الاجتهاد بالمعنى المتعارف في الخارج بين الأصحاب، و كذا في مشروعية التقليد حسبما هو المعروف بين أبناء المتشرعة، بل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 27

..........

______________________________

في مشروعية الاحتياط في كل مسئلة مسئلة مطلقا- و ان استلزم

تكرار جملة العمل، أو كان العمل عباديا- فلا بد من عطف النظر الى بيان مشروعية الأمور الثلاثة ببيان واف غير مخل و لا ممل.

[تذييل في مباحث الاجتهاد]

اشارة

و حيث ان المصنف (قدس سره) لم يتعرض لبحث الاجتهاد و فروعه لعدم ابتلاء العوام به و الكتاب رسالة عملية فلا بأس بالإشارة إلى معنى الاجتهاد و بعض المباحث المتعلقة به لشدة ما يبحث عنه في المقام في طيّ مباحث. و نحيل البحث عن الاحتياط و التقليد عند تعرض المصنف لهما إن شاء اللّه تعالى فنقول و باللّه نستعين:

البحث الأول في معنى الاجتهاد لغة و اصطلاحا
اشارة

الاجتهاد: لغة إما مأخوذ من الجهد (بالضم) بمعنى الطاقة، أو مأخوذ من الجهد (بالفتح) بمعنى المشقة، أو الطاقة فمعنى الاجتهاد بذل الطاقة و الوسع، أو طلب المشقة و تحملها. و المعنيان متلازمان لان بذل الطاقة و الوسع لا يخلو عن مشقة.

تعاريف الاجتهاد الاصطلاحي

و في الاصطلاح عرّف بتعاريف.

منها: ما عن الحاجبي و العلامة: أنه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي.

و منها: انه استنباط الحكم الشرعي عن أدلته التفصيلية.

و منها: انه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

و منها: انه تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.

و منها: انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة من الفعل.

و كيف كان نوقش في التعريف الأول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 28

..........

______________________________

أولا: بعدم استقامته على مسلك الإمامية لعدم اعتبار الظن بما هو عندهم حتى عند القائلين بحجية الظن المطلق عند الانسداد لأن حجية الظن عند ذلك بما هو حجة عند الشرع أو العقل على تقدير الكشف أو الحكومة لا بما هو ظن كما لا يخفى.

و ذلك لما تقرر في محله من عدم حجية الظن في حد نفسه عند أصحابنا بل صرحوا بعدم جواز الاتكال عليه في شي ء من الأحكام الشرعية. بل و لا في موضوع من موضوعاته إلا في موارد نادرة كالظن بالقبلة، و انما الواجب لديهم تحصيل العلم بالحكم الواقعي أو بالحجة شرعا- سواء كانت ظنا أو غيره كما هو الشأن في موارد الأمارات و الأصول المعتبرة شرعا- فكما يكون المجتهد عند العلم الوجداني مأمونا من العقاب فكذلك عند قيام الطرق و الأصول المعتبرة شرعا يكون مأمونا من العقاب و ان لم يكن عند ذلك جازما بالحكم الواقعي.

فهل يحصل

للاخبارى بمجرد قيام خبر واحد يكون ظاهره وجوب شي ء، أو حرمته القطع بالحكم الواقعي بأن يصير عالما بصدوره عن المعصوم عليه السّلام و يحصل له القطع بان ظاهره مقصودا له عليه السّلام بحيث لم يسق لبيان غيره تقية أو غيرها.

حاشا الخبير الفطن الواقف بكيفية صدور الاخبار عنهم عليهم السّلام و كيفية جمعها في الجوامع الأولية ثم منها الى الجوامع المتأخرة: عن التفوه بذلك.

بل لا بد عند قيام الخبر الواحد في مورد و استنباط الحكم منه من تمامية أصل الصدور، و الدلالة و جهة الصدور. و قد قرر في محله حجية الخبر الواحد ببناء العقلاء الممضى شرعا، و بعد إثبات حجية صدور الخبر الواحد تصل النوبة إلى دلالته و مقتضى الأصل العقلائي هو ان ظاهره مراد كما هو الشأن في كل كلام صادر عن المتكلم، و بعد تمامية دلالة الخبر تصل النوبة الى ان ما هو الظاهر منه سيق لبيان الحكم الواقعي لا للتقية و نحوها.

فاذا تمت الجهات الثلاثة فيتم الاحتجاج بالخبر على ان يكون مفاده حكم اللّه تعالى. و انى للاخبارى؟! و القطع بحكم اللّه تعالى بمجرد العثور على الخبر. نعم يكون حجة عليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 29

مناقشة الاخبارى انما هي على تعريف الاجتهاد لا على المجتهدين

______________________________

و لعل منشأ طعن الاخبارى على جواز العمل بالاجتهاد للمجتهد نفسه، و للعامي في تقليده، بلحاظ أخذ الظن في تعريف الاجتهاد و قد عرفت حاله، و قلنا ان فقهاء الإمامية لا يقولون بحجية الظن ما لم يرد من الشرع دليل على اعتباره فطعن الاخبارى في الحقيقة انما هو على تعريف الاجتهاد لا على المجتهدين فتدبر.

فلو بدلنا كلمة الظن بالحكم، بالحجة عليه لوقع التصالح بين الفريقين ضرورة أن الاخبارى لا ينكر

جواز العمل بما قطع بحجيته و بما هو الوظيفة الفعلية من قبل الشارع كما لا ينكر أصل رجوع الجاهل الى العالم.

فعلى ما ذكرنا يصبح النزاع في جواز العمل بالاجتهاد و عدمه نزاعا لفظيا و يكون النزاع بين الفريقين في حجية بعض الأمارات أو الأصول. نظير اختلاف الأخباريين فيما بينهم في بعض المسائل، كاختلاف الأصوليين فيما بينهم في بعض أخر. و واضح ان هذا النحو من الاختلاف أجنبي عن مسئلة جواز العمل بالاجتهاد كما لا يخفى.

و ثانيا: انه لا يتم هذا التعريف على مسلك العامة أيضا لعدم انحصار الدليل عندهم بالظن فيكون تعريف الاجتهاد بالتعريف المذكور تعريفا بالأخص.

فالتعريف الأول للاجتهاد مزيّف عند الفريقين و لذا قال المحقق الخراساني (قدس سره): الاولى تبديل الظن بالحكم الشرعي بالحجة عليه.

تعريف المعنى المقبول من الاجتهاد

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا في التعريف الأول للاجتهاد يظهر لك حال سائر التعاريف و إمكان إرجاع بعضها الى بعض.

نعم في تعريف الاجتهاد بالقوة و الملكة نحو خفاء بلحاظ انه بهذا المعنى لا يكون موضوعا لحكم من الأحكام الشرعية المترتبة على عنوان الفقيه، أو الناظر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 30

..........

______________________________

في الحلال و الحرام، أو العارف بالأحكام، أو الراوي لحديث أهل البيت عليهم السّلام، و نحو ذلك من العناوين الدالة على فعلية الاستنباط الا ان يرجع بنحو إليها.

فعلى هذا فالاوثق بالاعتبار و الأسلم عن النقاش تعريف الاجتهاد بأنه عبارة عن تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أو الحجة على الوظيفة في مقام العمل.

و ان شئت قلت انه عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

المبحث الثاني في مشروعية الاجتهاد و موقفه من حيث الوجوب الكفائي أو العيني
اشارة

لا ينبغي الإشكال في مشروعية الاجتهاد و تحصيل الحجة على الحكم الشرعي عند كل من اعترف بالشريعة المقدسة ضرورة ان معرفة الأحكام الشرعية ليست من الأمور البديهية بل لا بد في معرفتها من تحمل عناء شديد و تعب اكيد خصوصا في مثل اعصارنا.

فمن بذل وسعه لتحصيل الحكم الشرعي و أتعب نفسه في الوصول اليه ففحص فحصا اكيدا من مظانه الى ان علم بالحكم وجدانا أو قامت لديه احدى الحجج و الأمارات العقلائية الممضاة شرعا فلا سبيل الى ردعه عن اتّباعه و لعله ضروري يكفى تصوره للتصديق به من دون تجشّم اى دليل لأنه عالم بالحكم حقيقة أو حكما.

مع انه يمكن الاستدلال لمشروعية الاجتهاد بقيام السيرة على فتوى الرواة و غيرهم من العالمين بالأحكام حتى في عصر الأئمة عليهم السّلام من غير ردع عنها، بل ورد الأمر بالإفتاء عنهم لمثل ابان بن تغلب، و زرارة بن

أعين لما سنشير إليه، فإنه لو لا جواز الاجتهاد في نفسه لما صح إرجاع الغير اليه و ذلك واضح إلى النهاية، فالحري بالبحث و هو الذي وقع الكلام فيه هو بيان:

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 31

موقف الاجتهاد من جهة كونه واجبا عينيا أو كفائيا

______________________________

ينسب الى بعض قدماء الأصحاب و فقهاء حلب: ان الاجتهاد واجب عيني على كل مكلف فأوجبوا على العوام الاستدلال كما لغيرهم، و لكن اكتفوا فيهم بمعرفة الإجماع الحاصل من كلمات العلماء عند الحاجة الى الواقع، أو النصوص الظاهرة، أو الأصل في المنافع الإباحة، و في المضار الحرمة عند فقد نص قاطع في متنه و دلالته.

و قريب من هذا الكلام ما عن بعض من حرم التقليد فقال: بأنه يجب على العامي الرجوع الى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب و السنة فان ساعد لغته على معرفة مدلولها فبها و الا ترجم له معانيها بالمرادف من لغته و إيكال فهمها اليه.

و إذا كانت الأدلة متعارضة ذكر له المتعارضان و ينبهه على طريق التوفيق بينهما بحمل المنسوخ على الناسخ، و العام على الخاص، و المطلق على المقيد، و الظاهر على الأظهر و الصريح، و مع تعذر الجمع يذكر اخبار العلاج، و لو احتاج في مقام الترجيح الى حال الراوي ذكر له حاله.

و لا يخفى ما فيه أولا: لعدم حصول معرفة الأحكام الشرعية بنحو ذلك في غالب الأحكام كما لا يخفى على الفطن الخبير بل لا بد من الفحص الأكيد و تحمل المشاق الشديدة في ذلك، لان الاجتهاد و استخراج الأحكام الشرعية عن مظانه خصوصا في أمثال زماننا صار من العلوم الشاقة و المعارف الصعبة بحيث لا يكاد يناله الا من كان مستعدا و ترك

المشاغل و الحرف و افرغ نفسه له ليلا و نهارا.

و واضح ان إيجاب ذلك لكل مكلف موجب للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة المقدسة بل يوجب تعطيل الأسواق و ابتلاء الناس بمحنة شديدة و بلية عظيمة فإيجاب الاجتهاد لكل واحد مقتضاه اختلال نظام المجتمع و هو غير جائز.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 32

..........

______________________________

و ثانيا: ان القول بعينية الاجتهاد لازم القول بحرمة التقليد و عدم تمكن الاحتياط، و قد أشرنا إلى قيام السيرة على إفتاء الرواة و غيرهم حتى في عصر الأئمة عليهم السّلام بل ورد الأمر بالإفتاء لمثل ابان، و زرارة، و نظائرهما فلو كان الاجتهاد واجبا عينيا على كل مكلف لما كان للإفتاء مفهوما محصلا، بل لما كان لأمرهم صلوات اللّه عليهم بالإفتاء لمثل ابان، و زرارة، وجها، مع انه سيجي ء مشروعية الاجتهاد.

و ثالثا: ان لازم القول بتعيّن الاجتهاد لكل واحد لغويّة إطلاق أخبار التقليد التي سنتعرض لها.

و رابعا: ان ذلك مخالف لآية النفر كما قيل: و هي قوله تعالى:

مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1».

تقريب الدلالة هو ان الآية الشريفة دلت على عدم وجوب التفقه في الدين لكل واحد من المؤمنين بل كل طائفة من كل فرقة مأمورة بالتفقه و معرفة الأحكام الشرعية و تبليغها للجاهلين، فالآية الشريفة ظاهرة على كون تحصيل الأحكام الشرعية واجبا كفائيا.

و يؤيد ذلك الأخبار الواردة في تفسير الآية الشريفة لاحظ الوسائل يأبى 8- 11 من أبواب صفات القاضي، و غيره.

و لكن الاستدلال بالاية لوجوب الاجتهاد و معرفة الأحكام عن مداركها لا يخلو عن تأمل

كما سيظهر لك عند التعرض للاستدلال بها لموقف التقليد فارتقب حتى حين.

______________________________

(1) سورة التوبة 9/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 33

المشهور على كون الاجتهاد واجبا نفسيا كفائيا و الدليل عليه

______________________________

قد يقال: ان الاجتهاد واجب نفسي كفائي و قد ينسب ذلك الى المشهور بين أصحابنا فيعاقب جميع المكلفين عند تركهم الاجتهاد، و باجتهاد طائفة منهم يسقط الوجوب عن البقية. يحكى ذلك عن السيد في الذريعة، و الشيخ في العدة، و المحقق في المعارج، و العلامة في جملة من كتبه، و فخر المحققين في الإيضاح، و شرح المبادي، و الشهيد في الذكرى و غيرها، و الشهيد الثاني في المقاصد العلية، و المحقق الثاني في الجعفرية و غيرهم (قدس اللّه أسرارهم).

يستدل لمقالهم باية النفر بالتقريب المتقدم أنفا، و بما ورد في بعض الاخبار في تفسير الآية الشريفة.

منها: ما عن الصدوق ره في معاني الاخبار، و العلل عن عبد المؤمن الأنصاري قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ان قوما يروون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

اختلاف أمتي رحمة فقال صدقوا فقلت ان كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب فقال ليس حيث تذهب و ذهبوا انما أراد قول اللّه عز و جل:

فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1».

فأمرهم أن ينفروا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيتعلموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم، انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين اللّه انما الدين واحد انما الدين واحد «2».

و منها: ما عن الصدوق في عيون اخبار الرضا و العلل عن فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في حديث انما أمروا بالحج لعلة الوفادة

الى اللّه عز و جل، و طلب الزيادة و الخروج من كل ما اقترف العبد، الى ان قال: مع ما فيه من التفقه و نقل أخبار الأئمة عليهم السّلام الى كل صقع و ناحية، كما قال اللّه عز و جل.

______________________________

(1) التوبة 9: 122.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 34

..........

______________________________

فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

و لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ «1».

و منها ما عن الكافي عن على بن حمزة قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي ان اللّه يقول في كتابه.

لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «2»

بيان بعض الأساطين بكون الاجتهاد واجبا نفسيا كفائيا بلحاظ رجوع الغير اليه

و لكن تحقيق الحال في ذلك كما افاده بعض الأساطين دام ظله هو القول بوجوب الاجتهاد نفسيا كفائيا تعينيّا بلحاظ رجوع الغير إليه لأن في ترك تعلم الأحكام الشرعية و إهمالها اضمحلالا للشريعة المقدسة، و من المعلوم ضرورة لزوم حفظها عن الانطماس و الاندراس و التحفظ على أحكام الدين من أعلى مراتب الحفظ لأنه إذا ترك استنباط الأحكام و معرفتها في كل عصر فلا سبيل الى تحصيلها الا بالتقليد من العلماء الأموات، أو الاحتياط، و سيجي ء عدم جواز تقليد الميت ابتداء، و الاحتياط بين ما لا يمكن تحققه له- لدوران الأمر بين المحذورين، أو لجهله بكيفيته- و بين إيجابه العسر و الحرج بل اختلال النظام، مع ان جواز الاحتياط في بعض الموارد يتوقف على الاجتهاد، فيجب الاجتهاد وجوبا كفائيا صيانة للاحكام عن الاندراس و احتفاظا على الشريعة

المقدسة عن الاضمحلال «3».

موقف تحصيل الاجتهاد في عمل الإنسان نفسه

و اما تحصيل الاجتهاد في عمل الإنسان نفسه فقد عرفت ان الاجتهاد الذي هو

______________________________

(1) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 65.

(2) تفسير نور الثقلين ج 1/ 284.

(3) التنقيح ج 1/ 65.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 35

..........

______________________________

عديل الاحتياط و التقليد واجب عقلي طريقي تخييري تارة، و تعييني اخرى، اما الأول ففيما امكنه الاحتياط و لو في الجملة، أو كان في الأحياء من يجوز تقليده.

و اما الثاني ففيما لا يمكنه الاحتياط اما لدوران الأمر بين المحذورين أو لإيجابه اختلال النظام، أو لجهله بكيفيته، أو لا يكون في الأحياء من يجوز تقليده و لم نقل بجواز تقليد الميت ابتداء كما هو الحق. فعند ذلك ينحصر طريق امتثال الأحكام بالاجتهاد، فوجوب الاجتهاد عند ذلك عقلي من باب حكم العقل بلزوم الإطاعة.

الأقوال في وجوب التعلم
اشارة

و اما وجوبه الشرعي من باب وجوب التعلم فاختلف فيه و الأقوال فيه ثلاثة.

أحدها: ما نسب الى المحقق الأردبيلي و تلميذه صاحب المدارك و وافقهما جملة من المتأخرين من وجوبه النفسي و استحقاق العقاب على نفس ترك التعلم و لذا ذهبوا الى استحقاق تارك التعلم للعقاب مطلقا: سواء صادف عمله للواقع أم لا و الثاني: ما نسب الى المشهور من وجوبه الطريقي و لذا لم يوجبوا العقاب الأعلى مخالفة الواقع.

الثالث: ما يظهر من المحقق النائيني (قدس سره) من استحقاق العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع فقال (قدس سره) ان الفرق بين هذا و سابقه هو ان استحقاق في الأخير يكون على نفس ترك التعلم عند مخالفة العمل للواقع و في سابقه يكون على نفس مخالفة الواقع لا على ترك التعلم.

و الظاهر ان البحث بين أرباب القولين الأخيرين

علمي لا يترتب عليه أثر عملي

دليل كون التعلم واجبا نفسيا
اشارة

يستدل للقول الأول بقوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «1»

______________________________

(1) النحل: 16/ 43. الأنبياء: 21/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 36

..........

______________________________

و ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: ان طلب العلم فريضة على كل مسلم «1» فاطلبوا العلم من مظانه و اقتبسوه من أهله فإن تعليمه للّه حسنة، و طلبه عبادة، و المذاكرة له تسبيح، و العمل به جهاد، و تعليمه من لا يعلمه صدقة، و بذله لأهله قربة الى تعالى لأنه معالم الحلال و الحرام، و منار سبل الجنة و المونس في الوحشة، و الصاحب في الغربة و الوحدة، و المحدث في الخلوة و الدليل على السراء و الضراء، و السلاح على الأعداء، و الزين عند الإخلاء الخبر «2».

و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله تعلموا العلم فان تعليمه حسنة «3».

و عن ابى عبد اللّه عليه السّلام: طلب العلم فريضة من فرائض اللّه «4».

و عن ابى جعفر عليه السّلام: ما من عبد يغدو في طلب العلم و يروح الّا خاض الرحمة خوضا «5».

و عن المحاسن عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال لا يسع الناس حتى يسئلوا أو يتفقهوا «6» و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أف لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة يوما يتفقه فيه أمر دينه و يسئل عن دينه «7».

و عن على عليه السّلام في كلام له: لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم ان يتعلم «8».

الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في وجوب التعلم و ترتب الثواب على نفس التعلم، و اللوم، و المؤاخذة على نفس ترك التعلم.

______________________________

(1)

و في غوالي اللئالي ج 4: 70 عنه (ص)، طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة، و فيه قال (ع)، اطلبوا العلم و لو بالصين.

(2) بحار الأنوار ج 1/ 171.

(3) بحار الأنوار ج 1/ 171.

(4) بحار الأنوار ج 1/ 172.

(5) بحار الأنوار ج 1/ 144.

(6) بحار الأنوار ج 1/ 176.

(7) بحار الأنوار ج 1/ 176.

(8) بحار الأنوار ج 1/ 176.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 37

تزييف القول بنفسية وجوب التعلم

______________________________

و لكن نوقش فيها: بأنه لا يستفاد منها الوجوب النفسي و غاية ما يستفاد منها الوجوب الطريقي للعمل بقرينة ما ورد في بعض الاخبار «1» ان العبد يؤتى به يوم القيمة فيقال له هلا عملت؟ فيقول ما علمت. فيقال له: هلا تعلمت؟!، فترى ان السؤال أولا هو عن العمل لا عن التعلم، و الا كان اللازم سؤال العبد أولا عن التعلم بان يقال هلا تعلمت.

و واضح ان المستتبع للعقاب انما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي «2».

دليل كون التعلم واجبا طريقيا و تزييفه

و يستدل للقول الثاني: بأنه و ان كان ظاهر الآية الشريفة و الاخبار لزوم التعلم الا انه لا يكون لإيجاب التعلم شأنية النفسية و الاستقلالية، بل الغرض من إيجاب التعلم مجرد الوصول إلى الأحكام و العمل على طبقها من دون ان يكون للتعلم جهة موجبة لحسنها الذاتي المستتبع للخطاب النفسي بل الخطاب المتعلق به يكون لمحض الطريقية فيكون وجوبه للغير لا نفسيا و لا بالغير.

و بالجملة هذه الاخبار إرشاد إلى حكم العقل من لزوم السؤال و التعلم لتمامية الحجة على العبد على فرض ورود البيان من المولى فلا يستفاد منها الوجوب النفسي و لا النفسي التهيئى لان مفادها تابع لحكم المرشد اليه و هو حاكم بعدم وجوبه نفسيا و لكن في النفس فيما أفيد شي ء: لأن الغاية القصوى من التعلم و الوصول إلى معرفة الأحكام و ان كان العمل على طبقها الا انه لا ينافي مطلوبية التعلم أيضا بلحاظ ترغيب

______________________________

(1) يعنى بذلك خبر مسعدة بن زياد الذي نذكره قريبا و نشير الى ضعف ما استظهره دام ظله.

(2) التنقيح ج 1/ 16- 295.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 38

..........

______________________________

الاخبار في تحصيل

العلم و جعل الثواب، و الأجر على نفس التعلم، و اللوم، و التوبيخ على ترك التعلم، فيمكن ان يقال بوجوب معرفة الأحكام الشرعية المبتلى بها وجوبا نفسيا تهيئيا.

و بما ذكرنا يمكن التوفيق بين كون التعلم واجبا نفسيا و بين كون الغاية القصوى من التعلم العمل بها.

و لا ينافي ما ذكرنا خبر مسعدة بن زياد فإن السؤال فيه أولا عن التعلم ثم عن العمل على عكس ما استظهره بعض الأساطين (دام ظله) و إليك نص الخبر ليتضح الحال فعن أمالي الشيخ عن المفيد (قدس سرهما) عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام و قد سئل عن قوله تبارك و تعالى:

فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ «1».

قال إذا كان يوم القيمة قال اللّه تعالى للعبد: أ كنت عالما؟ فان قال نعم. قال:

ا فلا عملت بما علمت؟، و ان قال كنت جاهلا قال له: ا فلا تعلمت.

فتلك الحجة البالغة للّه تعالى «2».

دليل كون التعلم واجبا نفسيا تهيئيا و تزيفه

حكى عن المحقق النائيني (قدس سره) انه استدل لمقالة: بأن العقاب على ترك الفحص و التعلم ينافي وجوبه الطريقي الذي لا نفسية له، و لا يجوز على ترك الواقع للجهل به فلا بد و ان يكون العقاب لترك الفحص المؤدي إلى ترك الواقع.

نوقش أولا: بأنه إذا كان ترك الواقع مما لا عقاب له للجهل به. و ترك التعلم و الفحص مما لا عقاب له أيضا. لكون وجوبه طريقيا فكيف يصح العقاب على ترك الفحص، أو التعلم المؤدي إلى ترك الواقع.

و ثانيا: ان إنكار صحة العقاب على ترك الواقع قبل الفحص و التعلم غير وجيه بعد تمامية بيان الحكم الواقعي حسبما هو المتعارف.

______________________________

(1) إنعام: 6/ 149.

(2) بحار الأنوار ج 2/ 29- 181.

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 39

..........

______________________________

و ثالثا: بأنه يمتنع ان ينقلب الحكم الطريقي إلى النفسي فإذا كان وجوب الفحص، أو التعلم طريقيا فكيف يصير نفسيا عند أدائه على ترك الواقع؟!.

و لكن قد عرفت مما ذكرنا في ذيل القول الثاني صحة كون التعلم مطلوبا نفسيا في عرض العمل بالأحكام، و ان كانت الغاية القصوى من التعلم العمل.

فتحصل مما ذكرنا مشروعية أصل الاجتهاد و وجوبه الكفائي النفسي بلحاظ رجوع الغير اليه تحفظا على أحكام الدين من الانطماس و الاندراس، بل مطلوبية معرفة الأحكام المبتلى بها، و وجوبها النفسي التهيئى بالأعم من الاجتهادي أو التقليدي و اللّه العالم.

المبحث الثالث في وجوب عمل المجتهد برأيه و حرمة الرجوع الى الغير
اشارة

لا خلاف و لا إشكال في ان من اجتهد و استنبط الحكم الشرعي أو الوظيفة المقررة من الأدلة على الموازين المعهودة يصح له العمل بما استنبط و ذلك واضح، و لا يصح له العدول عن رأيه و الرجوع الى رأي الغير و أخذ فتواه لأنه حسب الفرض عالم بالحكم أو الوظيفة و لا دليل على رجوع العالم الى مثله بل يكون ذلك من باب تحصيل الحاصل بنحو هيّن ان استند الى ما يكون موافقا لرأيه و من باب رجوع العالم الى الجاهل ان استند الى ما يخالف اعتقاده.

و بالجملة من استنبط حكما شرعيا أو وظيفة مقررة على الموازين المقررة لا تكون فتوى الغير نافذا في حقه و لا يجوز تقليده، بل اللازم عليه اتباع نظر نفسه و ما استنبطه لعدم شمول أدلة حجية الفتوى في حقه لكونه حسب الفرض عالما بالحكم و الوظيفة و من أهل الذكر، و منذرا، و عارفا بالحلال و الحرام، الى غير ذلك من العناوين المأخوذة في أدلة اعتبار الفتوى، فالأدلة متطابقة على عدم صحة

المراجعة إلى الغير و عدم حجية فتواه بالنسبة اليه و قد أشرنا ان الرجوع الى الغير في المفروض أهون أنحاء تحصيل الحاصل على وجه بل رجوع العالم الى الجاهل على وجه آخر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 40

..........

______________________________

و هذا هو القدر المتيقن من عدم جواز تقليد الغير و عدم حجية الفتوى في حق الغير و هذا معنى ما يقال: انه يحرم عليه تقليد الغير.

حكم من وجد ملكة الاجتهاد و لم يجتهد بعد

و اما إذا اجتهد و بذل وسعه و لكن لم يتمكن من معرفة الحكم و الجزم بالوظيفة بل توقف في المسئلة لعدم تمامية الدليل على أحد الطرفين عنده فهل يجوز له المراجعة إلى المجتهد الجازم بأحدهما أم لا؟.

فنقول ان المتوقف تارة يكون محيطا بالوجه أو الوجوه التي استند إليها المجتهد الجازم و مزيّفا له فلا يجوز له الرجوع إليه أيضا لأنه من باب رجوع الجاهل الى جاهل مثله فتكون وظيفته و الحال هذه التوقف و الاحتياط في المسئلة.

و اما ان لم يكن محيطا بما استند اليه الأخر و احتمل استناده الى وجه أو وجوه لم يطلع هو عليه فهل يجوز له المراجعة إليه أم لا؟ وجهان.

يظهر من بعض الأساطين دام ظله عدم الجواز مدعيا انصراف أدلة مشروعية التقليد عن مثل هذا الشخص الذي يصدق عليه انه من أهل الذكر، و الفقيه، و غيرها من العناوين «1».

و لكن لا يبعد ان يقال بجوازه لأنه و ان كان واجدا للقوة و ذا ملكة الّا انه حسب الفرض لم يهتد وجه الحكم و لم يعرف مغزاه و هو و الحال هذه جاهل بالوظيفة و الحكم المقرر، و فرق واضح بين هذه الصورة و الصورة المتقدمة لأنه في تلك الصورة

و ان كان متوقفا في المسئلة الّا انه يرى خطأ المجتهد الجازم فيكون المراجعة إليه أشبه شي ء بمراجعة الجاهل الى جاهل مثله، و اما في هذه الصورة فحيث انه يحتمل و يترقب ان يكون الجازم متكئا و مستندا في فتواه الى وجه أو وجوه لم يطلع و لم يقف عليها نفسه فلا يكون من ذاك الباب. فالمتوقف في المسئلة في الحقيقة لم يكن من أهل الذكر و لم يكن فقيها و عارفا بالحكم.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 41

..........

______________________________

و ان كان مع ذلك في خاطرك شكا فيما ذكرنا فإياك و ان تشك في بناء العقلاء و سيرتهم على المراجعة في مثل ذلك فتدبر.

و اما من كان له قوة قريبة من الاستنباط بحيث لم تكن له حالة منتظرة لاستنباط الحكم و الوظيفة الا تعلله، و تساهله، في المراجعة إلى المدارك فهل يجوز له تقليد الغير عند ذلك أو لا يجوز له ذلك بل يجب عليه الاجتهاد و استنباط الحكم أو الوظيفة من مدركه أو الاحتياط؟ وجهان بل قولان.

قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) المعروف عندنا العدم بل لم ينقل الجواز عن أحد منّا و انما حكى ذلك عن مخالفينا نعم اختار الجواز بعض سادة مشايخنا في مناهله «1».

أدلة جواز تقليد من كان له قوة قريبة من الاستنباط

ربما يستدل للجواز بوجوه.

الأول: ان مجرد من وجد الملكة لا يوجب انطباق عنوان العالم، و الفقيه، و العارف بالأحكام، الى غير ذلك من العناوين عليه. و هو بعد، كقبل الاستنباط غير عالم بالحكم الفعلي و غير فقيه و غير عارف و هكذا سائر العناوين فتشمله الأدلة الدالة على المراجعة الى أحد العناوين.

و بالجملة الاجتهاد بالقوة و الملكة ليس بعلم

فعلىّ بالحكم و الوظيفة بل صاحبها جاهل بهما بالفعل فيرجع الى العالم بهما بالفعل.

الثاني: استمرار السيرة من زمن الأئمة إلى زماننا على الرجوع الى فتوى الغير مع التمكن من الاجتهاد، مع لزوم الحرج على واجد الملكة لو لزم عليه تحصيل معرفة جميع المسائل التي يبتلى بها، و لذا ترى العلماء كثيرا ما يتركون الاجتهاد إذا احتاجوا الى بعض المسائل و يختارون ما هو المشهور بين الفقهاء، أو ما هو

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 54.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 42

..........

______________________________

المبنى على المباني القوية و لم يتحملوا صعوبة الاجتهاد فيه.

الثالث: بناء العقلاء على رجوع الأطباء بعضهم الى بعض أحيانا و كذا رجوع بعض أرباب الحرف و الصنائع الى الأخر و هذا شاهد صدق لجواز الرجوع و الركون الى رأي الغير مع وجود القوة و الملكة.

الرابع: مقايسة صاحب الملكة بمن ليست له ملكة الاجتهاد بالفعل فكما لا يجب تحصيل الاجتهاد للمستعد لتحصيلها و لو بالاشتغال بالدراسة سنين متمادية فكذلك واجد الملكة.

الخامس: ان قبل الوصول إلى مرتبة الاجتهاد كان يجوز له الرجوع الى الغير و العمل بفتواه و بعد حصول القوة و عدم الاستنباط الفعلي لو شك في جوازه فيستصحب.

تزييف أدلة الجواز

و لكن نوقش في الوجوه المذكورة.

اما الوجه الأول: فحاصل ما افاده الشيخ (قدس سره) في الرسالة في رده هو انصراف إطلاقات الأدلة- على تقدير دلالتها على مشروعية التقليد- عمن له ملكة الاجتهاد و لم يستنبط بعد و اختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بها.

و حاصل ما افاده (قدس سره) بتوضيح منا: هو ان المأمور به بسؤال أهل الذكر في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ- على تقدير كونه من أدلة الباب- هو غير أهل

الذكر و من لا يتمكن من تحصيل العلم بغير السؤال فيختص بالعاجز عن الاجتهاد.

و بالجملة يستفاد منه ان المأمور بالسؤال من لا يرتفع جهله الا بالسؤال عن أهل الذكر و هو ليس الا العاجز عن الاجتهاد لوضوح ان الواجد للملكة يمكن رفع جهله بالمراجعة إلى الكتاب و السنة.

و اما آية النفر فإنها تنفع المستدل للمقام ان قلنا بدلالتها على حجية الخبر و الفتوى أو باختصاصها بحجية الفتوى.

فعلى الأول نقول انه ليس في الآية تعرض لتفصيل من يجب إنذاره بالإفتاء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 43

..........

______________________________

و من يجب إنذاره بالأخبار لأن الإطلاق مسوق لبيان حكم آخر و هو وجوب الانذار عليهم و وجوب الحذر على المنذرين، و اما وظيفة المنذرين في الحذر، و ان حذر بعضهم بالأخبار و بعضهم بالفتوى فليست الآية مسوقة له.

و على الثاني فالظاهر من جعل الانذار بالفتوى غاية للتفقه، أو النفر، عجز المنذرين (بالفتح) عن التفقه و لو بالرجوع الى اخبار المنذرين فيختص بالعاجز عن الاجتهاد و اما قوله عجل اللّه فرجه: و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم. فان دل على جواز المراجعة إلى فتوى المجتهد فالمجتهد من الرواة فهو مأمور بالرجوع اليه لا بالرجوع الى غيره، و ان دل الرجوع الى رواياتهم كان دليلا على المنع لا على الجواز و يجب على كل أحد حينئذ العمل بالروايات خرج العاجز عن ذلك «1».

و سيجي ء حال الأدلة التي يستدل بها للمقام و غيرها، و عمدة المستند بل لعل المستند الوحيد في المقام هو بناه العقلاء في رجوع الجاهل في كل أمر من الأمور المحتاج إليها إلى العالم بها سواء كانت راجعة

إلى الأنفس، أو الأموال أو غيرها، و لعله في الجملة غير قابل للإنكار.

و لكن موضوع بناء العقلاء ظاهرا هو الجاهل الذي لا يتمكن من تحصيل الطريق الى الواقع فعلا- اى من لم يقدر على تحصيل أمر الى من حصله- لا مثل هذا الشخص الذي تكون الطرق و الأمارات إلى الواقع و الى وظائفه موجودة لدية و لم يكن الفاصل بينه و بين العلم بوظائفه و تكاليفه الا النظر و الرجوع الى الكتب المعدة لذلك. فالواجب عليه عقلا اما الاجتهاد و بذل الوسع في تحصيل مطلوبات الشرع و ما يحتاج إليه في اعمال نفسه، و الاحتياط.

و بالجملة بنائهم استقر على رجوع من لا يقدر على تحصيل أمر الى من حصله و اما من له قوة تحصيل ذلك الأمر و يمكنه تحصيل ذلك و لا حجاب بينه و بين الوصول

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 56.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 44

..........

______________________________

الى ذلك الأمر إلّا التعلل و التساهل فبنائهم مستقر على عدم المراجعة.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بنائهم على الرجوع و مقتضى قاعدة الاشتغال تحصيل المؤمّن اليقيني في مقام الفراغ، و الرجوع في مثل واجد الملكة إلى الغير، مؤمّن احتمالي.

و بالجملة الأحكام الواقعية قد تنجزت على من له ملكة الاجتهاد فلا بد له من اليقين بالخروج عن عهدة التكاليف المنجزة في حقه و لا يكاد يحصل له ذلك بتقليده للغير لعدم الجزم بالامتثال بذلك لاحتمال ان لا يكون فتوى الغير حجة في حقه بل لا بد له من تحصيلها اما بالعلم الوجداني أو بقيام الحجج و الأمارات عليها أو الاحتياط هذا ما يتعلق بالجواب عن الوجه الأول.

و اما الوجه

الثاني: فهو ملئتم من أمرين.

اما بالنسبة إلى ثبوت السيرة فقال الشيخ (قدس سره) في الرسالة فبالمنع من ثبوتها في ذلك، زمن الأئمة عليهم السّلام، و لعلهم عند ذلك يحتاطون في المسئلة «1».

و اما لزوم الحرج ان وجب عليه الاجتهاد أو الاحتياط فغير وجيه لان الواجب الاجتهاد في المسائل المحتاج إليها غالبا تدريجا الأهم فالأهم نظير ما يجب على العامي التقليد فيه، و اما المسائل التي تتفق أحيانا فاما يحتاط فيه- و ان قام دليل على عدم وجوب الاحتياط- أو يقلد فيه إذا لم يتيسر له الاجتهاد لاشتغاله بالاجتهاد في الأهم منه، أو لاشتغاله لأمر أخر أهم منه، و كذلك إذا لم يتمكن من الاجتهاد في المسئلة لعدم الأسباب أو لوجود المانع.

و اما الوجه الثالث: فأفاد أستادنا العلامة المحقق الخمينى (دام ظله) بوجود الفرق بين المقام و موارد النقض من جهتين.

الجهة الاولى: عدم وجود الاختلاف في موارد النقض أصلا و لو كان، فإنما هو في غاية القلة بحيث يلحق بالعدم و لذا تريهم في موارد تحقق الاختلاف الكثير

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 58.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 45

..........

______________________________

لا يكاد يراجعون فيها أيضا، و اما في المقام و باب الأحكام فما من مسئلة الا و فيها اختلاف شديد بين الأعلام بل بين آراء فقيه واحد في كتب متعددة بل في أبواب من كتاب واحد.

الجهة الثانية: ان غير باب الأحكام راجع الى الأمور الدنيوية الراجعة إلى الأموال و نحوها و هي قابلة للغمض و التجاوز غالبا لأنه تجاوز و إغماض عن حق نفسه و اما باب الأحكام فإنه باب الاحتجاج بين المولى الحقيقي و العبد الذليل و الأمر فيه ينتهي إلى الرضوان، و

النعيم الأبدي. أو الى النيران، و الجحيم الدائمي، و هما بمثابة من الأهمية غير قابلة للإغماض فلا بد هنا من أحد أمرين اما الاجتهاد أو الاحتياط و واضح ان رجوع من له ملكة الاستنباط الى غيره غير معلوم العذرية.

و بالجملة الفطرة، و الوجدان، أصدق شاهدين على انه لو عرض المقام، و استنباط الأحكام الشرعية، بما لها من الاختلاف في الفتاوى بجميع ما فيه من الآثار، و التبعات على العقلاء- بحيث يتضح لهم محيط الفقه و الفقاهة و آثارها- لترى عدم بنائهم على المراجعة و لا أقل من الشك في المراجعة، و في كلتى الصورتين لا موقف للرجوع الى الغير «1».

و اما الوجه الرابع: فهو قياس مع الفارق ضرورة أن المستعد لتحصيل ملكة الاجتهاد جاهل حقيقة و غير متمكن من معرفة الحكم فلا وجه لحرمة التقليد عليه و إيجاب الاجتهاد عليه بعد ما تقدم من كون الاجتهاد واجبا كفائيا و المفروض وجود من به الكفاية في الخارج، و هذا بخلاف واجد الملكة، فإن تحصيل الاجتهاد، و استخراج الحكم و الوظيفة في حقه بمكان من الإمكان، و من القريب جدا وجوب الاجتهاد عليه تعيينا لو لم يتمكن من الاحتياط.

و اما الوجه الخامس: ففيه انه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع و اتحاد

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد. تقريرنا لبحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الاجتهاد و التقليد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 46

..........

______________________________

القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا و موضوع صحة التقليد انما هو العاجز عن الاحتياط و مع طرو قوة الاستنباط و ملكة الاجتهاد نقطع بارتفاع الموضوع و يكون من باب إسراء حكم لموضوع الى

موضوع أخر.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع في المفروض بعد احتمال ان يكون الموضوع من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد لا مطلق من لم يعرف الحكم أصلا.

مع انه أخص من المدعى فلا يكاد يجرى فيما إذا بلغ الصبي مجتهدا.

فتحصل مما ذكرنا بطوله عدم تمامية الوجوه التي استدل بها لجواز التقليد لمن يكون واجدا لملكة الاجتهاد، و قد عرفت من الشيخ (قدس سره) ذهاب المشهور الى عدم جواز تقليده بل عدم نقل الجواز من أحد منا غير السيد، صاحب المناهل.

مع عموم الأدلة الدالة على وجوب الرجوع الى الكتاب و السنة في معرفة الأحكام خرج منها خصوص العاجز عن معرفتها فواجد الملكة، مأمور بالمراجعة إليها و لو شك في خروجه عن ذلك فمقتضى الأصل أيضا العدم.

و للمحقق الأصفهاني (قدس سره) في رسالة الاجتهاد و التقليد ص 4 بيان يؤكد المرام فمن شاء فليراجع.

و لا فرق فيما ذكرنا بين من كان له قوة استنباط جميع الأحكام المعبر عنه بالمجتهد المطلق و استنبط جملة منها، أو من كان له قوة استنباط بعض الأحكام المعبر عنه بالمتجزى- على تقدير إمكانه كما هو الحق- و لكنه لم يستنبط بعد لوحدة الملاك.

فظهر ان من له قوة استنباط الأحكام عن مداركها و لو في الجملة و بالنسبة إلى بعضها، لا يجوز له الرجوع الى الغير و تقليده فيما يقدر عليه و اما فيما لا يقدر على استنباطه فهو و من لا يقدر على الاستنباط أصلا سيان في الجواز.

هذا كله إذا أحرز القدرة المذكورة و اما لو أحرز عدمها و لو بالاستصحاب الموضوعي الخارجي، أو شك في إحراز القدرة فيصح المراجعة إلى الغير و تقليده.

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 47

المبحث الرابع في شرائط الاجتهاد و الإفتاء
اشارة

______________________________

يتوقف استنباط الأحكام و تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري لعمل نفسه و الإفتاء به للغير بالطرق المتعارفة لدى الأصحاب على مقدمات و مبادي كثيرة، و هي بين ما يكون راجعا الى حصول قوة الاستنباط و ما يكون راجعا الى عمل نفسه و الإفتاء به.

توقف الاجتهاد على معرفة العلوم العربية و مقدارها

منها: الاطلاع على العلوم العربية و معرفة مفرداتها بمقدار ما يحتاج إليه في فهم الكتاب العزيز، و الاخبار الصادرة عن الرسول الأعظم، و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين: من تعلم معاني اللغات، و أوضاع المفردات، و معاني الهيئات، و الجمل التركيبية، و خصوصيات كلام العرب لدى المحاورات: من الاستعارات، و الكنايات، التشبيهات، و غيرها من الخصوصيات التي يختص بالكتاب و السنة، فكثيرا ما يقع المتدرّب في خلاف الواقع لأجل القصور في فهم معاني مفردات الألفاظ و خصوصيات كلام العرب لدى المحاورات. فلا بد له من التدبر في محاورات أهل اللسان، و معرفة معاني اللغات و سائر العلوم العربية.

لكن بمقدار ما يحتاج إليها في معرفتهما من دون ان يتوغّل فيها لان التوغل فيها و صرف العمر للنيل بدقائقها ربما يوجب حرمان الشخص عن الوصول الى مدارج رفيع الاجتهاد بل يصير أديبا مقلدا.

توقف الاجتهاد على الانس بالمحاورات العرفية

و منها: الانس بالمحاورات العرفية و فهم الموضوعات الدارجة بينهم و الاحتراز عن خلط دقائق العلوم الفلسفية و العقليات الدقيقة في المعاني العرفية السوقية الدارجة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 48

..........

______________________________

فإنه كثيرا ما يقع الخطاء لأجله في فهم معاني الكتاب و السنة و قد وقع كثير من المشتغلين بل الأعاظم في خلاف الواقع من جهة خلط الاصطلاحات الرائجة في العلوم العقلية، و القواعد العقلية، بالمعاني العرفية الرائجة بين أهل المحاورة المبني عليها الكتاب و السنة.

توقف الاجتهاد على تعلم المسائل المنطقية و مقداره

و منها: تعلم مسائل المنطقية بمقدار معرفة تشخيص الأقيسة المنتجة منها عن العقيمة مثل اعتبار كلية الكبرى و كون الصغرى موجبه في الشكل الأول، و ترتيب الحدود و المباحث الرائجة منه في نوع المحادرات لئلا يغلط في نفسه، و يغالط الأخر و اما الغور في تفاصيل الشرطيات، و الاقترانيات، و المختلطات، و أشباهها فلا، لعدم ارتباط كثير منها في معرفة الكتاب، و السنة، و الاستدلالات الفقهية، بل ربما يوجب الاختلال فيها كما لا يخفى.

توقف الاجتهاد على معرفة علم الكلام و مقدارها

و منها: معرفة علم الكلام بمقدار لا يكون مقلدا في مثل مسئلة الحسن و القبح العقليين و ما يتوقف عليه حجية قول المعصوم- النبي الأعظم و الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين- و تقريره، و فعله، و نحوها.

و لا يخفى ان معرفة هذا المقدار من المسائل الكلامية بلحاظ مقدميتها للاجتهاد و الا فعلى ذمة المسائل الكلامية جل الأمور الاعتقادية و المعارف الحقة و لم يكن علم أشرف من علم الكلام كيف لا؟! و هو يبحث عن أشرف الأشياء بما يجوز عليه و يمتنع و ما يرتبط به فيما يتعلق برسله و ولاة امره و الأمور الراجعة إلى النشأة الآخرة.

توقف الاجتهاد على معرفة الكتاب و مقدارها

و منها: معرفة الكتاب العزيز بمقدار ما يتوقف فيه معرفة ألفاظ آيات الأحكام و لو بالمراجعة إليها حال الاستنباط و الفحص عن معانيها لغة و عرفا و تمييز الناسخ منها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 49

..........

______________________________

عن المنسوخ و المحكم عن المتشابه، و المجمل عن المبين، و ملاحظة شأن نزول الآيات المباركات و كيفية استدلالات الأئمة المعصومين عليهم السّلام بها.

توقف الاجتهاد على الانس الكامل بمذاق أئمة أهل البيت (ع)

و منها: التتبع التام في الاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و الأنس الكامل بمذاقهم فإنه رحى الاستنباط في عامة الأعصار، و به يسهل تمييز الحق عن الباطل و لا يصعب عليه فهم مرادات الشارع الأقدس، و لا شبهة في ان الممارسة فيها يوجب قوة امتياز ما هو الصادر عنهم عن غيرهم، و ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما هو الصادر عنهم تقية، و قد حكى ان زرارة بن أعين الواقف بمذاق أئمة أهل البيت عليهم السّلام قال لمن جاء بخبر عن المعصوم عليه السّلام: أعطاه من جراب النورة. إشارة الى ان ما جاء به لم يكن حكما واقعيا.

بل الممارسة فيما صدر عنهم ربما يوجب رفع التعارض في الاخبار لمعرفة لحن مقالهم مع ان غير الخبير و غير الممارس يرى تعارضا بينها.

و لعله الى هذا يشير ما روى عن داود بن فرقد قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب «1».

و ما عن ابى حيون مولى الرضا عن الرضا عليه السّلام قال من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى الى صراط مستقيم ثم قال

عليه السّلام: ان في أخبارنا محكما كمحكم القرآن و متشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها الى محكمها و لا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا «2».

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من صفات القاضي ح 27.

(2) الوسائل باب 9 من صفات القاضي ح 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 50

توقف الاجتهاد على الإحاطة بمهمات مسائل أصول الفقه
اشارة

______________________________

و منها: الإحاطة بمهمات مسائل أصول الفقه مما هي دخيلة في فهم الأحكام الشرعية، و هي العمدة في المقام لأنها المبادي القريبة لاستنباط الأحكام و عليها تدور رحى الاستنباط إذ لو لم تثبت حجية قول الثقة أو لم تثبت صحة العمل بالظواهر أو لم يعلم كيفية الجمع بين الدليلين عند تعارض الأظهر مع الظاهر، أو النص و الظاهر، أو المطلق مع المقيد أو العام مع الخاص، أو المجمل مع المبين، أو لم يعلم الوظيفة عند الشك في أصل الوظيفة، أو مع ثبوته سابقا و الشك في بقائه، أو مع العلم بالوظيفة و الشك في المتعلق الى غير ذلك من المسائل فلا يمكن الاكتفاء على قول الثقة أو الظاهر عند الاستنباط و يصير متحيرا عند فقدان الدليل أو تعارضه فلا بد من تنقيح تلك المسائل و ما يقع في موقفها من البحث عن عموم الألفاظ أو خصوصها مطلقها و مقيدها، و ما يشبهها من البحث في مفاد الأوامر و النواهي من حيث الوجوب و الحرمة الى غير ذلك على نحو الاستدلال حسبما يسوقه الدليل لا على نحو التقليد فهل يسوغ للاخبارى الاستغناء عن تنقيح مثل هذه المباحث مع ان أكثر مدارك هذه المسائل موجودة في الكتاب العزيز و الأخبار الصادرة من أئمة أهل البيت عليهم السّلام و المرتكزات العرفية العقلائية، كما ان بعض المسائل الأصولية

مما يستدل عليه من طريق العقل كاجتماع الأمر و النهى فان مرجع البحث فيها الى لزوم اجتماع الضدين أو النقيضين من القول بالاجتماع الذي أجمع العقلاء، حتى الأخباريين على امتناعه و بالجملة معظم ما يتوقف عليه الاجتهاد، هو حجية خبر الثقة و الظاهر و الأوامر و النواهي و المطلق و المقيد و العام و الخاص، و الأصول العملية من البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب و التعادل و التراجيح و اجتماع الأمر و النهى و غيرها مما هي دارجة في الفقه.

نعم لا بد فيها من الاقتصاد و الاعتدال لا على نحو التفريط الذي ذهب إليه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 51

..........

______________________________

الأخباريون، و لا على الإفراط الذي ابتليت به حوزات العلمية فان كلا منهما انحراف عن جادة الصواب.

اما الأول فلما أشرنا من وضوح توقف استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة على حجية الظواهر و حجية خبر الثقة و حجية الأوامر و النواهي و حجية العام و المطلق و الأصول العلمية من البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب و مباحث التعادل و التراجيح و غيرها.

فطعن الاخبارى على الأصولي بعد اشتراكهما في لزوم معرفة الأحكام الشرعية ناشى ء عن الغفلة و الذهول عن حقيقة الأمر. و الأصولي لسعة اطلاعه بالنسبة إلى الاخبارى يفهم غالبا من الاخبار الصادرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام دقائق و لطائف لا ينالها الاخبارى كما لا يخفى.

و أظن ان إنكار بعض الأخباريين و طعنهم على الأصوليين بلحاظ ما قد يرى في بعض كتب الأصحاب كالسيد المرتضى، و العلامة و غيرهما في كيفية الاستدلال و النقض و الإبرام مما هي شبيهة بما في كتب العامة من

استعمال الاستحسانات و الظنون الاعتبارية و القياس أحيانا و نحوها فظنوا. أن مباني استنباط الأحكام الشرعية عند الأصوليين على ما عليه العامة.

و لكن لم يتفطنوا الى ما هو المراد منهم في ذكر تلك الأمور في كتبهم: لأنهم إنما يستدلون بها بعد إقامة الأدلة الواضحة على طريقة المذهب الصحيح و نهج الحق في المسئلة: إفحاما لمن يذهب الى الاستحسانات و الظنون الاعتبارية بأنه لو كان الملاك و المناط في الاستنباط و استخراج حكم المسئلة تلك الأمور، فهي موجودة فيما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام لا منكم فتأمل.

و يؤيد ما ذكرنا استدلال السيد (قدس سره) أحيانا بمثل أخبار أبي هريرة و ما في صحيحي البخاري و مسلم و نحوهما من مستندات العامة لوضوح ان الاستدلال بها لا ينفعه للعمل، بل وقع منه جدلا لرد الخصم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 52

..........

______________________________

و كذا يرى الاخبارى استدلال الأصولي بالإجماع، فيزعم غير الخبير منهم ان حجية الإجماع لدى أصحابنا الأصوليين بمجرد الاتفاق في الرأي كما يراه العامة.

و لكن لم يتفطن ان ذلك لكشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام بلحاظ انه إذا اتفق أعلام الفرقة المحقة من الصدر إلى الساقة أو أرباب الجوامع الأولية على أمر مع، ما هم عليه من التورع و الاحتياط في الدين، خصوصا إذا كان ما هم عليه على خلاف القاعدة فإنه يكشف كشفا يقينا عادة بوجود مستند معتبر هناك قد خفي علينا بلحاظ وقوع بعض الحوادث المؤسفة كاحتراق مكتبة شيخ الطائفة بكرخ بغداد و فقد بعض جوامع الحديثية كمدينة علم الصدوق و رسالة على بن بابويه الى غير ذلك مما يجدها المتتبع فيؤخذ بما أجمعوا عليه و ان كان

هناك خبر واحد يخالفه لان ما أجمعوا عليه قطعي مما لا ريب فيه. و الخبر ظني فيه الريب حال مقابلته للإجماع مع ان المجمعين هم الذون دونوا هذا الخبر في جوامعهم الحديثية، و من طريقهم وصل إلينا. مع شدة اهتمامهم بما يصدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام فبذلك يحدس اللبيب باختلال أحد أركان الخبر فيحمل على انه لم يصدر لبيان الحكم الواقعي لو تم أصل الصدور.

فظهر ان الإجماع بما هو اتفاق لم يكن حجة عند أصحابنا بل بلحاظ كشفه عن رأى المعصوم حسبما ذكرنا و لا ينبغي الإشكال في حصول الحدس القطعي أو الظن المتاخم بالعلم بقول المعصوم عليه السّلام عند ذلك في الجملة.

نعم ربما يمكن ان لا يحصل ذلك لشخص و لكن هذا خارج عن محط البحث.

فعلى ما بيناه لا يعبد ان يكون القادح و المقدوح فيه كلاهما معذوران.

قدح مقالة الأخباريين في تدوين مسائل أصول الفقه

ربما يتوهم ان تدوين مسائل علم الأصول الفقه في كتاب مستقل من المحدثات المذمومة، و لعله، يعد بدعة حيث لم يعهد ذلك في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام و من قدماء الأصحاب، و نحن في غنى عن كثير من مباحثه لأن الأخبار المأثورة المدونة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 53

..........

______________________________

في كتب الحديثية مقطوعة الصدور.

و لكنه مدفوع لان كل علم إذ أكثر البحث حوله و كثر مباحثه و تشعب فنونه يصير لائقا لان يدون في كتاب مستقل، و لم تكن الأخبار المدونة قطعية الصدور كما سنشير اليه عن قريب، و لو سلم ذلك لا يوجب الغناء عن كثير من المباحث التي أشرنا إلى ثلة منها، و ليس كل مستحدث بدعة غير صحيح كما لا يخفى على ذي مسكة.

هذا

كله بالنسبة إلى جانب التفريط في مسائل علم الأصول.

و اما بالنسبة إلى الإفراط فلان علم الأصول من العلوم الآلية لا الأصلية كما هو واضح فلا بد و ان يكون الباحث فيه عن مسائل يحتاج إليها فيما هو آلة لا مطلقا كأكثر مباحث الألفاظ مثل البحث عن المعاني الحرفية بأدق معانيها، و خصوصيات أبحاث المشتق و نحوها فان التوغل في المسائل الأصولية ربما يوجب انحراف السليقة عن الاستقامة المطلوبة في فهم الكتاب و السنة، كما ان التوغل في العلوم العقلية ربما لا يسلم عن اعوجاج السليقة في معرفة الكتاب و السنة كما لا يخفى.

فظهر ان توهم كون علم أصول الفقه علما برأسه و تحصيله كمال للنفس و صرف العمر في مباحثه غير المحتاج إليها في الفقه. متعذرا بان الاشتغال بتلك المباحث تشحيذ للذهن، و أنس بدقائق الفن، طرف الإفراط، و خير الأمور أوسطها و هو الاشتغال بمعرفة مسائل أصول الفقه، و تنقيحها بمقدار ما يحتاج إليه في استنباط الأحكام الشرعية و ترك فضول مباحثه أو تقليله و صرف همّه و وقته في مباحث علم الفقه، الذي هو قانون المعاش و المعاد و يحتاج إليه في عمله ليلا و نهارا، و يوجب معرفته و العمل به الوصول الى قرب الحق تعالى.

موقف الفحص عن فتاوى الأصحاب في الاجتهاد

و منها: الفحص الكامل عن فتاوى أصحابنا الإمامية و الاعتناء، بفتاويهم و مقالاتهم و طرز استنباطاتهم خصوصا قدمائهم الذين دأبهم الفتوى بمتون الاخبار كالصدوقين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 54

..........

______________________________

في كتبهما، و شيخ الطائفة في بعض كتبه، و من يحذو حذوهم، و من يقرب عصره أعصارهم لأنهم أساطين الفقه و الفقاهة و قريبو عهد بزمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام،

مع كون كثير من الأصول المعتمدة موجودة لديهم، و قرائن الصدق متوفرة لديهم مما لعل كثير منها مفقودة في الأعصار المتأخرة.

فلا بد للطالب المتدرب الاعتناء، بمقالاتهم و فتاويهم لئلا يقع في خلافهم، و يحدث فقه جديد، فربما وقع أو يقع بعض المتوغلين في المباحث الأصولية و العقلية في فتوى، أو فتاو، لا تناسب المذهب، و صدر أو يصدر فتوى أو فتاو شاذة غير اللائقة به، و ليس ذلك الا لعدم الاعتناء بانظار أساطين الفقه و الفقاهة، فربما تكون الشهرة القدمائية مناط الإجماع، فكان أستادنا العلامة الكبير البروجردي (قدس سره) يعتمد على آرائهم، و يرى ان كثيرا من قدماء الأصحاب يذكرون في كتبهم الفقهية أصول المسائل المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام و المتلقاة منهم يدا بيد من دون ان يتصرفوا فيها، أو يذكروا التفريعات المستحدثة، بل كم تجد مسئلة واحدة تذكر في كتبهم بلفظ واحد مأخوذ من متون الأخبار المأثورة بحيث يتخيل الناظر في كتبهم انهم أهملوا الاجتهاد و الاستنباط، بل كان الأواخر منهم يقلدون الأوائل، مع انه ليس كذلك، بل كانوا من أعاظم الفقهاء و المجتهدين، و ليس ذلك منهم إلا لشدة عنايتهم بذكر خصوص ما صدر عنهم عليه السّلام، و ما وصل إليهم بنقل المشايخ، و من ذلك كتب الصدوق كالهداية، و المقنع، و من لا يحضره الفقيه، و رسالة على بن بابويه، و مقنعة المفيد، و رسائل علم الهدى، و نهاية الشيخ، و مراسم سلار، و كافي أبي الصلاح و مهذب ابن براج الى غير ذلك.

و ما ذكره شيخ الطائفة في ابتدأ مبسوطه الذي صنفه في أخريات عمره الشريف أصدق شاهد على ذلك فقال ما ملخصه:

«ان استمرار هذه الطريقة بين أصحابنا

صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 55

..........

______________________________

يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية و ينسبونهم إلى قلة الفروع و المسائل، و يقولون انهم أهل حشو و مناقضة، و ان من ينفى القياس و الاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل، و لا التفريع على الأصول، مع ان جل ما ذكروه من المسائل موجودة في أخبارنا و منصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجية يجري مجرى قول النبي صلّى اللّه عليه و آله اما خصوصا أو عموما، أو تصريحا، أو تلويحا، و اما ما كثروا به كتبهم من الفروع فلا فرع من ذلك الا و له مدخل في أصولنا و يخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس و كنت على قديم الوقت و حديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذالك القواطع، و تضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه، و ترك عنايتهم به لأنهم ألقوا الاخبار و ما رووه من صريح الألفاظ حتى ان مسئلة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لتعجبوا منها و قصر فهمهم عنها.

و كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أصولها من المسائل و لم أتعرض للتفريع على المسائل و لا لتعقيد الأبواب و ترتيب المسائل و تعليقها، و الجمع بين نظائرها بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك، و عملت بأخرة مختصر جمل العقود في العبادات. سلكت فيه طريق الإيجاز و الاختصار و وعدت فيه ان اعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف الى

كتاب النهاية و يجتمع معه، يكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج اليه.

ثم رأيت ان ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه لان الفرع انما يفهمه إذا ضبط الأصل معه فعدلت الى عمل كتاب يشمل على عدد جميع كتب الفقه إلى أخر ما افاده فلاحظ «1».

فكان سيدنا الأستاد (قدس سره) يقول إذا عثرت في مسئلة اطباق القدماء من

______________________________

(1) المبسوط 1/ 2 طبع 1387.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 56

..........

______________________________

أصحابنا على فتوى أو اشتهاره بينهم في تلك الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة و المأثورة، فأحدس بتلقيهم ذلك يدا بيد من قبل أئمة أهل البيت عليهم السّلام و ان لم تجد به نصا في الجوامع التي بأيدينا، و هذا هو الإجماع المعتبر عندنا فالعمل بالإجماع ليس رفضا لقول أئمة أهل البيت عليهم السّلام بل، هو من الطرق القطعية الكاشفة عن أقوالهم، فترى أن سلسلة فقهنا لم تنقطع و لم تحصل فترة بين الفقهاء من أصحابنا و بين الحجج المعصومين كما لا يخفى على من تتبع تاريخ الفقه و الحديث.

و قال (قدس سره) و قد عثرنا في أثناء تتبعنا على مواضع كثيرة يستكشف فيها من فتاوى الأصحاب وجود نص و أصل إليهم من دون ان يكون منه في الجوامع الحديثية التي بأيدينا عين و لا اثر.

و قال فيما قال لعل المتتبع في فقه الشيعة الإمامية يعثر على أكثر من خمسمائة مسئلة افتى فيها المشايخ طرا بفتوى يستكشف بسببها وجود النص فيها مع عدم كونه مذكورا في جوامعهم التي ألقوها لضبط الأحاديث.

و استشهد (قدس سره) لذلك وجود أخبار كثيرة في جامع حديث، مع عدم ذكرها في جامع آخر. و افاده في

وجهه انه لعل ذلك بلحاظ عدم بناء الصدوق، و الكليني و الشيخ (قدس اللّه أسرارهم) على إيداع جميع ما وجدوه في الجوامع الأوّلية بل على نقل خصوص ما كان لهم طريق مسلسل الى رواتها. فقال:

لا ينبغي لأحد ان يرتاب: ان أخبارنا معاشر الإمامية لم تكن مقصورة على ما في الكتب الأربعة بل كان كثير منها موجودة في الجوامع الأولية التي ألفها الطبقة السادسة «1» من أصحابنا كجامع على بن الحكم، و ابن ابى عمير، و أحمد بن ابى نصر البزنطي، و حسن بن على بن فضال، و مشيخة حسن بن محبوب و نظرائهم.

فليكن ما ذكرناه هنا على ذكر منك ينفعك كثيرا في استنباط الأحكام الشرعية

______________________________

(1) يعني أصحاب الرضا (ع).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 57

..........

______________________________

إن شاء اللّه «1».

موقف معرفة فتاوى العامة في الاجتهاد

و منها: معرفة فتاوى العامة الدارجة في أعصار الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم: لوضوح ان في معرفتها دخالة في فهم الأخبار الصادرة عنهم عليه السّلام و تمييز ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما هو الصادر عنهم تقيّة و رفع التعارض في أخبارهم كما لا يخفى على المتدرب الخبير.

موقف تكرر تفريع الفروع في الاجتهاد

و منها: تكرر تفريع الفروع الفقهية على أصولها حتى تحصل قوة الاستنباط و تكمل فيه، فان الاجتهاد و الاستنباط من العلوم العملية التي لا يكاد ينال طالبها الا مع الممارسة العملية كما لا يخفى.

موقف معرفة علم الرجال في الاجتهاد
اشارة

و منها: معرفة علم الرجال.

لا ينبغي الإشكال إجمالا في لزوم معرفة حال ثقاة الرجال الواقعين في اسناد الأخبار الواردة في بيان الأحكام الشرعية و تمييزهم عن غيرهم بحيث يتضح حال سند الخبر من حيث دخوله في القسم المقبول منه، أو المردود منه.

و ذلك لان جملة من الأحكام الشرعية و ان كانت تستفاد من الكتاب العزيز الا انه أقل قليل مع عدم تعرض الآيات المباركات لجزئيات الأحكام، و انما هو متعرض لكلياتها، و جل الأحكام الشرعية تستفاد من الاخبار خصوصا من الاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السّلام.

و لا يخفى انه لا يتم الاستدلال بالخبر الا بعد تمامية أمور:

______________________________

(1) جل ما نقلناه من سماحة استاد العلامة (قدس سره) مقتبس من مواضع من كتاب البدر الزاهر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 58

..........

______________________________

1- أصل الصدور. 2- و دلالته. 3- جهة صدوره.

و مع عدم تمامية هذه الأمور لا يصح الاستدلال بالخبر.

فلو لم يكن مفاد الخبر نصا في مفاده، بل كان ظاهرا فيه، فلا بد من إثبات حجية ظهوره، و قد قرر في علم الأصول حجية الظواهر.

و اما جهة صدور الخبر فلما تقرر في محله ان الأصل العقلائي في كل كلام صادر من كل متكلم و منها الخبر الحاكي عن قول المعصوم عليه السّلام أو فعله، أو تقريره:

ان يكون لبيان ما هو الواقع لا لجهة أخرى فيكون الأصل العقلائي في الخبر ان يكون صادرا لبيان الحكم الواقعي لا لغيره من

تقية أو غيرها.

و اما من حيث الصدور فهو الذي يتكفله علم الرجال فقد وقع الخلاف في الاعتماد على الاخبار الموجودة في الكتب المعروفة بين الأصحاب كالكتب الأربعة و نظرائها من تفسير على بن إبراهيم، و كامل الزيارات، و كتب الصدوق: كمدينة العلم، و عيون اخبار الرضا، و معاني الاخبار و غيرها. و الاحتجاج الى غير ذلك.

انظار الأصحاب في موقف علم الرجال في الاجتهاد

فمنهم: من يعتمد على تلك الاخبار و يعتقد ان كل الأخبار الموجودة فيها أو جلها خصوصا ما في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور.

و قد يظهر من بعضهم ان الاخبار المدونة في الكتب الأربعة مما يطمئن بصدورها لعمل الأصحاب على طبقها و عدم نقاشهم في إسنادها.

قال الفقيه الهمداني (قدس سره): ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتصافها بالصحة المصطلحة و الا فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لو لا البناء على المسامحة في طريقها و العمل بظنون غير ثابتة الحجية، بل المدار على وثاقة الراوي، أو الوثوق بصدور الرواية و ان كانت بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدونة في الكتب الأربعة، أو مأخوذة من الأصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها و عدم اعراضهم عنها، و لا شبهة في ان قول بعض

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 59

..........

______________________________

المزكين بان فلانا ثقة أو غير ذلك من الألفاظ التي اكتفوا بها في تعديل الرواة لا يؤثّر الوثوق أزيد مما يحصل من اخبارهم بكونه من مشايخ الإجازة، و لأجل ما تقدمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حال الرجال و الاكتفاء في توصيف الرواية بالصحة كونها موصوفة بها في السنة مشايخنا المتقدمين الذين تفحصوا عن حالهم اه «1».

و ربما

يظهر من بعضهم: لزوم مراعاة كل من رجال إسناد الاخبار لعدم جبر ضعف السند بعمل الأصحاب على طبقه، و لعدم اعتبار الإجماع المدعى على تصحيح ما يصح عن جماعة من أجلاء الرواة، المعرفين بأصحاب الإجماع.

و لعدم معلومية المراد من معقد الإجماع على تقدير صحة الإجماع و اعتباره بدعوى انه كما يحتمل ان يكون المراد به ان السند إذا كان معتبرا الى أحد تلك الجماعة لم ينظر الى من يقع بعدهم في سلسلة السند من الرواة بل يحكم باعتباره و لو كان بعدهم غير معلوم الحال، فكذلك يحتمل ان يكون المراد به توثيق أصحاب الإجماع في أنفسهم فيكون معناه ان الجماعة المذكورين ثقات و ان كان بعضهم واقفيا أو فطحيا، أو غيرهما من المذاهب الباطلة، فالسند إذا تم من غير ناحيتهم فهو تام من جهتهم أيضا، و بما ان كلا من الأمرين محتمل الإرادة في نفسه فيصبح معقد الإجماع مجملا، فلا يمكن الاعتماد عليه الا في المقدار المتيقن منه و هو الأخير.

و لعدم الاعتماد على مراسيل مثل ابن ابى عمير، و صفوان من يحيى، و أحمد بن ابى نصر البزنطي و غيرهم ممن عرفوا بأنهم لا يرسلون أو لا يرون الا عن ثقة الى غير ذلك من القرائن التي يذكر للوثوق بصدور الرواية.

فعلى هذه الجهات يكون علم الرجال عنده من أهم ما يتوقف عليه رحى الاستنباط و الاجتهاد، إذ به يعرف الثقة عن الضعيف، و به يميز الغث عن السمين و لا مناص له الا من الرجوع الى علم الرجال في معرفة كل واحد من رجال السند

______________________________

(1) صلاة مصباح الفقيه/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 60

..........

______________________________

ليظهر له انه موثوق

به ليؤخذ بخبره أو انه ضعيف لئلا يعتمد على اخباره.

و ربما يظهر من بعضهم الاعتماد على الخبر الضعيف بعمل الأصحاب على طبقة، أو الاعتماد على تصحيح ما يصح عن الجماعة، أو الاعتماد على مراسيل مثل هؤلاء الثلاثة، و لكن إذا كان مورد الاستنباط مشتملا على صنفين من الاخبار قد عمل بكل منهما ثلة من الأصحاب، أو لم يحرز إعراض الأصحاب و لا عملهم على طبق الخبر فيحتاج الى علم الرجال في ترجيح أحد الخبرين على الأخر.

و ربما يظهر من بعضهم الاعتماد ببعض ما ذكرناه دون أخر فيكون احتياجه الى علم الرجال أشد.

الى غير ذلك من الأقوال التي يجدها المتتبع في حالاتهم في الاعتماد الى بعض قرائن التوثيق و عوامل الاعتبار دون آخر.

عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال في العمل بالكتب الأربعة و نظائرها

و بالجملة وقع الأصحاب في حيص و بيص في الاحتياج في استنباط الأحكام الشرعية إلى علم الرجال فمنهم مفرط و منهم مفرط و منهم متوسطات.

و الذي يختلج بالبال و أظنه عليه عمل جل الأصحاب و ان أنكره بعضهم باللسان و لكن قلبه مطمئن به: هو عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال في الاعتماد على الاخبار الموجودة في كتب أصحابنا المعروفة خصوصا الكتب الأربعة.

فوائد علم الرجال

و لا يخفى أن لمعرفة علم الرجال فوائد: و يكون من قرائن صحة النقل، و عوامل التوثيق، لأنه بمعرفته يعرف من نص علماء الرجال على وثاقته مع صحة عقيدته، كما انه يعرف بذلك من نصوا على مدحه و جلالته و ان لم يوثقوه مع كونه من أصحابنا كما يعرف بذلك وثاقته مع فساد مذهبه، كعلي بن الحسن الطاطري الكوفي و غيره،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 61

..........

______________________________

كما يعرف بذلك كون الرجل من أصحاب الإجماع، أو من أصحاب الأصول، أو شيوخ الإجازة، أو الرواية، أو انه يصح الاعتماد بكتابه مع كونه مجهولا، أو ضعيفا كأخبار على بن أبي حمزة البطائني عن الصادق عليه السّلام، و قد يكون الرجل مما وقع الاختلاف على وثاقته و ضعفه الا انه يرجح وثاقته الى غير ذلك.

[تتميم في علم الدراية]
أنحاء الخبر على اصطلاح المتأخرين

و السر في عدم الاحتياج المبرم الى علم الرجال هو ان الذي استقر عليه اصطلاح المتأخرين من الأصحاب من زمن السيد الأجل السيد أحمد بن طاوس المتوفى 673 ه ق استاد العلامة الحلي المتوفى 726 (قدس سرهما) هو تنويع الحديث المعتبر في الجملة إلى الأنواع الثلاثة من الصحيح، و الحسن، و الموثق: بأنه ان كان جميع سلسلة سنده اماميين ممدوحين بالتوثيق فصحيح، و ان كانوا اماميين ممدوحين بدونه كلا أو بعضا فحسن. و ان كانوا بعضا أو كلا غير اماميين مع توثيق الكل فموثق. فالضعيف عندهم ما كان كلا أو بعضا غير اماميين موثقين.

و لكن هذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدماء الأصحاب كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم بل المتعارف فيهم هو إطلاق الصحيح على كل حديث يصح الاعتماد عليه اما في حد نفسه أو بلحاظ احتفافه و

اقترانه بما يوجب الوثوق و الاطمئنان و ان لم يكن راويه عدلا أو ثقة أو حسنا في حد نفسه.

و لقد أجاد صاحب الحدائق في المقام حيث قال:

«لا يخفى على من تتبع السير و الاخبار و طالع الكتب المدونة في تلك الآثار فان المستفاد منها- على وجه لا يكون فيه الشك- انه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم عليهم السّلام الى وقت المحمدين الثلاثة «1» في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة

______________________________

(1) و هم:

1- الشيخ الأجل محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 9- 328 مؤلف كتاب الكافي.

2- و الشيخ الصدوق محمد بن على بن بابويه القمي المتوفى 381 مؤلف كتاب من لا يحضره الفقيه.

3- شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460 جامع كتابي التهذيب و الاستبصار.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 62

..........

______________________________

ضبط الأحاديث و تدوينها في مجالس الأئمة، و المسارعة إلى إثبات ما يسمعونه خوفا من تطرق السهو و النسيان، و عرض ذلك إليهم و قد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلها من اجوبتهم عليهم السّلام و انهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته، و قد روى انه عرض على الصادق عليه السّلام: كتاب عبيد اللّه بن على الحلبي فاستحسنه و صححه «1»، و على العسكري عليه السّلام كتاب يونس بن عبد الرحمن «2» و كتاب فضل بن شاذان «3» فاثنى عليهما، و كانوا عليهم السّلام يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين، و يأمرونهم بمجانبتهم و عرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز

______________________________

(1) عبيد اللّه الحلبي ثقة كوفي صنف كتابا عرضه على الامام الصادق (ع) فاستحسنه و قرضه بقوله: ليس لهؤلاء في الفقه مثله قال شيخنا العلامة

الطهراني في الذريعة ج 16/ 281:

و في رجال البرقي و تبعه في الخلاصة انه أول ما صنف في الفقه، و لكن يظهر من النجاشي ان أول ما كتب في الفقه من الشيعة كتاب ابى رافع و كتاب السنن لأبي رافع اه.

(2) يونس بن عبد الرحمن مولى على بن يقطين كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة، روى عن ابى الحسن موسى، و الرضا عليهما السلام، و كان الرضا عليه السّلام يشير إليه في العلم و الفتيا، و كان ممن بذل له على الوقف مال جزيل و امتنع من أخذه و ثبت على الحق له كتب كثيرة، روى الصدوق عن ابى هاشم الجعفري أنه عرضت على ابى محمد صاحب العسكر عليهما السلام: كتاب يوم و ليلة ليونس فقال لي: تصنيف من هذا؟

فقلت تصنيف يونس مولى ال يقطين فقال أعطاه اللّه بكل حرف نورا يوم القيمة. توفي سنة ثمان و مائتين (208) كذا في مجمع الرجال ج 6/ 307.

(3) فضل بن شاذان كان ثقة أحد أصحابنا الفقهاء، و المتكلمين يقال انه صنف مائة و ثمانين كتابا، كان من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السلام قال أبو محمد عليهما السلام بعد ان تفحص كتاب يوم و ليلة ورقة ورقة قال: هذا صحيح ينبغي ان يعمل به، كذا في مجمع الرجال ج 5/ 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 63

..........

______________________________

و السنة النبوية و ترك ما خالفهما الى آخر ما افاده فلاحظ «1».

يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب أصحابنا الإمامية المعروفة- كالكتب الأربعة و نظائرها- صحيحة باصطلاح القدماء، أمور:

تصريح الكليني بان ما في الكافي من الآثار الصحيحة عن الصادقين

منها: ما قال شيخنا الأجل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 328 أو 329 سنة

تناثر النجوم في طليعة كتابه القيم الكافي الشريف، و إليك نص عبارته.

قد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح «2» أهل دهرنا على الجهالة و توازرهم «3» و سعيهم في عمارة طرقها و مباينتهم العلم و اهله الى ان قال:

و ذكرت أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، و انك تعلم ان اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها، و أسبابها، و انك لا تجد بحضرتك من تذاكره و تفاوضه ممن تثق بعلمه فيها، و قلت انك تحب ان يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفى به المتعلم، و يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين، و العمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام و السنن القائمة التي عليها العمل، و بها يؤدى فرض اللّه عز و جل، و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و قلت: لو كان ذلك رجوت ان يكون ذلك سببا يتدارك اللّه تعالى بمعونته و توفيقه إخواننا و أهل ملتنا و يقبل بهم الى مراشدهم الى ان قال.

و قد يسر اللّه و له الحمد تأليف ما سئلت و أرجو ان يكون بحيث توخيت «4» فمهما كان فيه تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة إذ كانت واجبة لإخواننا و أهل ملتنا مع ما رجونا ان نكون مشاركين لكل من اقتبس منه و عمل بما فيه في دهرنا هذا

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 1/ 9.

(2) اى تصالحهم و توافقهم.

(3) التوازر: التعاون.

(4) اى تحريت و قصدت.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 64

..........

______________________________

و في غابره الى انقضاء الدنيا إذ الرب جل و عز واحد و الرسول

محمد خاتم النبيين صلوات اللّه و سلامه عليه و آله واحد و الشريعة واحدة و حلال محمد حلال و حرامه حرام الى يوم القيمة، و وسعنا قليلا كتاب الحجة و ان لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا ان نبخس «1» حظوظه «2» كلها «3».

و لا يخفى ان ظاهره بل صريحه ان السائل إنما سئل محمد بن يعقوب تأليف كتاب جامع لفنون علم الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام، و محمد بن يعقوب (قدس سره) قد لبّى دعوته بتأليف كتاب الكافي، و ظاهر العبارة التي حكينا بل صريحها انه (قدس سره) كتب الخطبة بعد إتمام الكتاب لقوله: «قد يسر اللّه و له الحمد تأليف ما سئلت»، و قوله «و وسعنا قليلا كتاب الحجة».

و واضح ان ما ذكره شهادة صريحة بعد الفراغ من تأليفه بصحة جميع ما في كتابه و انها من الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام.

و يمكن الاستشهاد بمقاله هذا بصحة أحاديث ما في الكافي بوجوه أشار إليها شيخنا الحر العاملي ره:

وجوه الاستشهاد لصحة أحاديث الكافي

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 64

منها: قوله بالآثار الصحيحة، و معلوم انه لم يذكر فيه قاعدة يميز بها الصحيح عن غيره لو كان فيه غير صحيح، و لم يكن اصطلاح المتأخرين موجودا في زمانه قطعا و لا يمكن انطباقه على ما فيه، فعلم ان كل ما فيه صحيح باصطلاح القدماء بمعنى الثابت عن المعصوم عليه السّلام و لو بالقرائن القطعية و المتواترة.

و منها: وصفه لكتابة هذا بالأوصاف المذكورة البليغة التي يستلزم ثبوت أحاديثه

كما لا يخفى.

______________________________

(1) اى ننتص و نترك.

(2) و الحظوظ جمع كثرة للخط و هو النصيب.

(3) أصول الكافي ج 1/ 5 الى 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 65

..........

______________________________

و منها: ما ذكره من انه صنف الكتاب لازالة حيرة السائل و معلوم انه لو لفق كتابه من الصحيح و غيره و ما ثبت اعتباره من الاخبار و ما لم يثبت لزاد السائل حيرة و اشكالا فعلم أن أحاديثه كلها ثابتة.

و منها: انه ذكر انه لم يقصر في إهداء النصيحة و انه يعتقد وجوبها فكيف لا يرضى بالتقصير في ذلك و يرضى بان يلفق كتابه من الصحيح و الضعيف مع كون القسمين متميزين في زمانه قطعا «1».

قلت: كيف لا و قد نسب النجاشي للكليني (قدس سره) تأليف كتاب الرجال «2».

وجوه التي ذكرها بعض الأساطين لعدم كون جميع ما في الكافي صحيحة و دفعها

الأول قوله دام ظله: ان السائل إنما سئل محمد بن يعقوب تأليف كتاب مشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين سلام الله عليهم و لم يشترط عليه ان لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة، أو ما صح عن غير الصادقين عليهم السّلام، و محمد بن يعقوب قد أعطاه ما سئله فكتب كتابا مشتملا على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام في جميع فنون علم الدين و ان اشتمل كتابه على غير الآثار الصحيحة عنهم عليهم السّلام، أو الصحيحة عن غيرهم أيضا استطرادا و تتميما للفائدة إذ لعل الناظر يستنبط صحة رواية لم تصح عند المؤلف أو لم تثبت صحتها.

ثم ذكر اثنى عشر موردا رواه الكليني في الكافي عن غير المعصومين «3».

و فيه: ان الكليني (قدس سره) صنف الكافي لازالة حيرة السائل و واضح انه لو لفق كتابه من الصحيح و غيره و لم يذكر

فيه قاعدة يميز بها الصحيح عن غيره لزاد السائل حيرة و اشكالا، فيعلم ان أحاديث الكافي كلها بحسب اعتقاده ثابتة عن المعصوم

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 64.

(2) رجال النجاشي ط مصطفوى/ 192.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 101 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 66

..........

______________________________

عليه السّلام و لو بالقرائن.

و أنت خبير بان ذكر موارد نادرة في كتابه العظيم عن بعض الأصحاب مع التصريح بأسمائهم استطرادا و تتميما للفائدة لا ينافي ما وعده و لا يوجب حيرة السائل و اشكاله كما لا يخفى.

و بالجملة و زان ذكر هذه الكلمات عن أصحابنا و لو مع عدم التصريح بأسمائهم- مع انه صرح بأسمائهم- وزان ذكر معاني الألفاظ عن أرباب اللغة فكما لا ينافي ذكر معاني اللغة عن أصحابها كون مجموع الكتاب مرويا عن الصادقين عليهم السّلام فكذلك ذكر تلك الموارد.

مع انه يمكن إرجاع بعض تلك الموارد بوجه الى المعصوم عليه السّلام كما لا يخفى فتدبر.

الثاني: قوله دام ظله انه لو سلم ان محمد بن يعقوب شهد بصحة جميع روايات الكافي فهذه الشهادة غير مسموعة فإنه ان أراد بذلك ان روايات كتابه في نفسها واجدة لشرائط الحجية فهو مقطوع البطلان، لان فيها مرسلات و فيها روايات في إسنادها مجاهيل، و من اشتهر بالوضع و الكذب كأبي البختري و أمثاله. و ان أراد بذلك ان تلك الروايات و ان لم تكن في نفسها حجة الا انه دلت القرائن الخارجية على صحتها و لزوم الاعتماد عليها فهو أمر ممكن في نفسه و لكنه لا يسعنا تصديقه و ترتيب أثار الصحة على تلك الروايات غير الواجدة لشرائط الحجية فإنها كثيرة جدا و من البعيد جدا وجود

امارة الصدق في جميع هذه الموارد.

مضافا الى ان اخبار محمد بن يعقوب بصحة جميع ما في كتابه حينئذ لا يكون شهادة و انما هو اجتهاد استنبطه مما اعتقد انه قرينة على الصدق، و من الممكن ان ما اعتقده قرينة على الصدق لو كان وصل إلينا لم يحصل لنا ظن بالصدق أيضا فضلا عن اليقين «1».

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 103 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 67

..........

______________________________

و فيه: ان الظاهر بل المقطوع أن الكليني (قدس سره) أراد بصحة ما في الكافي الشق الثاني- و هو كون روايات الكافي معتبرات يصح الاعتماد عليها و ان كان بواسطة القرائن- و استبعاده دام ظله غير مسموع كيف؟! و قد ألّفه الكليني طيلة عشرين سنة كما صرح بذلك شيخنا النجاشي في رجاله، و قد كان حيا في زمن سفراء الناحية المقدسة «1».

كلام السيد بن طاوس في موقف الكافي

بل عن السيد بن طاوس في كشف المحجة أنه توفي الكليني قبل وفات على بن محمد السمري رحمه اللّه لان على بن محمد السمري توفي في شهر شعبان ثلاثمائة، و تسع و عشرين (329) و محمد بن يعقوب الكليني توفي ببغداد سنة ثلاثمائة و ثمان و عشرين (328) فتصانيف هذا الشيخ محمد بن يعقوب و رواياته في زمن الوكلاء المذكورين و في وقت يجد طريقا الى تحقيق منقولاته و تصديق مصنفاته «2».

حدس المحدث النوري في عرض الكافي لسفراء الناحية
اشارة

أضف الى ذلك حدس شيخنا المحدث النوري (ره) من عبارة السيد الأجل بأن الكليني (قدس سره) كأنه عرض الكتاب على أحد السفراء و إمضائه، و حكمه بصحته و هو عين إمضاء الإمام عليه السّلام.

بل صرح بأن التأمل في مقدمات كتابه يورث الظن القوى، و الاطمئنان التام و الركون بما ذكره ابن طاوس، لأن الكليني (رحمه اللّه) كان وجه الطائفة، و عينهم و مرجعهم كما صرحوا به، و في بلدة اقامة النواب، و كان غرضه من التأليف العمل به في جميع ما يتعلق به بأمور الدين، لاستدعائهم و سؤالهم إياه عن ذلك، كما صرح به في أول الكتاب، خصوصا قوله (ره):

______________________________

(1) و هم الأجلاء: 1- عثمان بن سعيد العمرى.

2- و ولده أبو جعفر محمد.

3- و أبو القاسم حسين بن روح. 4- و على بن محمد السمري رحمهم اللّه تعالى.

(2) مستدرك الوسائل ج 3/ 539.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 68

..........

______________________________

«و قلت انك تحب ان يكون كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون الدين ما يكتفى به المتعلم و يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين و العمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام، و السنن

القائمة التي عليها العمل، و بها تؤدى فرض اللّه، و سنن نبيه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم قال شيخنا النوري: ان غرض الكليني (قدس سره) لم يكن كالغرض في جملة من المؤلفات من اقتناء جميع ما ورد في ثواب الأعمال و عقابها و خصال الخير و الشر، و علل الشرائع و غيرها، بل للأخذ و التمسك به، و التدين به، و العمل بما فيه و كان، بمحضره في بغداد من يسئلون عن الخبر بتوسط أحد من النواب عن صحة بعض الاخبار و جواز العمل به و في مكاتيب محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إليه عليه السّلام جملة وافرة و غيرها.

و من البعيد غاية البعدانه رحمه اللّه في مدة تأليفه و هي عشرون سنة لم يعلمهم بذلك و لم يعرضه عليهم مع ما كان فيما بينهم من المخالطة و المعاشرة بحسب العادة الى ان قال بعد كلام طويل.

فمن البعيد غاية البعدان أحدا منهم لم يطلب من الكليني هذا الكتاب الذي عمله لعمل كافة الشيعة، أو لم يره عنده و لم ينظر اليه، و قد عكف عليه وجوه الشيعة و عيون الطائفة.

و بالجملة فالناظر الى جميع ذلك لعله يطمئن بما أشار إليه السيد الأجل «1» إلى أخر ما ذكره فلاحظ «2».

تمامية حدس المحدث النوري و ان لم يكن الكليني مقيما ببغداد طيلة تأليف الكافي

و لا يخفى ان ما افاده شيخنا النوري (قدس سره) يتم و ان لم يكن الكليني مقيما

______________________________

(1) يعنى السيد الأجل ابن طاوس في كشف المحجة/ 159.

(2) المستدرك ج 3/ 532/ 533.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 69

..........

______________________________

ببغداد طيلة تأليفه بل انتقل إليها أخيرا قبل موته و قد استقرب أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) انه سافر الى بغداد قبل

موته بسنتين أو أكثر و نزل بمحلة باب الكوفة و سمعه منها أيضا جماعة من البغداديين و الكوفيين و كان بها الى ان توفي و دفن بمقبرة تلك المحلة إلخ «1».

أ ليس من البعيد أن الكليني- و هو شيخ أصحابنا بلا نكير- كان مقيما في بلدة سفراء الناحية المقدسة سنتين أو أكثر و لم يعلم هو: ان سفراء الناحية مقيمون في تلك البلدة، و لم يطلعوا بورود شيخ من أصحابنا في بلدهم في تلك المدة، و لم يكن بينه و بينهم تلاق أصلا مع انه بنص أستادنا العلامة (ره) كان يتردد إليه جماعة من البغداديين و الكوفيين و يسمعون منه، ثم انه من المستبعد جدا انه عند الملاقاة و التردد لم يعرض عليهم ما ألفه لعمل الشيعة طيلة سنين متمادية، ثم أبعد منه عدم مطالبتهم إياه كتابه القيم الذي عكف عليه منذ تأليفه وجوه الشيعة و عيون الطائفة، فلو كان كتابه هذا مشتملا على الصحيح و السقيم مع عدم ذكر ما يتميز به الصحيح عن القيم و لم يكن ما اصطلح عليه المتأخرون معروفا بينهم لوجب عليهم أعلامه بذلك، و هل يصح منهم التسامح في هذا الأمر العظيم حاشاهم.

مناقشة بعض في الحدس و دفعها

و ما يروم في بعض الألسن انه لو كان بينه و بينهم مخالطة لا بد و ان يروى عن أحد من نواب الناحية المقدسة في أبواب الكافي، أو انه لو عرض هو نفسه كتابه عليهم لذكره في ديباجة كتابه، غير وجيه لأنه لم يتعارف من الناحية المقدسة تصديق جوامع حديثية أصحابنا بل لم يعهد الا نادرا، و لعله لم يكن صلاح الطائفة المحقة في ذلك أيضا كما لا يخفى على اللبيب، و لذا ترى ان الشيخ

الجليل حسين بن روح ثالث النواب الأربعة المتوفى 326 ق أنفذ كتاب التأديب الذي ألفه نفسه الى قم

______________________________

(1) تجريد أسانيد الكافي ج 1/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 70

..........

______________________________

و كتب الى جماعة من الفقهاء بها، فقال لهم انظروا في هذا الكتاب و انظروا فيه شي ء يخالفكم؟ إلخ «1» مع انه كان الاولى عرضه على الناحية المقدسة و السؤال عنه عليه السّلام و الظاهر، ان ذلك ليس الا لعدم بنائهم على ذلك ليقوي فكره الشيعة و يتهيئوا للغيبة الكبرى فتدبر.

نعم عند وقوع الفتنة و وجود جو فاسد من شخص أو أشخاص فاسدين كان على الناحية المقدسة و السفراء، إرشاد الأمة، و حفظهم عن الضلالة، فلعله لأجل ذلك لم يروا الكليني في الكافي عن أحد النواب الأربعة، و لم يصرح في ديباجته عرضه عليهم فتدبر.

و بالجملة الناظر اللبيب و الواقف بأوضاع ذاك العصر يحدس حدسا قويا ان الكافي عرض على أبواب الناحية المقدسة و لا أقل على واحد منهم و كان موردا لتاييدهم نعم الجزم بذلك مشكل.

تأييد من العلامة المجلسي في اعتبار اخبار الكافي

و لقد أجاد شيخنا العلامة المجلسي (قدس سره) حيث قال في حق الكافي و نحوه «و الحق عندي فيه (يعني الكافي) ان وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة مما يورث جواز العمل به لكن لا بد من الرجوع الى الأسانيد لترجيح بعضها على بعض عند التعارض فان كون جميعها معتبرة لا ينافي كون بعضها أقوى، و اما جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضا على القائم عليه السّلام لكونه في بلدة السفراء فلا يخفى ما فيه على ذي لب نعم عدم إنكار القائم و آبائه صلوات اللّه عليه و عليهم عليه و

على أمثاله في تأليفاتهم و رواياتهم مما يورث الظن المتاخم للعلم بكونهم راضين بفعلهم و مجوزين للعمل بأخبارهم «2».

______________________________

(1) قال في الذريعة ج 3/ 210: فكتب الفقهاء إليه: انه كله صحيح و ما فيه شي ء يخالف، الا قولكم في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام و الطعام عندنا مثل الشعير من كل واحد صاع.

(2) مرأة العقول ج 1/ 6 من الطبعة القديمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 71

عدم الملازمة بين اعتبار الخبر و العمل على طبقه

______________________________

و إياك ان تتوهم مما ذكرنا انه إذا كانت جميع ما في الكافي صحيحة فلأي جهة لم يكن العمل على طبق جميعها؟!! و لأي علة عنون الكليني في مقدمة الكافي: الخيرين المتعارضين و كيفية علاجهما؟!! و ذلك لما أشرنا ان مجرد الوثوق بصدور الخبر لا يلازم العمل به ما لم ينضم إليه جهة الصدور و قد صدر من الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم لمصالح راجعة إلى أنفسهم المقدسة أو شيعتهم اخبار لم يكن لبيان الأحكام الواقعية و لذا ورد من ناحيتهم ترجيح أحد الخبرين على الأخر بموافقة الكتاب أو مخالفة العامة أو كونه موافقا للمجمع عليه و فيما لا يوجد مرجح جوزوا الأخذ بأحدهما من باب التسليم.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده دام ظله أخيرا: من ان اخبار الكليني بصحة جميع ما في كتابه لا يكون شهادة و انما هو اجتهاد استنبطه «1».

مضافا إلى ما نشير الى ضعفه عند الكلام في اعتبار كتاب من لا يحضره الفقيه، و حاصله انه كيف يقبل قول الكليني في توثيق الرجل و تضعيفه و لا يقبل قوله في اعتبار الخبر و صحته مع انه من خريط فن الرجال و كان له كتاب في الرجال

فلاحظ الثالث: قوله دام ظله انه يوجد في الكافي روايات شاذة لو لم ندّع القطع بعدم صدورها من المعصوم عليه السّلام فلا شك في الاطمئنان به، و مع ذلك كيف يصح دعوى القطع بصحة جميع الروايات و انها صدرت من المعصومين عليهم السّلام «2».

و فيه: ان المدعى الاطمئنان بصدور ما في الكافي عن المعصومين عليهم السّلام لا العمل بكل ما فيه و كم فرق بينهما و قد عرفت بما لا مزيد عليه عوامل حصول الاطمئنان بصدورها و لا ينافي شذوذ بعض ما فيها و صدورها عنهم عليهم السّلام كما لا يخفى.

______________________________

(1) معجم رجال الحديث ج 1/ 103 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 104 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 72

كلمة من المحدث البحراني في ان الأئمة (ع) يلقون الخلاف لمصالح راجعة إلى الشيعة و الى أنفسهم الشريفة

______________________________

و قد صرح المحدث البحراني: ان الأئمة صلوات اللّه عليهم ألقوا الخلاف بين الشيعة لمصالح راجعة إليهم و الى أنفسهم الشريفة، بل ربما يجيبون في المسئلة الواحدة أجوبة متعددة و ان لم يكن بها قائل من المخالفين فذكر موارد منها لاحظ المقدمة الاولى من مقدمات الحدائق ج 1/ 5.

و اما ما أيده دام ظله أخيرا لعدم كون جميع روايات الكافي صحيحة بان الصدوق لم يكن يعتقد بصحة ما في الكافي فغير ظاهر.

و ذلك لان حاصل ما أفاد دام ظله في ذلك هو انه لو كان جميع روايات الكافي صحيحة عند الصدوق لما قال في خطبة كتاب من لا يحضره الفقيه: «انى لم اقصد فيه قصد المصنفين من إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما افتى به و احكم بصحته و اعتقد انه حجة فيما بيني و بين ربي فان هذا الكلام ظاهر في ان كتاب

الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غير الصحيح كسائر المصنفات، مع انه لو كان جميع روايات الكافي صحيحة عند الصدوق لم تكن له حاجة الى تأليف كتاب من لا يحضره الفقيه، بل كان عليه إرجاع السيد الشريف الى كتاب الكافي لكون الكافي أوسع و أشمل من كتابه «1».

و سيجي ء منا الكلام حول صحة ما في كتاب من لا يحضره الفقيه ما يظهر لك جليا إن شاء اللّه عدم تمامية ما استظهره دام ظله من كلام الصدوق (ره) و تعلم وجود الحاجة لتصنيف كتاب من لا يحضره الفقيه و ان كان جميع ما في الكافي صحيحا عند الصدوق فارتقب حتى حين.

فتحصل مما ذكرنا: ان روايات الكافي صحيحة و حجة بين الكليني و بين اللّه

______________________________

(1) معجم رجال الحديث ج 1/ 40 و 104 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 73

..........

______________________________

تعالى، و يطمئن بصدورها عن المعصومين عليهم السّلام مع انه لا اشكال و لا ريب في اشتمال كتابه على روايات لا تعد صحيحة على مصطلح المتأخرين.

و لا ينافي ذلك اشتماله أحيانا على ما يكون شاذا لا يصح الاعتماد و الإفتاء على طبقه كما لا يخفى، كما لا يضر بوثاقة الرجل و عدالته كزرارة أو محمد بن مسلم- اخباره عما لا يصح الاعتماد عليه و الإفتاء على طبقه فتدبر و اغتنم.

تصريح الصدوق لصحة ما في كتاب من لا يحضره الفقيه

و منها: ما ذكره شيخنا محمد بن على بن بابويه الملقب بشيخ الصدوق (قدس سره) المولود بدعاء صاحب الزمان عليه السّلام و المتوفى 381 في أول كتاب من لا يحضره الفقيه، فقال ما نصه:

«سئلنى «1» ان أصنف له كتابا في الفقه، و الحلال و الحرام، موفيا على جميع

ما صنف في معناه ليكون اليه مرجعه، و عليه معتمدة، و به أخذه، و يشترك في اجره من ينظر فيه، و ينسخه. و يعمل بمودعه الى ان قال:

فأجبته الى ذلك لأني وجدته له أهلا، و صنفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلا يكثر طرقه و ان كثرت فوائده، و لم اقصد فيه قصد المصنفين إلى إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما افتى به، و احكم بصحته، و اعتقد انه حجة بيني و بين ربي جل ذكره، و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول، و إليها المرجع: مثل كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني «2» و كتاب عبيد اللّه

______________________________

(1) يعنى السيد الشريف أبا عبد اللّه المعروف بنعمة اللّه.

(2) حريز بن عبد اللّه السجستاني كوفي ثقة من أصحاب الصادق عليه السّلام كان ممن شهر السيف في قتال الخوارج بسجستان في زمان امام الصادق عليه السّلام قتله الشرار (الخوارج) بسجستان. له كتب تعد من الأصول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 74

..........

______________________________

بن على الحلبي «1» و كتب على بن مهزيار الأهوازي «2» و كتب حسين بن سعيد «3» و نوادر أحمد بن محمد بن عيسى «4» و كتاب نوادر الحكمة تصنيف محمد بن عمران الأشعري «5» كتاب الرحمة لسعد بن عبد اللّه «6» و جامع شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد «7» و نوادر محمد بن ابى عمير «8» و كتاب المحاسن

______________________________

(1) تقدم ما يتعلق بعبيد اللّه بن على الحلبي و انه ثقة صنف كتابا عرضه على الامام الصادق عليه السّلام و استحسنه و قرضه بقوله ليس لهؤلاء في الفقه مثله.

(2) على بن مهزيار الأهوازي ثقة

جليل القدر واسع الرواية من أصحاب الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي عليهم السّلام- يقال له من الكتب، ثلاثة و ثلاثون كتابا.

(3) حسين بن سعيد الأهوازي ثقة جليل القدر من أصحاب الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي عليهم السّلام- أصله كوفي انتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز، ثم تحول الى قم و توفي بها له ثلاثون كتابا.

(4) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ثقة شيخ القميين و وجههم بقم، و كان الرئيس الذي يأتي السلطان بها لقي الأئمة- الرضا، و الجواد، و الهادي- عليهم السّلام، له كتب عديدة، منها كتاب النوادر، و كان غير مبوب فبوبه داود بن كورة.

(5) محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمي ثقة جليل القدر كثير الروايات له كتب، منها كتاب نوادر الحكمة، و هو كتاب حسن كبير يعرفه القميون بدبة شبيب، تشبيها لكتابة بدبة شبيب بياع الثوم كان بقم له دبة ذات بيوت يعطى منها ما يطلب بلحاظ اشتمال كتابه على ما تشتهيه الأنفس.

(6) سعد بن عبد اللّه الأشعري القمي ثقة جليل القدر، واسع الاخبار، له عدة كتب منها كتاب الرحمة، و هو مشتمل على كتب جماعة توفي سنة 229/ أو 300/ أو 301.

(7) محمد بن الحسن بن الوليد شيخ جليل عارف بالرجال، موثوق به مات 343. له كتب منها كتاب الجامع.

(8) محمد بن ابى عمير بغدادي الأصل، و المقام، من أوثق الناس عند الخاصة، و أنسكهم نسكا و أورعهم، و أعبدهم، أدرك من الأئمة: الكاظم، و الرضا، و الجواد عليهم السّلام، من أصحاب الإجماع، له كتب كثيرة منها كتاب النوادر توفي/ 217.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 75

..........

______________________________

لأحمد بن ابى عبد اللّه

البرقي «1» و رسالة والدي «2» رضي اللّه عنه الىّ و غيرها من الأصول و المصنفات التي طرقي إليهما معروفة في فهرست الكتب التي رؤيتها عن مشايخي و أسلافي، و بالغت في ذلك جهدي مستعينا باللّه، و متوكلا عليه و مستغفرا من التقصير» «3».

قلت: و لا يخفى عليك ان مقاله هذا صريح في الجزم بصحة أحاديث كتابة و الشهادة بثبوتها، و انها حجة فيما بينه و بين اللّه تعالى. و فيه شهادة بصحة الكتب المذكورة و غيرها، مما أشار اليه، و ثبوت أحاديثها، مع انه لم يكن كثير من تلك الأحاديث مندرجا في الصحيح على مصطلح المتأخرين.

تصريح الشيخ البهائي بأن مراد الصدوق بالصحة غير ما هو المصطلح عليها عند المتأخرين

صرح شيخنا البهائي (قدس سره): بان كثيرا من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين، و منخرط في سلك الحسان و الموثقات، بل الضعاف ثم قال:

______________________________

(1) أحمد بن محمد بن خالد البرقي أصله كوفي هرب جده خالد الى برقة قم، فأقام بها، ثقة في نفسه له كتب منها كتاب المحاسن و هو مشتمل على عدة كتب.

(2) على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي. شيخ القميين في عصره، و فقيههم، و ثقتهم، قدم العراق و اجتمع مع ابى القاسم حسين بن روح رحمه اللّه، و سئله مسائل، ثم كاتبه بعد ذلك على يد على بن جعفر بن الأسود يسئله ان يوصل الى الامام الحجة صاحب الأمر عجل اللّه فرجه الشريف، رقعة يسئله فيها الولد فأوصلها و كان الجواب من الناحية: قد دعونا اللّه لك بذلك و سترزق ولدين ذكورين خيرين، فولد له أبو جعفر الصدوق مؤلف الكتاب، و أبو عبد اللّه، من أم ولد ديلمية، و كان أبو جعفر يقول: انا ولدت بدعوة صاحب الأمر

مفتخرا بذلك، توفي على بن بابويه بقم، و قبره مزار معروف، له كتب كثير منها كتاب الرسالة الى ابنه ابى جعفر مؤلف هذا الكتاب و كثيرا ما ينقل عنه في هذا الكتاب.

(3) كتاب من لا يحضره الفقيه ج 1/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 76

أول من قرر الاصطلاح الجديد في تنويع الأحاديث

______________________________

«ان أول من قرر الاصطلاح الجديد العلامة «1» و ان كثيرا ما يسلك مسلك المتقدمين هو و غيره من المتأخرين فيصفون: مراسيل بعض المشاهير كابن ابى عمير، و صفوان بن يحيى بالصحة لما شاع من انهم لا يرسلون الا عمن يثقون بصدقه، بل يصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون انه فطحي، أو ناووسي بالصحة نظرا الى اندراجه فيمن أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم.

و على هذا جرى العلامة (قدس اللّه روحه) في المختلف حيث قال في مسئلة ظهور فسق إمام الجماعة: ان حديث عبد اللّه بن بكير صحيح، و في الخلاصة حيث قال ان طريق الصدوق الى ابى مريم الأنصاري صحيح و ان كان في طريقه ابان بن عثمان مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على ما يصح عنهما.

و قد جرى شيخنا الشهيد الثاني (طاب ثراه) على هذا المنوال أيضا كما وصف في بحث الردة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحة و أمثال ذلك في كلامهم كثير فلا تغفل اه» «2».

استظهار بعض الأساطين من كلام الصدوق و الاشكال فيه

و قد توهم ان قول الصدوق فيما نقلنا عنه: انى لم اقصد قصد المصنفين إلخ.

إشارة إلى الطعن في مصنفات الأصحاب، كما يظهر ذلك أيضا من بعض الأساطين دام ظله أيضا حيث قال:

ان هذا الكلام ظاهر في ان كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غير الصحيح كسائر المصنفات اه «3».

______________________________

(1) و لكن المعروف كما أشرنا ان أول المقرر لذلك أستاده الأجل السيد أحمد بن طاوس نعم اشتهر الاصطلاح من زمن العلامة.

(2) مشرق الشمسين/ 270.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 4 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 77

..........

______________________________

و لكنه

يدفع بما أشار إليه شيخنا الحر العاملي المتوفى 1104 ه ق.

«بان مراده (يعنى الصدوق) ان غيره أوردوا جميع ما رووه و رجحوا أحد الطرفين ليعمل به كما فعل الشيخ في التهذيب و الاستبصار، و لا ينافي ذلك ثبوت الطرف المرجوح عن الأئمة عليهم السّلام كما لا يخفى، و اما الصدوق فلم يورد المعارضات في كتابه إلّا نادرا.

و يمكن ان يراد بقوله ذلك: ان غيره قصدوا إلى إيراد جميع ما رووه و لكنهم يضعفون ما لا يعملون به، أو يتعرضون لتأويله كما فعل هو في باقي كتبه.

و يمكن ان يكون أراد بالمصنفين غير الكتب المعتمدة عند الأصحاب كالكافي و غيره مما لم تزل متميزة عن غيرها عند الأصحاب قديما و حديثا حتى في هذا الزمان كما يعرفه المحدث الماهر» «1».

فتحصل ان مقال الشيخ الصدوق في طليعة الكتاب شهادة إجمالية بصدور ما في كتابه هذا عن المعصومين عليهم السّلام و انه حجة بينه و بين اللّه تعالى.

فقد ظهر ضعف ما استظهره دام ظله من هذا المقال ان كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح و غيره كسائر المصنفات توضيح الضعف ظاهر مما ذكرنا فتدبر.

كلام بعض الأساطين في عدم كون جميع ما في الكافي صحيحة عند الصدوق و دفعه

كما ظهر ضعف اشكاله الثاني:

«بأنه ان كانت جميع روايات الكافي صحيحة عند الشيخ الصدوق لم يكن حاجة الى كتابة كتاب من لا يحضره الفقيه بل كان على الصدوق (قدس سره) ان يرجع السيد الشريف الى كتاب الكافي و يقول له ان كتاب الكافي في بابه ككتاب من لا يحضره الطبيب في بابه شاف في معناه اه» «2».

______________________________

(1) الوسائل الجزء 20/ 62.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 41 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 78

..........

______________________________

و هذا

من عجيب الإشكال لأن السيد الشريف بقرينة ذكر من لا يحضره الطبيب للرازى استدعى من الشيخ الصدوق كتابا مختصرا مفيدا في الفقه و الحلال و الحرام حاويا لمهمات ما يحتاج اليه ليعمل به إذا لم يحضره فقيه، و ما استدعى عنه أشبه شي ء برسالة عملية للعمل به بحيث يغنيه عن المراجعة إلى الفقيه نظير ما صنفه الرازي، و الكافي الشريف كتاب مبسوط في بابه مشتمل- كما عن بعض المشايخ- على ستة عشرة ألف حديث و مأة و تسعة و تسعين حديثا (16199) «1» مع ذكر جميع السند غالبا مشتملا على الاخبار الواردة في الأصول و الفروع مع اشتماله على فروع كثيرة، و كثيرا ما يذكر في موضوع واحد اخبارا متعددة متحدة المضمون و يذكر الأخبار المتعارضة و يرجح احداها على الأخرى مع ان كتاب من لا يحضره الفقيه كما عن بعض المشايخ مشتمل على خمس الاف و تسعمائة و ثمانية و تسعين حديثا 5998 حديثا «2» و قد بنى الشيخ الصدوق من أول الأمر في كتابه هذا على اختصار الأسانيد و حذف أوائل الاسناد و وضع مشيخة في آخر الكتاب ليعرف بها طريقه الى من روى عنه، و ربما أخل بذكر الطريق الى بعض، مع انه اقتصر على الاخبار الواردة في الفقه، و لم يذكر اخبارا متحدة المضمون و الاخبار المتعارضة إلا نادرا.

فلأجل ذلك كله بل لعله و لغير ما ذكرنا لم يرجع الشيخ الصدوق السيد الشريف إلى الكافي لا لعدم صحة روايته كما توهم فتدبر.

و لم يدع الصدوق ان ما في كتابه مقطوع الصدور بل ادعى ان ما فيه حجّة بينه و بين اللّه تعالى فلا يتوجه عليه ما أورده دام ظله:

«ان الشيخ الصدوق

قال في باب الوصي يمنع الوارث ما: «وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب و لا رويته الا من طريقه» فلو كانت روايات

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 541.

(2) الذريعة ج 22/ 232.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 79

..........

______________________________

الكافي كلها قطعية الصدور فكيف يصح ذلك القول من الشيخ الصدوق (قدس سره) «1»

المناقشة في عدم كفاية تصحيح القدماء و دفعها

و مما ذكرنا كله يظهر ضعف ما افاده (دام ظله) في الفصل الثاني في تضعيف مقالة الصدوق (ره):

«ان تصحيح أحد الأعلام المتقدمين رواية لا ينفع من يرى اشتراط حجية الرواية بوثاقة راويها أو حسنه» «2».

ضرورة أن الوثوق بصدور الخبر كاف في مقام الاحتجاج و ان كان بلحاظ اشتماله على قرائن داخلية أو خارجية كما تقدم فهل يصح القول بان الصدوق في كتابه هذا ذكر ما لا يعتقد صحته و اعتباره بينه و بين اللّه تعالى، أو ان غاية ما تقتضيه مقالته هي الاخبار عن صحة روايته و حجيته عن رأيه و نظره و هذا لا يكون حجة في حق غيره مع انه نسب الى الصدوق تأليف كتاب الرجال فهو خريط فن الرجال فهل يقبل قوله في توثيق الرجال و تعديلهم و ان كان ذلك عن رأيه و نظره و لا يقبل قوله في اعتبار الخبر و صحته و اتكاء الصدوق في التصحيح و التضعيف شيخه ابن الوليد أو أحد المشايخ العظام و العلماء الأعلام من أحد طرق حصول الوثاقة و ليس ذلك بعزيز بل يكون دارجا بين المشايخ فتدبر.

و الى ما ذكرنا يشير المحدث البحراني بقوله:

«ان التوثيق و الجرح الذي بنوا عليه تنويع الاخبار انما أخذوه من كلام القدماء و كذلك الأخبار التي رويت في أحوال

الرواة من المدح و الذم إنما أخذوها عنهم فاذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الاخبار و اعتمدوه و ضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 40 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث 1/ 105 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 80

..........

______________________________

الكافي و الفقيه، و كلام الشيخ في العدة و كتابي الأخبار فإن كانوا ثقاة عدولا في الاخبار بما أخبروا به ففي الجميع، و الا فالواجب تحصيل الجرح و التعديل من غير كتبهم و انى لهم به!! الى أخر ما ذكره فلاحظ» «1».

فتحصل مما ذكرنا ان ما في كتاب من لا يحضره الفقيه صحيح و حجة فيما بين الصدوق و بين اللّه تعالى و يطمئن بصدورها عن المعصوم عليه السّلام مع اشتماله على اخبار لا تعد صحيحتا على مصطلح المتأخرين.

و هذا المقدار كاف في الوثوق بصدور ما فيه، و إياك ان تتوهم مما ذكرنا ان مجرد الوثوق بصدور الخبر كاف في العمل به ما لم ينضم إليه جهة الصدور و انه صدر لبيان الحكم الواقعي. فلا ينافي ما ذكرنا شذوذ بعض ما فيه، و عدم عمل الأصحاب على طبقه لجهات آخر، كما أشرنا في ذيل ما يرتبط باعتبار ما في الكافي فلاحظ.

كلمة طويلة الذيل من الشيخ في ان اخبار التهذيبين صحيحة باصطلاح القدماء

و مما يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب صحيحة باصطلاح القدماء ما قاله شيخ الطائفة (قدس سره) المتوفى 460/ ق في مبتدء الاستبصار. قال:

«فانى لما رأيت جماعة من أصحابنا لما نظروا في كتابنا الكبير الموسوم بتهذيب الأحكام و رأوا ما جمعنا فيه من الاخبار المتعلقة بالحلال و

الحرام وجدوها مشتملة على أكثر ما يتعلق بالفقه من أبواب الأحكام و انه لم يشذ عنه في جميع أبوابه و كتبه مما ورد في أحاديث أصحابنا و كتبهم و أصولهم و مصنفاتهم الا نادر قليل و شاذ يسير و انه يصلح ان يكون كتابا مذخورا يلجأ اليه المبتدي في تفقهه و المنتهى في تذكره و المتوسط في تبحره، فان كلا منهم ينال مطلبه و يبلغ بغيته الى ان قال:

و سئلونى تجريد ذلك و صرف العناية إلى جمعه و تلخيصه و ان ابتدئ في كل

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 1/ 16.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 81

..........

______________________________

باب بإيراد ما اعتمده من الفتوى و الأحاديث ثم أعقب بما يخالفها من الاخبار، و أبين وجه الجمع بينها على وجه لا أسقط شيئا منها ما أمكن، و اجرى في ذلك على عادتي في كتابي الكبير، و ان أشير في أول الكتاب إلى جملة مما يرجح به الأحاديث بعضها على بعض و لأجله جاز العمل بشي ء منها دون جميعها، و انا مبين ذلك على غاية من الاختصار الى ان قال:

«و اعلم ان الاخبار على ضربين متواترة و غير متواترة فالمتواتر منها ما أوجب العلم فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقع شي ء ينضاف اليه و لا أمر يقوى به. و ما ليس بمتواتر على ضربين فضرب منه يوجب العلم أيضا و هو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم و ما يجرى هذا المجرى يجب أيضا العمل به و هو لاحق بالقسم الأول».

ثم أشار الى بعض القرائن الى ان قال:

«و اما القسم الأخر فهو كل خبر لا يكون متواترا و يتعرى من واحد

من هذه القرائن فإن ذلك خبر واحد و يجوز العمل على شروط».

«فان كان الخبر لا يعارضه خبر آخر فان ذلك يجب العمل به لأنه من الباب الذي عليه الإجماع في العمل الا ان يعرف فتاواهم بخلافه فيترك لأجلها العمل به».

«فان كان هناك ما يعارضه فينبغي ان ينظر في المتعارضين فيعمل على اعدل الرواة في الطرفين، و ان كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا، و ان كانا متساويين في العدالة و العدد و هما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها، نظر فان كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه و ضرب من التأويل كان العمل به اولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به الى طرح الخبر الآخر، لأنه يكون العامل بذلك عاملا بالخبرين معا».

«و إذا كان الخبران يمكن العمل بكل منهما و حمل الآخر على بعض الوجوه و ضرب من التأويل و كان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 82

..........

______________________________

صريحا أو تلويحا لفظا أو دليلا و كان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به اولى من العمل بما لا يشهد له شي ء من الاخبار».

«و إذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر و كان متحاذيا كان العامل مخيرا في العمل بأيهما شاء، و إذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين الا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما و بعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم، و لا يكون العاملان بهما على هذا الوجه إذا اختلفا و عمل كل واحد منهما على خلاف ما عمل عليه الآخر مخطئا

و لا متجاوزا حد الصواب. إذ روى عنهم عليهم السّلام انهم قالوا: إذا ورد عليكم حديثان و لا تجدون ما ترجحون به أحدهما على الأخر مما ذكرناه كنتم مخيرين في العمل بهما، و لأنه إذ ورد الخبران المتعارضان و ليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين، و لا على إبطال الخبر الأخر فكأنه إجماع على صحة الخبرين، و إذا كان الإجماع على صحتهما كان العمل بهما جائزا سائغا».

«و أنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الاخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الاخبار و وجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب و في غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال و الحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام إلى آخر ما ذكره اه» «1».

أقول: نقلنا العبارة بطولها لان التدبر فيها يعطي بأن الأخبار المروية في كتابي التهذيب و الاستبصار واجدة لشرائط حجية العمل بها لو خليت و أنفسها و يصح الاعتماد عليها في حد أنفسها و مما يطمئن بصدورها، و لذا لا يترك (قدس سره) العمل بواحد منها مهما أمكن، و الا كان الاولى ترك العمل بما لا يكون معتبرا و لا يكون واجدا لشرائط الحجية على طريق المتأخرين فيعلم من ذلك ان الاخبار الموجودة في الكتابين مأخوذة من الكتب و الأصول المعتمدة و كانت عليها قرائن صحة الصدور و ان كان بعضها غير واجد لشرائط الحجية على طريقة المتأخرين فتدبر.

______________________________

(1) الاستبصار ج 1/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 83

كلمة من الشيخ في عدة الأصول في كون اخبار التهذيبين صحيحة باصطلاح القدماء

______________________________

و قال الشيخ قدس في عدة الأصول:

«. فأما ما اخترته من المذهب- يعني في العمل بخبر الواحد- فهو ان خبر الواحد إذا كان واردا من

طريق أصحابنا القائلين بالإمامة و كان ذلك مرويا عن النبي أو عن واحد من الأئمة (صلوات اللّه عليهم) و كان ممن لا يطعن في روايته و يكون سديدا في نقله و لم تكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر لأنه ان كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة و كان ذلك موجبا للعلم، و نحن نذكر القرائن فيما بعد، جاز العمل به.

و الذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فانى وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك و لا يتدافعونه حتى ان واحدا منهم إذا أفتى بشي ء لا يعرفونه سئلوه من أين قلت هذا؟ فاذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور و كان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا و سلموا الأمر في ذلك و قبلوا قوله، و هذه عادتهم و سجيتهم من عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الأئمة عليهم السّلام الى زمان الصادق جعفر بن محمد عليهما السّلام الذي انتشر العلم عنه و كثرت الرواية من جهته، فلو لا ان العمل بهذه الأخبار جائزا لما أجمعوا على ذلك و لا نكروه لان إجماعهم، فيه معصوم لا يجوز عليه التخليط و السهو الى ان قال:

ان قيل كيف تدعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد و المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد كما ان المعلوم من حالها انها لا ترى العمل بالقياس فان جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الأخر.

يقال لهم: معلوم من حالها الذي لا ينكر و لا يدفع انهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في

الاعتقاد و يختصون بطريقه، فاما ما يكون راويه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 84

..........

______________________________

منهم و طريقه أصحابهم فقد بينا ان المعلوم خلاف ذلك، و بينا الفرق بين ذلك و بين القياس أيضا، و انه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس و قد علم خلاف ذلك» «1» الى ان قال:

«و مما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فانى وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة الى باب الديات من العبادات و الأحكام و المعاملات و الفرائض و غير ذلك مثل اختلافهم في العدد و الروية في الصوم، و اختلافهم في ان التلفظ بثلاث تطليقات هل يقع واحدة أم لا؟

و مثل اختلافهم في باب الطهارة و في مقدار الماء الذي لا ينجسه شي ء، و نحو اختلافهم في حد الكر، و نحو اختلافهم في استيناف الماء الجديد لمسح الرأس و الرجلين، و اختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس، و اختلافهم في عدد فصول الأذان و الإقامة و غير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى ان بابا منه لا يسلم الا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسئلة متفاوتة الفتاوى، و قد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار و التهذيب ما يزيد على خمسة الاف حديث و ذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها و ذلك أشهر من ان يخفى حتى انك لو تأملت اختلافهم في هذه

الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة، و الشافعي، و مالك و وجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه و لم ينته الى تضليله و تفسيقه و البراءة من مخالفته فلو لا ان العمل بهذه الاخبار كان جائزا لما جاز ذلك و كان يكون من عمل بخبر عنده انه صحيح يكون مخالفه مخطا مرتكبا للقبيح يستحق التفسيق بذلك و في تركهم ذلك و العدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الاخبار فإن تجاسر متجاسر إلخ ما ذكره قدس» «2».

______________________________

(1) عدة الأصول طبع إيران/ 51/ 52.

(2) عدة الأصول طبع إيران/ 56/ 57.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 85

..........

______________________________

أقول و لا يخفى ان في كلامه شهادة واضحة على ان جميع روايات التهذيب و الاستبصار مأخوذة من الكتب المعتمدة فهي صحيحة باصطلاح القدماء لا المتأخرين

تأييد من المحدث الكاشاني فيما استظهرناه

و لعله الى ما ذكرنا يشير ما ذكره المحدث الكاشاني في مقدمة كتابه القيم الوافي خلال المقدمة الثانية:

«قال صاحب التهذيب في العدة ان ما أورده في كتابي الأخبار، انما أخذته من الأصول المعتمدة عليها اه» «1».

إيراد بعض الأساطين على كلام المحدث الكاشاني و دفعه

فان الظاهر ان مقصوده (ره) بهذه الجملة انه مستفاد مما افاده الشيخ في العدة و متحصل مما ذكره فيها و لا يريد انه صريح عبارته و لا يخفى استفادته مما نقلناه عنه فلاحظ. فلا يتوجه على المحدث الكاشاني (ره) ما ذكره بعض الأساطين (دام ظله) في دفع مقاله أولا.

«بأنا لم نجد في كتاب العدة هذه الجملة المحكية عنه اه» «2».

لما أشرنا اليه ان مقصوده ان هذه الجملة متحصل و مقتبس مما ذكره الشيخ لا انه صريح عبارته، و لا ما أورده (دام ظله) بعد ذكر جملتين من عبارة العدة:

«انه لا يستفاد منهما ما ذكره المحقق الكاشاني من انه لا يذكر في كتابيه الا الروايات المأخوذة من الكتب المعتمدة بل و لا إشعار في كلامه على ذلك اه» «3».

و لكنك خبير بدلالة ما حكيناه عن الشيخ على صحة التعويل على ما في التهذيبين مهما أمكن فلو لا صحة ما فيهما لما صح التعويل عليه مهما أمكن.

و لا ينافي ما ذكرنا ما يقوله كثيرا في التهذيب في الاخبار التي يتعرض لتأويلها

______________________________

(1) الوافي ج 1/ 11.

(2) معجم رجال الحديث ج 1/ 107/ 109 من المقدمة.

(3) معجم رجال الحديث ج 1/ 107/ 109 من المقدمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 86

..........

______________________________

و لا يعمل بها: بأنها من اخبار الآحاد التي لا يفيد علما و لا عملا، ضرورة ان المدعى هو الاطمئنان بصدور ما في الكتب عن المعصوم لا

صحة العمل بكل ما في الكتب كما لا يخفى فتدبر.

مضافا الى انه صرح في كتاب العدة انه لا يجوز العمل بالاجتهاد و لا بالظن في الشريعة فيستفاد منه ان كل حديث عمل به الشيخ فهو محفوف بقرائن يوجب العمل به فلا يكون هذا الكلام من الشيخ تأييدا لمقال بعض الأساطين (دام ظله) «1».

إذا أحطت خبرا بما ذكرناه هنا و ما ذكرناه من شهادة الصدوق و الكليني (قدس سرهما) تعرف ان ما افاده بعض الأساطين دام ظله بعد تسليم شهادة الشيخ بصحة جميع روايات كتابيه: «ان الشهادة على صحة الحديث و حجيته لا تكون حجة في حق الآخرين» «2» غير وجيه فلاحظ و تأمل.

كلمة من المحدث النوري في الاطمئنان بصدور ما في الكتب الأربعة

و يمكن الاستيناس للاطمئنان بصدور ما في الكتب الأربعة و نحوها مضافا الى ما ذكرنا ما يستفاد مما افاده شيخنا النوري:

«من انه و ان لم نقل بان شيخوخة الإجازة بمجردها من أمارات الوثاقة و لم ندع تواتر الكتب أو أكثرها عند المشايخ الا انه يمكن الحكم بوثاقة نقل هؤلاء المشايخ الذين اعتمد عليهم الشيخ و النجاشي في طرقهم إلى أرباب الكتب لبعد اتخاذ أولئك الأجلاء الرجل الضعيف أو المجهول شيخا يكثرون الرواية عنه و يظهرون الاعتناء به، فعدم ذكرهم في كتب الرجال أو ذكرهم فيها بالجهالة لا يدل على عدم صحة الاعتماد على الخبر الذي وقعوا في مستنده كيف! و لو لا صحة الاعتماد عليهم لكان الرواية من قبلهم تضييعا لحالهم و طعنا فيهم حاشاهم «3».

______________________________

(1) معجم رجال الحديث 1/ 109 من المقدمة.

(2) معجم رجال الحديث 1/ 109 من المقدمة.

(3) مستدرك الوسائل ج 3/ 754.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 87

..........

______________________________

ثم انه كيف يروى ثقات الواقعين في

سلسلة السند عمن جهل حاله أو ضعف نقله فهل يسوغ لهم النقل عنه مع عدم احتفافه بقرينة أو قرائن الصدق.

أضف الى ذلك شدة تورع المشايخ للنقل عن المهملين فضلا عن الضعفاء و المجروحين «1».

تأييد من الشهيد الثاني و الشيخ البهائي و المحدث الكاشاني في ان ما في الكتب الأربعة و نحوها منقولة من الأصول التي عرضت أكثرها على الأئمة (ع)

يشهد ان ما في الكتب الأربعة و نحوها منقولة من الأصول المعتمدة التي عرضت كثير منها على الأئمة المعصومين عليهم السّلام ما ذكره الشهيد الثاني و شيخنا البهائي و المحدث الكاشاني (رحمهم اللّه).

«قال شيخنا الشهيد (قدس سره) في دراية الحديث قد كان استقر أمر المتقدمين على أربعمائة مصنف سموها أصولا و كان عليها اعتمادهم ثم تداعت الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول و لخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، و أحسن ما جمع فيها الكافي، و التهذيب، و الاستبصار، و من لا يحضره الفقيه».

و قال شيخنا البهائي (قدس سره) في خاتمة الوجيزة:

«جميع أحاديثنا إلا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (سلام اللّه عليهم أجمعين) و هم ينتهون فيها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فان علومهم مقتبسة من تلك المشكاة، و ما تضمنته كتب الخاصة (رضوان الله عليهم) من الأحاديث المروية عنهم (سلام اللّه عليهم) يزيد على ما في الصحاح الست العامة بكثير كما يظهر لمن تتبع أحاديث الفريقين، و قد روى راو واحد و هو ابان بن تغلب عن امام واحد- أعني الإمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام- ثلثين الف حديث كما ذكره علماء الرجال. و كان قد جمع

______________________________

(1) لاحظ المستدرك ج 3/ 503/ 504/ 755.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 88

..........

______________________________

قدماء محدثينا (رضي اللّه عنهم) ما وصل إليهم من أحاديث أئمتنا (سلام اللّه عليهم) في

أربعمائة كتاب يسمى الأصول.

ثم تصدى جماعة من المتأخرين شكر اللّه سيعهم لجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهيلا على طالبي تلك الأخبار فألقوا كتبا مبسوطة مبوبة، و أصولا مظبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (سلام اللّه عليهم أجمعين) كالكافي و كتاب من لا يحضره الفقيه، و التهذيب، و الاستبصار، و مدينة العلم، و الخصال، و الأمالي، و عيون اخبار الرضا، و غير ما اه» «1».

و غير خفي أن لكلامهما دلالة واضحة بصحة تلك الأصول و انها معتمدة و عرض كثير منها على الأئمة المعصومين عليهم السّلام و ان ما في الكتب الأربعة و أمثالها منقولة من تلك الأصول الصحيحة، و لعمر الحق كما صرح شيخنا البهائى (قدس سره) في ذيل ما ذكره الصدوق (رحمه اللّه) في الفقيه و قد تقدم ذكره: ان كثيرا من تلك الأحاديث لمعزول عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخرين.

و قال المحدث الكاشاني (قدس سره) في الوافي نحو ذلك فلاحظ «2».

تصريح على بن إبراهيم بان ما في تفسيره منقول من ثقاة الرواة
اشارة

و مما يشهد لكون الأخبار الموجودة في كتب الأصحاب صحيحة باصطلاح القدماء ما قاله الشيخ الجليل على بن إبراهيم القمي في ديباجة تفسيره و إليك نص عبارته.

«و نحن ذاكرون و مخبرون بما ينتهى إلينا و رواه مشايخنا و ثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب رعايتهم و لا يقبل العمل الا بهم اه» «3».

______________________________

(1) الوجيزة المطبوعة مع حبل المتين لشيخنا البهائي/ 7.

(2) الوافي ج 1/ 11.

(3) تفسير على بن إبراهيم ج 1/ 4 طبع النجف الأشرف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 89

..........

______________________________

و قد شهد بما ذكرنا شيخنا الحر (ره) في الفائدة السادسة من خاتمة الوسائل بقوله:

قد شهد على بن إبراهيم

أيضا بثبوت أحاديث تفسيره و انها مروية عن الثقات عن الأئمة عليهم السّلام «1» كما اعترف بعض الأساطين بذلك أيضا.

دفع توهم كون مراد على بن إبراهيم بالثقات خصوص مشايخه

فلا موقع لتوهم اختصاص التوثيق بمشايخه الذين يروى عنهم على بن إبراهيم بلا واسطة.

مضافا الى انه لا محصل لاختصاص الرواية عن ثقاة مشايخه بلا واسطة مع رواية مشايخه عن الضعفاء فتدبر.

كلمة من ابن قولويه في كون ما في كامل الزيارات مما يطمئن بصدورها عن المعصومين
اشارة

و مما يشهد لما ذكرنا ما قاله الشيخ الجليل أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى 367/ ق في مقدمة كتاب كامل الزيارات، فقال:

«و انا مبين لك (أطال اللّه بقاك) ما أثاب اللّه به الزائر لنبيّه و أهل بيته (صلوات اللّه عليهم أجمعين) بالآثار الواردة عنهم عليهم السّلام على رغم من أنكر فضلهم ذلك و جحده و أباه و عادى عليه و باللّه أستعين على ذلك و عليه أتوكل و هو حسبي في الأمور كلها و نعم الوكيل و انما دعاني إلى تصنيف كتابي هذا مسئلتك و تردادك القول علىّ مرة بعد اخرى تسئلنى ذلك و لعلمي بما لي فيه من المثوبة و التقرب الى اللّه تبارك و تعالى و رسوله، و الى على، و فاطمة، و الأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) الى جميع المؤمنين ببثّه فيهم و نشره في إخواني المؤمنين على جملته فاشتغلت الفكر فيه و صرفت الهم اليه و سئلت اللّه تبارك و تعالى العون عليه حتى أخرجته و جمعته عن الأئمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) من أحاديثهم و لم اخرج فيه حديثا عن غيرهم إذا كان فيما رويناه

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 90

..........

______________________________

عنهم من حديثهم (صلوات اللّه عليهم) كفاية عن حديث غيرهم، و قد علمنا انا لا نحيط بجميع ما روى عنهم في هذا المعنى، و لا في غيره، و لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من

أصحابنا رحمهم اللّه برحمته و لا أخرجت فيه حديثا روى عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث و العلم إلى أخر ما ذكره» «1».

اختلاف الأعلام في فهم ما ذكره ابن قولويه و بيان ما هو المختار

قد وقع الكلام في المعنى المراد من كلامه.

فمنهم من استظهر منه ان جميع الرواة المذكورين في اسناد كامل الزيارات ممن روى عنه الى ان يصل الى الامام عليه السّلام من الثقات عند المؤلف، و من هؤلاء شيخنا الحر (ره) حيث قال: ان ما ذكره ابن قولويه في مزاره صريح بما هو أبلغ مما ذكره على بن إبراهيم في تفسيره «2» كما ان منهم بعض الأساطين (دام ظله):

حيث استظهر من العبارة انه لا يروى ابن قولويه رواية عن المعصوم الا و قد وصلت اليه من جهة الثقات من أصحابنا، و كان دام ظله مصرا عليه «3».

و منهم من استظهر من كلامه ان نظر ابن قولويه توثيق خصوص كل من صدّر بهم سند أحاديث كامل الزيارات لا كل من ورد في اسناد الروايات.

______________________________

(1) كامل الزيارات طبع النجف الأشرف/ 3.

(2) الوسائل ج 20/ 68.

(3) لاحظ معجم رجال الحديث ج 1/ 64.

قلت و لكن حكى عنه (دام ظله) انه عدل عما استظهره. و يرى ان مراد ابن قولويه منها توثيق خصوص من صدر بهم سند أحاديث كتابة لا كل من ورد في اسناد الروايات، و بهذا النظرية اختلفت فتاواه الفقهية المبتنية على النظرية السابقة فأشير الى مواقع الخلاف في الطبعة الأخيرة من بعض رسائله العملية فراجع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 91

..........

______________________________

و بالجملة كلامه هذا يدل على توثيق كل مشايخه الذين يروى عنهم بلا واسطة لا توثيق كل من في اسناد كتابه.

و ممن

استظهر ذلك شيخنا النوري (قدس سره) في موضعين من خاتمة المستدرك ج 3 ص 523 س 4 ص 177 س 18، فجعل (قدس سره) عبارة ابن قولويه توثيقا عاما لكل من روى عنه في الكتاب بلا واسطة و قال فيما قال لا فرق في التوثيق بين النص على أحد بخصوصه أو توثيق جمع مخصوص بعنوان خاص، و كفى بمثل هذا الشيخ مزكيا و معدلا. ثم ذكر (قدس سره) مشايخه الذين روى عنهم بلا واسطة و قد أنهاهم الى اثنين و ثلاثين شيخا فراجع «1».

و لا يخفى ان ما استظهره شيخنا النوري (قدس سره) و ان كان قريبا لاسترحام ابن قولويه لجميع مشايخه حيث قال: من جهة الثقات من أصحابنا (رحمهم اللّه برحمته) و قد وقع في اسناد بعض الاخبار الواردة في كامل الزيارات عدة إفراد لا يستحقون الاسترحام خصوصا من مثل ابن قولويه كعلي بن أبي حمزة البطائني الشديد الوقف «2» و ابنه حسن بن على بن أبي حمزة «3» و ليث بن ابى سليم العامي «4» و عائشة زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «5» الى غير ذلك من المنحرفين فلاحظ الكامل. و لم يكن في المشايخ الذين روى عنهم ابن قولويه بلا واسطة من لا يستحق الاسترحام فهذا أصدق شاهد على ان المراد بثقات مشايخه هم الذون روى عنهم بلا واسطة.

و لكن من تدبر فيما أورده في مقدمة الكتاب و قد ذكرنا قطعة منها- و التأمل في غرضه من تأليف كامل الزيارات، و ملاحظة الأبواب و العناوين المذكورة

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 523.

(2) لاحظ كامل الزيارات صفحات/ 63/ 84/ 108/ 119/ 246/ 248/ 294 و غير ذلك.

(3) لاحظ الكامل/ 49/

50 الى غير ذلك.

(4) لاحظ الكامل/ 31.

(5) لاحظ الكامل/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 92

..........

______________________________

فيه ينكشف لديه جليا: ان الاخبار المذكورة في كتابه مما يطمئن بصدورها عن أئمة المعصومين عليهم السّلام، و لو بالقرائن الداخلية، و الخارجية، فيكون ما ذكره ابن قولويه جار مجرى كلام الكليني، و الصدوق في مفتتح كتابيهما، فيجري فيه ما حكيناه عن شيخنا البهائي في كلام الصدوق (قدس سرهما): من ان جميع اخباره لا يندرج في الصحيح على مصطلح المتأخرين، فينطبق على مصطلح القدماء فتدبر.

كلمة من الكفعمي في كون ما في مصباحه مأخوذ من الكتب المعتمدة

و مما يشهد لما ذكرنا ما قاله الشيخ الجليل تقى الدين إبراهيم بن على العاملي الكفعمي في أول كتابه الجنة الواقية- المعروف بالمصباح- المشتمل على الأدعية، و الصلوات، و الاستخارات، و الاستغاثات، و الحوائج، و التعقيبات، و اعمال الشهور و الأيام. و نحو ذلك قال:

«و قد جمعته من كتب معتمدة على صحتها مأمور بالتمسك بوثقى عروتها لا يغيرها كر العصرين، و لا مر الملوين» «1».

دلالة ما ذكره على صحة ما دونه واضحة.

كلمة من الطبرسي في ان ما في الاحتجاج يصح الاعتماد عليه

و منها: ما قاله الشيخ الجليل أحمد بن على بن أبي طالب الطبرسي في أول كتاب الاحتجاج بقوله.

«و لا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول عليه، أو لاشتهاره في السير و الكتب بين المخالف و المؤالف إلا ما أوردته عن ابى محمد الحسن العسكري عليهما السّلام، فإنه ليس في الاشتهار على حد

______________________________

(1) مصباح الكفعمي/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 93

..........

______________________________

ما سواه، و ان كان مشتملا على مثل الذي قدمناه، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول ذلك اه» «1».

و أنت خبير بان كلامه هذا يدل بوضوح على ان في الأخبار الموجودة في كتابه قرائن يصح الاعتماد عليها من إجماع أو شهرة بين الفريقين، أو موافقة لما دلت عليه العقول نعم فيما رواه عن العسكري عليه السّلام و ان كان مشتملا على تلك القرائن أيضا الا انه حيث لم تكن بتلك المثابة من الوضوح: قد ذكر إسناده في أول كتابه.

و منها: غير ذلك من كتب الأصحاب يجدها المتتبع و فيما ذكرناه كفاية.

كلمة من صاحب الوسائل في موقف كتب الأصحاب

قال شيخنا الحر (رحمه اللّه) في الخاتمة:

«و أكثر أصحاب الكتب المذكورة قد شهدوا بنحو ذلك اما في أوائل كتبهم أو في آخرها، أو في أثنائها، فإنهم كثيرا ما يضعفون حديثا بسبب قوة معارضه أو نحو ذلك، أو يتعرضون لتأويله، أو يقولون لو لا الغرض الفلاني لم نذكره و يشيرون أو يصرحون بان ما عداه من اخبار ذلك الكتاب معتمد عندهم، و هم قائلون بمضمونه جازمون بثبوته و صحة نقله، و كل ذلك ظاهر بالقرائن الواضحة عند المتتبع الماهر و يأتي شهادة كثير منهم بصحة كثير من الكتب

المعتمدة.

و لا يخفى عليك ان القرائن المذكورة في كلام الشيخ في العدة، و الاستبصار، و في كلام الشيخ بهاء الدين و غيرها موجودة الان، أو أكثرها. و قد شهد بذلك جماعة كثيرون يطول الكلام بنقل عباراتهم إلخ ما ذكره» «2».

كلمة من شيخنا البهائي و غيره في وضع الاصطلاح الجديد و تزييفه

قال شيخنا البهائي (قدس سره) في سر عدول المتأخرين عن متعارف القدماء و وضع

______________________________

(1) الاحتجاج للطبرسي/ 3.

(2) الوسائل ج 20/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 94

..........

______________________________

الاصطلاح الجديد:

«انه لمّا طالت المدة بينهم و بين الصدر السالف و الحال الى اندراس بعض كتب الأصول المعتمدة لتسلط حكام الجور و الضلالة، و الخوف من إظهارها انتساخها و انضم الى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من كتب الأصول في الكتب المشهورة في هذا الزمان فالتبست الأحاديث المأخوذة من الأصول المعتمدة بالمأخوذة من غير المعتمدة و اشتبهت المتكررة في كتب الأصول بغير المتكررة و خفي عليهم (قدس اللّه أرواحهم) كثير من تلك الأمور التي كانت سبب وثوق القدماء بكثير من الأحاديث و لم يمكنهم الجري على أثرهم في تمييز ما يعتمد عليه مما لا يركن اليه فاحتاجوا الى قانون تتميز به الاخبار المعتبرة عن غيرها و الموثوق بها عما سواها فقرروا لنا شكر اللّه سعيهم ذلك الاصطلاح الجديد و قربوا إلينا البعيد و وصفوا الأحاديث الموردة في كتبهم الاستدلالية بما اقتضاه ذلك الاصطلاح من الصحة و الحسن، و التوثيق» «1».

و حكى قريب من ذلك عن الشيخ حسن صاحب المعالم في مقدمات كتاب المنتقى، و لخص مقالهما الشيخ يوسف البحراني في المقدمة الثانية من مقدمات كتاب الحدائق «2».

و ربما يظهر من بعضهم ان تأليف الكتب الأربعة و نحوها بعد ذهاب معظم الأصول الأولية.

و لكن

نوقش في كلا الأمرين.

اما حديث اختلاط الأصول بغيرها و عدم إمكان التمييز بينها و خفاء القرائن فقال شيخنا الحر (ره) في دفعه:

«بأنه ممنوع ان أريد حصول ذلك في زمن أصحاب الكتب الأربعة بل ممنوع مطلقا و سند المنع ما أشرنا اليه و يأتي إن شاء اللّه.

و ليت شعري كيف حصل هذا الاندراس و هذا الاختلاط في زمن العلامة و شيخه

______________________________

(1) مشرق الشمسين/ 270.

(2) لاحظ الحدائق الناضرة ج 1/ 15.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 95

..........

______________________________

أحمد بن طاوس الذين أحدثا هذا الاصطلاح كما صرح به صاحب المنتقى و غيره في اليوم الذي أحدثاه فيه و لم يحصل قبله ساعة، أو يوم، أو شهر، أو سنة، بل كانوا يعملون بالاصطلاح الأول فيكون اندراس تلك الأصول و اختلاطها كله في ساعة واحدة أو يوم واحد و هو معلوم البطلان عادة، بل كلام الشهيد الثاني و الشيخ البهائي (قدس سرهما) و غيرهما صريح في خلاف هذه الدعوى.

و قد اعترف الشيخ بهاء الدين و الشيخ حسن و غيرهما بأن المتأخرين أيضا كثيرا ما يسلكون مسلك المتقدمين و يعملون باصطلاحهم فعلم ان ذلك غير متعذر اه» «1».

و اما حديث ذهاب معظم الأصول الأولية فنوقش كما في الحدائق:

«بأن الظاهر كما صرح به بعض الفضلاء ان اضمحلال تلك الأصول انما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار لكونها أحسن منها جمعا و أسهل تناولا و الا فتلك الأصول قد بقيت الى زمن ابن طاوس (رضي اللّه عنه) كما ذكر ان أكثر تلك الكتب كان عنده و نقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته و بذلك يشهد كلام ابن إدريس في أخر كتاب

السرائر حيث انه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الاخبار و بالجملة فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره الا معاند جهول اه» «2».

كلمة من شيخنا البهائي في وهن الاصطلاح الجديد

و مما يوهن وضع الاصطلاح الجديد ما قاله شيخنا البهائي (ره):

«ان المستفاد من تصفح كتب علمائنا المؤلفة في السير و الجرح و التعديل ان أصحابنا الإمامية (رضي اللّه عنهم) كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحق أولا ثم أنكر إمامة بعض الأئمة عليهم السّلام في أقصى المراتب و كانوا يحترزون عن

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 68.

(2) الحدائق الناضرة ج 1/ 19.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 96

..........

______________________________

مجالستهم و التكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم لهم بالعداوة أشد من تظاهرهم بها للعامة، فإنهم كانوا يتقون العامة و يجالسونهم و ينقلون عنهم و يظهرون لهم انهم منهم خوفا من شوكتهم لان حكام الضلال منهم، و اما هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإمامية ضرورة داعية الى ان يسلكوا معهم على ذلك المنوال و سيما الواقفية. فان الإمامية كانوا في غاية الاجتناب لهم و التباعد منهم حتى انهم كانوا يسمونهم بالممطورة- أي الكلاب التي أصابها المطر- و أئمتنا عليهم السّلام لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم و مجالستهم و يأمرونهم بالدعاء عليهم في الصلاة و يقولون انهم كفار مشركون زنادقة و انهم شر من النواصب، و ان من خالطهم فهو منهم، و كتب أصحابنا مملوة بذلك كما يظهر لمن تصفح كتاب الكشي و غيره.

فاذا قبل علمائنا و سيما المتأخرون منهم رواية رووها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء و عولوا عليها و قالوا بصحتها لا بد من

ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق به القدح إليهم و لا الى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله كان يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق، و قوله بالوقف، أو بعد توبته و رجوعه إلى الحق أو ان النقل انما وقع من أصله الذي ألفه اشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقت و لكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب على بن الحسن الطاطري، فإنه و ان كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية الا ان الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم و بروايتهم الى غير ذلك من المحامل الصحيحة.

و الظاهر ان قبول المحقق (طاب ثراه) رواية على بن أبي حمزة مع شدة تعصبه في مذهبه الفاسد مبني على ما هو الظاهر من كونها منقولة من أصله و تعليله (رحمه اللّه) يشعر بذلك فان الرجل من أصحاب الأصول.

و كذا قول العلامة بصحة رواية إسحاق بن حريز عن الصادق فإنه ثقة من أصحاب الأصول أيضا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 97

..........

______________________________

و تأليف أمثال هؤلاء أصولهم كان قبل الوقف لأنه وقع في زمن الصادق عليه السّلام فقد بلغنا عن مشايخنا (قدس اللّه أرواحهم) انه كان من دأب أصحاب الأصول انهم إذا سمعوا من أحد الأئمة عليهم السّلام حديثا بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام و توالى الشهور و الأعوام و اللّه أعلم بحقائق الأمور اه كلامه قدس سره» «1».

هذا إجمال المقال في موقف علم الرجال في استنباط الأحكام الشرعية من الاخبار المودعة في الجوامع الحديثية المعروفة بين الأصحاب، و تفصيله

يطلب من غير المقام.

و قد خرجنا في البحث عن موقف علم الرجال في الاجتهاد بالنسبة إلى سائر ما يعتبر فيه عما هو المتعارف، و على خلاف المعمول من شراح العروة الوثقى، و ذلك بلحاظ اختلاف انظار الفقهاء خصوصا في الأدوار الأخيرة في ذلك فمنهم من فرط و لم يعتن بآراء علماء الرجال أصلا، و منهم من أفرط و يرى اعتبار أنظارهم في كل رواية رواية، و منهم متوسطات فوقع رواد العلم في حيص و بيص و في حيرة و اضطراب في استخراج الأحكام الشرعية من الاخبار الواردة في الجوامع الحديثية المعروفة، و لعل ما ذكرناه هي الطريقة الوسطى توجب مرتبة من السكون و الاطمئنان في قلوب طلبة العلم و اللّه هو الهادي إلى سواء السبيل.

كلمة من الوحيد البهبهاني في اعتبار القوة القدسية في الاجتهاد و تزييفه

ثم انه حكى عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) في فوائده اضافة أمر آخر وراء الأمور المذكورة في الاجتهاد، و هو وجود القوة القدسية.

و لكن اعتبارها خارج عن أفهامنا و لا يكاد يمكن اعتبارها في فهم الأحكام عادة فربما يوجب اعتبارها تشويش البال و التقول بما لا يليق و الإهانة باعاظم الفقهاء

______________________________

(1) مشروق الشمسين/ 273.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 98

..........

______________________________

لأن قوة استنباط الأحكام الشرعية ورد الفروع على الأصول تحصل بعد تحصيل المبادي و الممارسة في المسائل الأصولية و القواعد الفقهية و غيرها، سواء كان الواجد لهذه القوة مؤمنا حقا و ورعا تقيا كأساطين فقهائنا الإمامية (رضوان اللّه عليهم) أو لم يكن كذلك، كالعضدي و الرازي و غيرهما من المخالفين.

و ما ورد من ان العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء فهو أمر أخر وراء قوة الاجتهاد كما لا يخفى.

يعجبني هنا نقل ما حكى

عن بعض المحققين في المقام قال (قدس سره): ان الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم ممكن الحصول للعادل و الفاسق و المؤمن و المنافق لتسببه عن اعمال القوة النظرية الحاصلة من إتقان العلوم النظرية الدخيلة في تحصيل الحجة على الحكم من دون حاجة الى قوة قدسية إلهية أو قذف نور في قلب المستنبط اه «1».

فظهر انه لا دليل على اعتبار القوة القدسية في الاستنباط، نعم من حصلت له هذه القوة القدسية فطوبى له.

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا و هي الأمور المهمة في حصول قوة الاستنباط و حجية الرأي فمن حصلت له هذه الأمور بعون اللّه و توفيقه و استنبط حكما شرعيا أو وظيفة عملية على تلك الموازين المقررة، يصح له العمل بما استنبط و يكون حجة بيته و بين ربه، و يكون معذورا لو فرض تخلفه عن الواقع، فاذا صح له ذلك يجوز له الإفتاء على طبقه.

و بالجملة موضوع جواز الإفتاء بما استنبط عين موضوع جواز العمل به بلا تفاوت، و اما تقليد الغير إياه فكلام أخر حيث انه يشترط في حجية الفتوى للغير شرائط سنشير إليها فارتقب.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد لسيدنا العلامة الوالد قدس/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 99

المبحث الخامس في ان صحة العمل بما استنبط و جواز الإفتاء به ليستا من المناصب المجعولة

______________________________

و ليعلم ان صحة العمل بما استنبط و جواز الإفتاء على طبقه ليستا من المناصب المجعولة، كالقضاء و الحكومة، حتى يتوقف جوازه على التماس دليل من الشرع فمن استفرغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي و استنبطه بعد الجهد الكامل و بذل الوسع فيما ذكرنا يصح له العمل على طبقه و الإفتاء به و لا يحتاج الى التماس دليل عليه.

نعم ان ورد دليل من الشرع على منع

الإفتاء يتّبع و انى لاخبارى من إثباته؟! و لا يصغي الى ما يعتقده الاخبارى من عدم جواز الاجتهاد مغيّرا ببعض الأخبار الواردة في النهي عن الاجتهاد، لأنه يزعم ان الاجتهاد الذي يقول به أصحابنا الإمامية هو الذي يقول به العامة: من قصر النظر على الرأي و الاستحسان و القياس و الظنون غير المعتبرة لما يرى ان بعض الفقهاء كالسيد المرتضى، و المحقق، و العلامة و نظرائهم يستدلون لإثبات مقاصدهم بمثل ما يستدلون به العامة لإثبات مرامهم و لكن و لم يتفطنوا ان ذلك منهم ليس لكونه هو المستند في الحكم بل ذكر لتأييد مقالهم و لافحام مخالفيهم بان ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام ربما يواقفه الاستحسان و القياس و نحوهما أيضا.

و بالجملة ليس غرضهم من التمسك بما يشبه استدلالات العامة، هو كونه دليلا في المسئلة و حجة بينهم و بين اللّه تعالى بل انما ذكر للتأييد و افحام المخالفين، و انه لو أغمضنا عن صدوره عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام يمكن إثبات حكم ما صدر من ناحيتهم بالاستحسان و الظنون غير المعتبرة التي هم عليه، فلا بد لهم من الاعتراف بما نحن عليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 100

..........

______________________________

و في بعض أخبار أئمتنا عليهم السّلام شاهد صدق على ذلك مثل ما ورد عن جواد الأئمة عليه السّلام في قطع أصابع السارق حيث استدل بقوله تعالى أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ «1» قبال استدلال العامة على ما ذهبوا اليه من قطع اليد من الزند، أو المرفق، أو المنكب مع انه لو تم الاستدلال بالاية المباركة لما صح في المرتبة الثانية قطع رجل السارق و لا يده لأنهما من المساجد

مع انه تقطع ان في المرتبة الثانية رجله و يده من خلاف نعم ربما يستدل بعض الفقهاء بقياس منصوص العلة فيزعم من لا خبرة له انه يستند الى القياس مع انه في الحقيقة لم يكن قياسا بل استدلالا بالعلة حيث يدور الحكم مدارها أينما وجدت بالدلالة اللفظية.

كما ان الاستدلال بتنقيح المناط القطعي لم يكن قياسا لأنه ربما يوجد عنوان في لسان الدليل و لكن العرف و العقلاء لا يرون لذلك العنوان خصوصية لترتب الحكم عليه بل لعنوان أعم منه، و ذلك مثل ما ورد ان الرجل إذا شك بين الثلاث و الأربع يبنى على الأربع، فإن العرف لا يرى للرجولية خصوصية في العمل بالشك، و يرى ان ذكر الرجل من باب المثال و تمام الموضوع لذلك عنوان الشاك فلذا يفتي الفقيه:

بأن المرية إذا شكت كذلك تبنى على الأربع أيضا. فهل الاخبارى لا يلغى خصوصية الرجولية و يرى اختصاص حكم الشك بالرجل؟! حاشاه.

كما ان استدلال الأصولي بالإجماع أحيانا ليس بلحاظ حجية الإجماع في نفسه كما يراه العامة بل بلحاظ كشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام، أو حجة معتبرة كما أشرنا إليه في اعتبار الإحاطة بالمسائل الأصولية في الاستنباط.

و إجماله انه إذا اتفق أعلام الفرقة الإمامية من الصدر إلى الساقة على أمر، أو طائفة معتنى بها منهم على حكم، خصوصا إذا كان على خلاف القاعدة مع ما هم عليه من التورع و الاحتياط في الدين يكشف ذلك كشفا عاديا عن وجود مستند معتبر هناك قد خفي علينا فيؤخذ بما أجمعوا عليه و ان كان هناك خبر واحد معتبر يخالفه.

______________________________

(1) الجن 72/ 8.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 101

..........

______________________________

الى غير ذلك من الأمور

التي يتخيلها غير البصير بحقيقة الأمر انه على طريقة غير مرضية في الشريعة مع ان الأمر في الواقع و نفس الأمر على ما هو المرضى فيها.

و بالجملة التأمل الصادق يعطي بأن المجتهد الأصولي في الحقيقة إخباري و الاخبارى الخبير في الحقيقة أصولي، ألا ترى؟ انه إذا سئل عن الاخبارى إذا تعارض لدينا الخبران فما هي الوظيفة عند ذلك فما يتفصى به الاخبارى: من عرضها أولا على الكتاب و السنة، و الأخذ بما وافقهما و طرح الأخر، ثم ان لم يكن لأحدهما شاهد من كتاب اللّه، أو السنة، أو يكون لكليهما شاهد فيؤخذ بما خالف العامة و يطرح الأخر الى غير ذلك. هو الذي يتفصّى به الأصولي.

و قد أشرنا ان أكثر المنازعات بين الطائفتين في الحقيقة لفظي و راجع الى الصغرى كما هو الشأن في اختلاف بعض الأصوليين بعضهم مع بعض، و اختلاف بعض الأخباريين مع بعض.

نعم كما أشرنا أنه أفرط كثير من المتأخرين في بعض العلوم الآلية كالمسائل الأصولية حيث دققوا النظر فيها و أدرجوا فيها مباحث و مطالب لا يفيدهم في الفقه و في استنباط الأحكام، و لو افادوهم لكن يكون لها فائدة قليلة لعلها ملحقة بالعدم كبعض مباحث المشتق، و معاني الحرفية، و مسئلة الضد، و اجتماع الأمر و النهى و الترتب و مقدمات الانسداد بأدق معانيها الى غير ذلك مما لا يخفى على الطالب البصير، فأوجب طرح هذه المباحث و إتعاب النفس في حل بعض مباحثها الدقيقة غير النافعة بعدهم عما هو الأصل و المهم في ذلك و هو استنباط جل الأحكام الشرعية، و لعله لهذا و نحوها من المباحث غير المهمة قلما يوجد بين المتأخرين من استنبط جميع كتب الفقه مع

ان أكثر القدماء على خلاف ذلك فتراهم أرباب تأليف قيمة، و تصانيف نفيسة في جميع أبواب الفقه، أو أكثرها و ليس ذلك على الظاهر الا لعدم اشتغالهم بما يهمهم و اشتغالهم بما لا يهمهم في الفقه و الفقاهة، فللطالب المتدرب تشمير الذيل و الاشتغال بما هو المهم و الأخذ بما هو الحجر الاساسى و رفض، أو تقليل ما لا يكون محتاجا اليه كثيرا لا في دينه و لا دنياه عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و ثبتنا على الصراط السوي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 102

المبحث السادس في تقسيم الاجتهاد الى تجز و إطلاق

______________________________

المراد بالتجزي في الاجتهاد: هو الاقتدار على استنباط بعض الأحكام عن أدلتها على النهج المألوف قبال الإطلاق: الذي عبارة عن الاقتدار على استنباط جميع الأحكام عن أدلتها. فالمتجزئ هو الذي يتمكن من استنباط بعض الأحكام دون جميعها، و المجتهد المطلق هو الذي يكون قادرا على استنباط اى حكم يرد عليه في أي باب من أبواب الفقه.

فقد وقع الكلام أولا في إمكان تحقق التجزي ثم في صحة اجتهاده على تقدير إمكانه، كما وقع الإشكال في وجود المطلق في الخارج.

قد يقال بعدم إمكان التجزي بلحاظ ان ملكة الاجتهاد كيف نفساني بسيط، و البسيط غير قابل للتجزية و التقسيم الى النصف أو الثلث أو الربع أو غيرها، و انما القابل لها هو الكم، متصلا كان أو منفصلا، فأمر الملكة دائما يدور بين الوجود و العدم و لا يعقل ان تتحقق مبعضة فلا يصح ان يقال ان لفلان نصف الاجتهاد أو ثلثه، أو أو ربعة، فاذا المتصدي للاستنباط اما يكون مجتهدا مطلقا و اما غير مجتهد أصلا، فالتجزى في الاستنباط أمر غير معقول.

و لكن فيه: ان البسيط و

ان كان غير قابل للتجزية الا انه قابل للاشتداد و الضعف و الزيادة و النقصان، كما هو الشأن في جميع الصفات النفسانية من العلم و الشجاعة و السخاوة الى غير ذلك فإنها مع كونها بسائط قابلة للاشتداد و الضعف، و الزيادة و النقصان، و لا يريد القائل بالتجزي تجزئة الملكة إلى النصف أو الثلث أو الربع.

و بعبارة أخرى يريد القائل بإمكان التجزي ان متعلق القدرة في المتجزى أضيق دائرة من متعلقها في المجتهد المطلق.

و ذلك لان مسائل أبواب الفقه ليست على نهج واحد بل متفاوتة من حيث

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 103

..........

______________________________

صعوبة الأخذ و سهولته و النفوس متفاوتة من حيث الاستعداد و الفكر فرب حكم مسئلة اختلف فيه الأقوال و تضاربت أدلته و مجاريه و ليس حكم مسئلة اخرى كذلك فقد يكون لها خبر واحد ظاهر الدلالة غير مختلف فيها، و من البديهي أن الاستنباط في الثانية أسهل منها بالنسبة إلى الاولى.

و ربما يكون الرجل لقوة استعداده و كثرة ممارسته في الأمور العقلية و مباديها يمكنه استنباط الأحكام المبتنية على مسئلة اجتماع الأمر و النهى، أو اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضده، أو مقدمة الواجب، أو الترتب الى غير ذلك و لكن حيث لم يكن مأنوسا بالمباحث الراجعة إلى الألفاظ و غير متبحر في تلك الأبحاث لا يتمكن من استنباط الأحكام المبتنية عليها، و ربما يكون الأمر بالعكس.

كما انه قد يتمكن من استنباط الأحكام المربوطة بالمعاملات لابتنائها على قواعد كلية حاضرة لديه و لكن يعجز عن استنباط أحكام العبادات المبتنية على الاخبار الكثيرة المتعارضة، كما انه ربما يكون بالعكس فيضعف عليه تطبيق القواعد الكلية على الموارد، و لكن

يسهل عليه استظهار المطالب من الاخبار و الجمع بين متعارضاتها الى غير ذلك مما يوجب تمكن الاستنباط من بعض في بعض الأحكام دون بعض أخر في أحكام أخرى و هذا غير خفي على الطالب المتدرب و قد رأينا بعض مشايخنا العظام له تسلط في استنباط الأحكام المبتنية على القواعد الكلية و المسائل العقلية و لم يكن له تلك السلطة إذا لم تكن المسئلة مبتنية عليها كما ان بعضا أخر منهم على العكس كما انه كان لبعضهم تسلط مطلوب عليهما شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

بل قد يقال ان الطفرة حيث تكون محالا عادة فكل مجتهد مطلق يكون متجزيا في زمان ثم قوى و ترقّى شيئا فشيئا حتى تمكن من استنباط جميع الأحكام.

و ربما يناقش: في التجزي بعد إمكان تحققه ان من لا إحاطة له بجميع المسائل يحتمل في حقه احتمالا مساويا في كل مسئلة يتوقف على مداركها ان يكون من جملة ما لا يحيط به من الدلائل ما يعارض تلك الدلائل التي وقف عليها في تلك المسئلة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 104

..........

______________________________

على وجه يساويها أو يترجح عليها.

و لكن يجاب أولا: بالنقض بالمجتهد المطلق.

و ثانيا: بان الظن بعدم المعارض كثيرا ما يعرف بالفحص في مظانه أو بتصريح المتفحصين به بحيث يطمئن بعدم المعارض فلا يتوقف استنباط المتجزى على الإحاطة بجميع المسائل.

هذا بالنسبة إلى المتجزي.

و اما بالنسبة إلى المجتهد المطلق فقد يقال بعدم وجود المجتهد المطلق في الخارج لما ترى من وقوع الاشكال و التردد في بعض المسائل من أساطين الفقه و الفقاهة كالمحقق و العلامة و الشهيدين و نظرائهم فما ظنك بغيرهم.

و لكن يمكن: ان يجاب عنه كما عن المحقق الخراساني

(قدس سره) ان ترددهم في بعض المسائل انما هو بالنسبة الى حكمه الواقعي لأجل عدم دليل مساعد في كل مسئلة علمية أو عدم الظفر به بعد الفحص بالمقدار اللازم لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع و اما بالنسبة الى حكمه الفعلي فلا تردد لهم أصلا.

هذا إجمال المقال في التجزي و الإطلاق و سيجي ء منا بحول اللّه و قوته بمناسبة تعرض الماتن (قدس سره) شرائط مرجع الفتوى بعض مباحث حولهما ما لا غنى عنه للطالب اللبيب، كما سيجي ء منا أيضا بعض مباحث هامة نفيسة عند تعرض الماتن لزوم تصدى المجتهد للقضاء و الحكومة و غيرهما فارتقب حتى حين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 105

[مسئلة 2- القول في جواز العمل بالاحتياط للمجتهد و عدمه]

اشارة

مسئلة 2- الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهدا (1) كان أو لا. لكن يجب (2) ان يكون عارفا بكيفية الاحتياط أو التقليد

______________________________

(1) لا موقف لهذه الفتوى بالنسبة إلى المجتهد الذي لا بد له من معرفة جواز ذلك بالاجتهاد.

(2) بالوجوب العقلي الإرشادي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 106

حكم العقل و الشرع بحسن الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات

______________________________

ا قول: و ليعلم ان الاحتياط بمعنى الإتيان بجميع المحتملات و إحراز الواقع به: لا ينبغي الإشكال في حسنه في حد نفسه لحكم العقل بحسنه و لعل النصوص على رجحانه و مطلوبيته متواترة فالشرع و العقل متطابقان على حسنه فيما يتحقق الا ترى؟! ان من شك في اعتبار التعدد في تطهير ثوبه المتنجس مثلا فلم يراجع مقلده في ذلك أو لم يجتهد فيه إذا كان من اهله و لكن غسله مرتين أو ثلاث مرات فهل لا يكون آتيا بالوظيفة و ممتثلا للأمر بتطهير الثوب، حاشاك ان تتوهم ذلك. و سنشير الى ان المناقشة في ذلك في بعض الموارد- كالاحتياط في العبادات مع التمكن من القطع التفصيلي في الحقيقة- مناقشة في الصغرى و ان الاحتياط فيها مستلزم. للإخلال بقصد الوجه و التمييز و الجزم بالنيّة و غير ذلك. و من المحتمل اعتبارها في المأمور به فلا يكاد يحرز الواقع بالاحتياط و سنشير عدم اعتبار شي ء منها، فمهما أحرز المأمور به بنحو من الأنحاء و اتى بجميع المحتملات فلعل جوازه من الأحكام التي قياساتها معها، ضرورة انه مما يقطع به الامتثال و ليس وراء عبادان قرية و لذا

توهم ان من تمكن من الاحتياط ليس له الاجتهاد أو التقليد و دفعه

ربما يتوهم كما أشرنا انه مع التمكن من الاحتياط ليس له الامتثال- بالاجتهاد أو التقليد، لعدم كونهما موجبين للقطع بالامتثال و غايتهما هو الظن به و معلوم ان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 107

..........

______________________________

الامتثال القطعي مقدم على الظني منه، و ان كان فيه ما لا يخفى من الضعف لأنه بعد قيام الدليل على اعتبار أمارة ظنية لا يرى العقل اى فرق بين الامتثالين في أداء الوظيفة و إسقاط التكليف، و التفصيل يطلب

من غير المقام.

و عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) الإجماع على جواز الاحتياط فما يحكى عن المشهور من بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد لو أمكن توجيهه بنحو الى ما لا ينافي ما ذكرنا فبها، و الا فيطرح لما عرفت ان الاحتياط موجب للعلم بمطابقة المأتي به للواقع.

توجيه فتوى المشهور ببطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد

و لعل مراد المشهور على تقدير صحة الانتساب ما هو المحكى على السيد الرضي الذي قرره اخوه علم الهدى (قدس سرهما) في مسئلة الجاهل بالقصر قال (قدس سره):

ان عقد إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها اه.

و حاصل مقالهما هو ان الجاهل بأحكام الصلاة مثلا لا يكاد يقطع بإتيان المأمور به على ما هو عليه بمجرد إتيان ما يزعمه، و هذا أجنبي عن الاحتياط الذي يحرز به الواقع يقينا فتدبر.

و قد عرفت ان الاكتفاء بما يحرز ادراك الواقع به كالاكتفاء بالتقليد أو الاجتهاد مما يدركه عقل كل مكلف ملتفت فلا يكون ذلك موردا للتقليد.

و لو عمم مقالة المشهور الى مثل العمل بالاحتياط فحاصل مقالهم هو عدم تحقق موضوع الاحتياط في خصوص العبادات لبعض المناقشات لا عدم جوازه فيما أمكن الاحتياط و تحقق، و الكلام انما هو في أصل الجواز، فمرجع مقالهم إلى المناقشة في الصغرى بعد تسليم الكبرى الارتكازي لا فيها كما لا يخفى فتدبر.

فجواز الاحتياط في الحقيقة مستند الى الاجتهاد- و لو بالارتكاز.

هذا كله في الاحتياط بالمعنى الذي ذكرنا- و هو الإتيان بجميع المحتملات-

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 108

مناقشة جواز الاحتياط مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي و دفعه

______________________________

نعم ربما يناقش: جواز الاحتياط بالمعنى المتعارف في بعض الموارد لاحتمال اعتبار قصد الوجه و التمييز في المأتي به العبادي، أو اعتبار الجزم في النية فيه و في المعاملي بالمعنى الأخص، أو اعتبار الامتثال التفصيلي مهما أمكن الى غير ذلك و قد عرفت انه في الحقيقية مناقشة في تحقق موضوع الاحتياط لا في أصله، و ستعرف ان المناقشات بحذافيرها مندفعة، فالأقوى جواز الاحتياط مطلقا في العبادات، أو المعاملات بقسميهما تمكن من الامتثال التفصيلي، أو لم

يتمكن، استلزم تكرار جملة العمل، أو لم يستلزم، كان الاحتياط في التكليف المستقل النفسي، أو في التكليف الضمني- كأجزاء المركب و شرائطه- الى غير ذلك من الصور.

عدم الإشكال في الاحتياط بالمعنى المتعارف في المعاملات بالمعنى الأعم

لا وقع للإشكال بل لم يعهد الإشكال في الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم- أعني به الأمور التوصلي غير المعاملي- مطلقا ضرورة ان المقصود من الواجب التوصلي هو وجود المتعلق و تحققه في الخارج كيف اتفق و لا يعتبر فيه صدق الامتثال و الإطاعة، و ان كان يثاب و يجزى عند الإطاعة و الامتثال.

و ذلك مثل تطهير الثوب فعند الشك في اعتبار التعدد لو احتاط و غسله مرتين أو ثلاث مرات فتحصل الطهارة من غير نكير و ان تمكن من تحصيل العلم بالوظيفة، و كذا إذا اشتبه الماء المطلق بالماء المضاف فيصح ان يحتاط و يغسل المتنجس مرة بأحدهما و اخرى بالآخر، و تحصل الطهارة مع التمكن من تشخيص الماء المطلق و معرفته الى غير ذلك من الأمثلة.

و لا فرق في ذلك بين صورة التمكن من الامتثال التفصيلي و عدمه.

و غاية ما يمكن ان يوجه لمنع الاحتياط هنا بل في جميع موارد التمكن من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 109

..........

______________________________

الامتثال التفصيلي هو منافاة أدلة تعلم الأحكام لتجويز الاحتياط مطلقا.

و لكن فيه كما تقدم ان ما دل على وجوب التعلم و التفقه اما يستفاد منه كون التعلم واجبا إرشاديا أو نفسيا تهيئيا و على كل، يكون المقصود منه عدم معذورية الجهل في مخالفة الواقع.

فلا ينبغي الإشكال في جواز الاحتياط هنا لحصول الغرض بذلك حسب الفرض، لأنه يحصل الغرض و يوتى بالواقع لكل من الامتثال التفصيلي و الاحتياط و الامتثال الإجمالي فيحصل المؤمّن من العقاب

بهما، بل يمكن ان يقال العمل بالاحتياط أحسن من الاجتهاد أو التقليد فيما إذا لم يوجبا العلم بالواقع لاحتمال مخالفة الواقع فيهما دونه، و احتمال مخالفة الواقع و ان كان مدفوعا بالعمل بالحجة الا ان إحراز الواقع أمر مستحسن عقلا.

جواز الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأخص

و قريب منه الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأخص- اعنى العقود و الإيقاعات- و ان الأقوى ان الاحتياط جائز فيها أيضا خلافا لما عن الشهيد و شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سرهما) في المكاسب عند شرائط الصيغة نظرا الى اعتبار الجزم في الإنشاء، و لا يتحقق ذلك بالاحتياط، إذ ترتب الأثر في كل واحد من طرفي العقد مشكوك فيه مثلا إذا شك في صيغة النكاح ان لفظة النكاح تتعددى الى المفعول الثاني بنفسه أو بلفظه- من- فعند تعديتها بنفسها لا يدرى حصول النكاح و الزوجية بذلك فلا يكون جازما بإنشاء النكاح بالاحتياط.

و كذا إذا شك في حصول الطلاق بالجملة الفعلية كسائر صيغ العقود بان يقول:

طلقتك، أو انه لا بد و ان تكون بالجملة الاسمية بأن يقول: أنت طالق مثلا فعند قوله طلقتك لا يكاد يدرى حصول البينونيه بذلك فلا يكون جازما بإنشاء الطلاق بالاحتياط

مناقشة جواز الاحتياط فيها و دفعه

حاصل الاشكال فيه مضافا الى الإشكال المتقدم هو انه يعتبر في العقد و الإيقاع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 110

..........

______________________________

قصد الإنشاء و يعتبر فيه الجزم و لذا لو علق الإنشاء على أمر لم يصح و ان كان الشرط متحققا كقولك: بعتك هذه الدار ان قدم الأمير- و كان الأمير قادما- و لا يكاد يتحقق الجزم في الاحتياط لان ترتب الأثر في كل واحد من طرفي العقد و الإيقاع مشكوك فيه ضرورة انه حين إجراء صيغة النكاح بالفارسية مثلا لا يدرى ان ما اراده من النكاح و الزواج يحصل بها أم لا فلا يكون جازما بالنكاح بالاحتياط.

و فيه ان اعتبار الجزم في الإنشاء لا يكاد يضر بما نحن بصدده لان الترديد في الاحتياط انما هو في الممضى

شرعا لا في الإنشاء نفسه، و ذلك لان الإنشاء إما يكون عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ قبال الاخبار الذي هو عبارة عن الاخبار بثبوت شي ء لشي ء، أو نفيه عنه كما هو المشهور.

أو كان عبارة عن إبراز الوجود الاعتباري في نفس المتكلم بمبرز قبال الاخبار الذي هو عبارة عن إبراز كون المتكلم قاصدا للحكاية عن وجوده خارجا كما يراه بعض المحققين، و التحقيق يطلب من غير المقام.

فإنشاء النكاح أو الطلاق عبارة عن إيجاد علقة الزوجية و البينونية باللفظ، أو إبراز وجود العلقة أو البينونية في نفسه بمبرز، و من المعلوم تحقق هذا المعنى عند تعدى لفظة النكاح الى المفعول الثاني بنفسه مثلا أو التلفظ بالجملة الفعلية في صيغة الطلاق.

و بالجملة هو جازم بالإنشاء عند ذلك و لا تردد له في نيته و انما الشك في أمر خارج عن حيطة إنشائه و هو إمضاء الشارع و حكمه بصحة نكاحه أو طلاقه.

و بعبارة أوضح إنشاء الأمر الاعتباري خفيف المؤنة فقد يكون المنشأ ممضاة شرعا يترتب عليه الأثر، و قد لا يكون كذلك فلا يترتب عليه ذلك، و لذا ترى تحقق الإنشاء مع القطع بعدم الإمضاء و الاعتبار كما في بيع المحرمات.

فحديث الاعتبار و الإمضاء فضلا عن ترتب الأثر أجنبي عن حديث اعتبار الجزم في نيّة الإنشاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 111

..........

______________________________

فإذا كما يتحقق الجزم بالإنشاء عند التلفظ بصيغة يعلم بإمضائها عند الشرع كذلك يتحقق عند التلفظ بصيغة لا يعلم بذلك.

و لا فرق بينهما فيما يرجع الى الإنشاء و الفرق انما هو في الإمضاء و عدمه.

و الحاصل انه فرق بين الاحتياط و تكرار العمل المشكوك فيه، و بين الترديد في الإنشاء، و ذلك

لان المحتاط يقصد إيجاد علقة الزوجية، أو يبرزها بمبرز لفظي في ضمن كل من الصيغتين من غير ترديد فهو جازم بالإنشاء عند ذلك و انما يشك في الخارج عن محيط الإنشاء، و هو إمضاء الشارع و حكمه بتحقق الزواج بذلك، و إمضاء الشارع و عدمه أجنبي عن إنشاء المنشئ و اعتباره.

و لذا يتحقق الإنشاء و اعتبار الملكية ممن يعلم بعدم صحة البيع الربوي مثلا، و إلغاء الشارع ملكية الخمر، و الخنزير، فالترديد فيما هو الممضى شرعا لا فيما أنشأه المنشئ فحديث ترتب الأثر شرعا على عقد، غير مرتبط بالترديد في قصد الإنشاء، و بينهما بون بعيد.

فظهر مما ذكرنا جواز الاحتياط في كل من المعاملات بالمعنى الأعم، و المعاملات بالمعنى الأخص، مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و لذا ترى سيرة الصلحاء من السلف الى الخلف على الاحتياط في كل منهما خصوصا في إجراء صيغة النكاح فتريهم لا يكتفون بصيغة واحدة حتى يأتونها بصيغ متعددة.

بقي الكلام في الاحتياط في العبادات- اعنى الأمور التي يعتبر فيها قصد القربة و الامتثال.

اشارة

و لا يخفى ان مصب الإشكالات و المناقشات انما هو في الاحتياط في هذا القسم خصوصا فيما إذا استلزم الاحتياط تكرار جملة العبادة، مع التمكن من الامتثال التفصيلي و لعل مصب ما حكى عن المشهور من بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد، هو الأمور العبادي كما يشير الى ذلك ما حكى عن ظاهر السيد المرتضى في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 112

..........

______________________________

مسئلة الجاهل بوجوب القصر تقريرا لأخيه السيد الرضى (قدس سرهما) من ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم حكمها، و يحكى ذلك عن شيخ الطائفة (قدس سره) أيضا.

و مع ذلك الأقوى أيضا جواز الاحتياط فيها مطلقا.

توضيح المقال يستدعي البحث في مقامين الأول: الاحتياط مع

عدم التمكن من الامتثال التفصيلي. و الثاني: الاحتياط مع التمكن منه.

المقام الأول و هو الاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي
اشارة

و ذلك مثل الصلاة في ثوبين يعلم بنجاسة أحدهما و لم يتمكن من الصلاة في الثوب الطاهر.

لا يخفى ان جواز الاحتياط فيه واضح لا ينبغي الإشكال فيه لان عمدة المناقشات مختصة بصورة التمكن من الامتثال التفصيلي بل لعله لم يوجد مخالف في ذلك الا ما حكى عن ظاهر الحلي (قدس سره) فمنع من الاحتياط و قال بفعل الصلاة عاريا عند اشتباه الثوب الطاهر بالنجس، و مرجع فتواه الى سقوط شرطية الستر عند ذلك و اختصاصها بصورة العلم التفصيلي بالطهارة.

الاستدلال لمنع الاحتياط في صورة عدم التمكن من العلم التفصيلي و دفعه

و استدل لمقالة بوجهين.

الأول: ان الاحتياط بفعل صلاتين نحو تشريع و بدعة لعدم ندب الشرع بهما و ما ندب اليه انما هو صلاة واحدة.

الثاني: ان التكرير يوجب إلقاء قصد الوجه المعتبر حال الاشتغال بالعمل العبادي و لا يخفى ما في كلا الوجهين.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 113

..........

______________________________

اما حديث التشريع و البدعة فواضح لمضادة الاحتياط الذي هو عبارة عن إتيان ما يحتمل انه من الدين برجاء إحراز ما هو الواقع فيه، مع التشريع الذي هو عبارة عن إدخال ما علم عدم كونه من الدين، أو لم يعلم انه من الدين، في الدين على انه من الدين و الفرق بينهما واضح إلى النهاية.

و بما ذكرنا يعلم ان موارد الاحتياط دائما ليست من البدعة و التشريع في شي ء و اما حديث الإخلال بقصد الوجه ففيه:

أولا: ما سيجي ء عن قريب من عدم اعتبار قصد الوجه في صورة التمكن من الامتثال التفصيلي فما ظنك في المتعذر منه.

و ثانيا: ان القائلين باعتباره يرونه في صورة التمكن من معرفة الوجه و الامتثال التفصيلي لا مطلقا حتى في صورة عدم التمكن منه، و الا يلزم عدم جواز العمل

بالاحتياط في العبادات أصلا، و هو بمكان من الضعف كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه فتدبر.

المقام الثاني و هو الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي

و هو تارة فيما إذا لم يستلزم الاحتياط تكرار جملة العمل كما إذا شك في وجوب شي ء كالدعاء عند رؤية الهلال، أو شك في جزئته للمركب، أو شرطيته له فلان مقتضى الاحتياط فيه هو الإتيان بما يحتمل وجوبه، و إتيان الجزء أو الشرط المشكوك فيه رجاء من دون لزوم تكرار جملة العمل.

و اخرى فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل كاشتباه القبلة بين جهتين أو أكثر.

الاحتياط في العبادة إذا لم يستلزم تكرار جملة العمل فالكلام يقع في موردين
المورد الأول: فيما لم يستلزم الاحتياط تكرار جملة العمل
اشارة

.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 114

..........

______________________________

صور الاحتياط في العبادة و الشك تارة في عبادة نفسية، كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و اخرى في عبادة ضمنية كما إذا شك في جزئية شي ء للمأمور به، أو شرطيته له، بان شك في جزئية السورة للصلاة مثلا، أو شك في اعتبار الطمأنينة فيها.

و لا يخفى ان الشك في الصورتين طورا يكون مقرونا بالعلم بتعلق الأمر و يكون أصل المحبوبية محرزا فيكون الشك في خصوصيات الطلب كما إذا علم محبوبية الدعاء عند رؤية الهلال و تعلق الطلب به، و لكن شك في وجوبه أو استحبابه أو علم محبوبية السورة، أو الطمأنينة، في الصلاة و تعلق الطلب به و لكن شك في وجوبهما أو استحبابهما.

و اخرى يكون مقرونا مع الشك في أصل المحبوبية و الطلب و ذلك في الأمثلة المذكورة إذا فرض الشك في أصل المحبوبية و الطلب، و من أمثلة هذه الصورة ما إذا شك في الوضوء بعد غسل الجنابة.

إذا عرفت ما ذكرنا فهل يحسن الاحتياط في جميع الصور، أو لا كذلك، أو يفصّل بين ما إذا كان أصل المحبوبية و الطلب محرزا و بين عدمه؟ وجوه بل أقوال في بعضها.

حاصل المقال في عدم جواز

الاحتياط في العبادات غير المستلزمة للتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي يرجع الى إحدى هذه المناقشات و كلها مدفوعة.

منافاة الاحتياط مع تعلم الأحكام و دفعها

احداها: أدلة وجوب تعلم الأحكام فان مقتضاها لزوم تعلم الأحكام اجتهادا أو تقليدا مهما أمكن فلا يجوز الاكتفاء بالاحتياط عند التمكن من المعرفة.

و فيها: انه كما أشرنا انه لا يستفاد مما دل على وجوب التعلم كون التعلم واجبا نفسيا أصليا، بل واجبا إرشاديا، أو نفسيا تهيئيا، و حيث انه لا ملازمة و لا مقدمية بين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 115

..........

______________________________

العلم و العمل، لإمكان إحراز الواقع، و العلم به بإتيانه بالاحتياط، فلم يكن وجوب التعلم نفسيا فيكون إرشاديا للتحفظ على عدم الوقوع في خلاف الواقع، فيكون المقصود منه عدم معذورية الجهل الناشي عن ترك التكلم في مخالفة الواقع.

نعم الجهل بعد التعلم المساوق للجهل المركب إذا لم يكن مسببا عن تقصير في مقدماته إذا ادى الى مخالفة الواقع يعد عذرا لاندراجه في الحقيقة في الجهل القصورى.

إخلال الاحتياط بقصد الوجه و التمييز مع وجوبهما و دفعه

و ثانيتها: ان الاحتياط يوجب الإخلال بقصد الوجه و التمييز المعتبرين في العبادة حين العمل مع التمكن منه.

و قد يوجه لاعتبارهما في العبادة مضافا الى الإجماع المدعى في لسان المتكلمين و غيرهم: بان العقل يستقل بحسن الإتيان بالمأمور به بقصد الوجوب أو الاستحباب متميزا عن غيره، بل لا حسن في العمل الفاقد لهما بداهة ان الحسن و القبح يختلفان بالوجوه و الاعتبارات فربما يتصف فعل واحد كضرب اليتيم مثلا تارة بالحسن و المحبوبية إذا كان للتأديب، و اخرى بالقبح و المبغوضية إذا كان للتشفي فإذا كانت جهة الحسن معلومة فيقصدها و الا فيقصد العنوان المشير اليه كقصد الوجوب أو الاستحباب.

و لو شك في اعتبارهما في تحقق الامتثال لاحتمال عدم حصول القرض الا بهما فمقتضى الأصل الاشتغال فلا يكاد يحرز الامتثال الا بقصد أحدهما مهما

أمكن.

و فيها: أولا: ان الأصل في اعتبارهما هم المتكلمون و وافقهم على ذلك بعض الفقهاء، و المظنون ان مستند المجمعين هو حكم العقل المذكور أو ما أشرنا إليه من الشك في صدق الإطاعة و الامتثال بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي و من الواضح كما قرر في محله عدم استكشاف الإجماع الكذائي عن قول المعصوم عليه السّلام فمحصله غير مفيد فضلا عن منقوله، و قد حكى عن المحقق (قدس سره): ان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 116

..........

______________________________

ما اعتبره المتكلمون من اعتبار قصد الوجه و التمييز كلام شعري.

و ثانيا: انه على تقدير تمامية الإجماع فالقدر المتيقن منه هو لزوم اعتبار قصد الوجه و التمييز في تمام العمل لا في مفروض المقام.

و ثالثا: ان العقل لا يستقل بذلك و غاية ما يدركه هو لزوم الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه من الاجزاء و الشرائط و المفروض تحققه بالإتيان بالأكثر و ما احتمل وجوبه، و حديث كون الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات أجنبي عن المسئلة كما لا يخفى.

و رابعا: لو سلم حكم العقل فغاية ما يمكن ان يقال ان الحسن المدعى انما هو في الإتيان بمجموع الاجزاء و الشرائط بقصد الوجه و التمييز لا في كل واحد منهما.

و بالجملة لو تم ذلك فإنما يكون في الواجبات النفسية، و اما في الواجبات الضمنية فلا تنافي بين الاحتياط و قصد الوجه، لان المركب الاعتباري الذي يعد عملا واحدا، كالصلاة مثلا، يمكن ان يؤتى به بقصد الوجوب، حين الشروع و ان اشتملت على اجزاء غير واجبة، و لا يحتاج الى قصد الوجوب في كل جزء و شرط بل لا يصح لعدم إحراز اشتمال

كل جزء من اجزائه أو شرط من شرائطه على جهة حسن، غير الحسن الذي في المجموع المركب.

فاذا لا مانع من قصد عنوان نفس العمل فيقصد الصلاة مثلا موجها و ممتازا مع الإتيان بما يشك في وجوبه الضمني.

و لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتبارهما فمقتضى الأصل- و ان كان الشك في حصول الغرض- البرائه. كما قرر في محله.

و الحاصل انه لا بد في اعتبار قصد الوجه و التمييز من دلالة دليل شرعي، و لم يقم في الشريعة المقدسة ما يدل على اعتبارهما، و حيث ان المقام مما يعم به البلوى في كل يوم و ليلة فلو كانا معتبرين في الشريعة لبان و ظهر. فمن عدم وجود الأمر بهما في الاخبار يستكشف عدم وجوبهما واقعا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 117

..........

______________________________

و بالجملة يكون المقام من صغريات كبرى ان عدم الوجدان يدل على عدم الوجود فتدبر.

الشك في صدق الإطاعة بالاحتياط مع التمكن من الاجتهاد أو التقليد و دفعه

ثالثتها: الشك في صدق الإطاعة و الامتثال الإجمالي بالاحتياط مع التمكن من العمل على طبق الاجتهاد أو التقليد و المرجع عند ذلك الاشتغال، و ان قلنا بالبراءة عند الشك في اجزاء المأمور به و شرائطه، لأن مرجع الشك في المقام الى الشك في صدق الإطاعة المتأخرة، عن الأمر، المتأخر عن المأمور به، و لا يمكن أخذ ما يأتي من ناحية الأمر في متعلقة كما لا يخفى، و كلما لا يكون قابلًا للوضع و الجعل لا يكون قابلًا للرفع فلا يصح التمسك لرفعه بإطلاق الأدلة و لا يمكن نفى اعتباره بالأصل، بل يتعين في مثل ذلك الرجوع الى أصالة الاشتغال و الاحتياط.

و فيها: انه قد أشرنا أنفا انه لا يعتبر قصد الوجه و التمييز في تحقق الإطاعة

عند العرف و العقلاء، و لا يرون اى فرق بين العبادة و غيرها، في صدق الإطاعة الا من جهة انه يعتبر في العبادة ان يوتى به مضافا اليه تعالى، بخلاف غيره، لحصول الغرض منه بنفس إتيانه كيف اتفق.

و واضح ان الإضافة إليه تعالى كما تتحقق بإتيان المأمور به على وجه التفصيل فكذلك تتحقق بالإتيان به على وجه الإجمال و لذا تريهم من غير نكير، يعدون الاتى بجزء، أو شرط، رجاء، ممتثلا، و ان كان متمكنا من إتيانهما على التفصيل.

و عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) التصريح بعدم توقف الإطاعة عليهما فلا ريب في عدم الاعتبار بل كما تقدم عن المحقق (قدس سره) ان ما اعتبره المتكلمون من اعتبار قصد الوجه و التمييز كلام شعري.

و لو وصلت النوبة إلى الشك في صدق الإطاعة بدون قصد الوجه فيمكن التمسك بالإطلاق المقامى لنفى اعتباره، لان قصد الوجه مما يغفله العامة، فلو كان دخيلا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 118

..........

______________________________

في حصول الغرض، كان على الشريعة المقدسة بيانه، و لو بدليل أخر، و حيث لم يبين فيصح التمسك لنفى اعتباره بالإطلاق المقامى، و مع إطلاق الدليل لا وقع لجريان الأصول.

و مع قطع النظر عن إطلاق الدليل يكون مقتضى الأصل البراءة، دون الاشتغال خلافا لما عن الشيخ في خاتمة الأصول فقال بالاشتغال، مستندا الى ان الشك في المقام الشك في الامتثال، بعد العلم بما هو المأمور به، و حكم العقل قاضٍ بالاحتياط.

و فيه ان الشك في الامتثال ناش عن احتمال اعتبار الشرع في متعلق امره، و الا فمع عدم الاعتبار عنده لا مجال للشك لحصول الامتثال بالإتيان بما هو المعلوم لديه، و للشارع ان يتصرف

في موضوع الإطاعة بازدياد بعض الشرائط و القيود، فتجري البراءة عما شك في اعتباره، و ان كان من شرائط الامتثال.

و بالجملة حيث انه لا شك في المقام في مفهوم العبادة بل الشك في واقعها فمرجع الشك حينئذ الى ان الشارع هل اعتبر في متعلق الأمر التحرك عن تحريكه مع التمكن- من العلم بما هو الواجب- أو انه اعتبر الأعم منه و من التحرك عن احتمال الأمر. فلا فرق في جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في القيود المشكوكة بين كونها من قيود الامتثال أو قيود المأمور به.

هذا إذا لم يكن الشرط المشكوك فيه مما يعتبر عند العقلاء في الإطاعة كقصد الوجه، و اما إذا كان معتبرا عندهم كعدم تكرار الكثير بدون داع عقلائي فمع الشك في اعتباره عند الشرع لا تجري البراءة و لا بدله من الاحتياط.

و حديث عدم إمكان أخذ ما يكون متأخرا عن الأمر إلى آخر ما ذكره مخدوش لما تقرر في محله من إمكان أخذه بدليل آخر بنتيجة التقييد فاذا لم يؤخذ في دليل أخر فمقتضى أصالة البراءة عدم الاعتبار فلا يجب اعتبارهما.

فتحصل مما تقدم ان القول بعدم صحة الامتثال الإجمالي في الأمر العبادي إذا لم يستلزم التكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي من الاجتهاد أو التقليد غير وجيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 119

عدم كون الاحتياط امتثالا في صورة التمكن من الامتثال التفصيلي إذا لم يعلم أصل الطلب و دفعه

______________________________

رابعتها: ما حكاه بعض الأساطين (دام ظله) عن المحقق النائيني (قدس سره) فقال انه اختاره في الدورة الأخيرة و هو التفصيل بين ما إذا كان أصل المحبوبية و الطلب محرزا، و بين عدمه، بجواز الاحتياط في الأول، دون الأخير، و حاصله.

انه مع العلم بتعلق الأمر و الطلب و ان كان عنوان

وجوبه، أو استحبابه مشكوكا و لكن لا يوجب ذلك إشكالا في جواز الاحتياط، لإمكان الإتيان بالعمل بداعي الأمر للعلم بوجوده و تعلقه بالعمل.

نعم لا يمكننا الإتيان به بقصد الوجه، الا انه غير معتبر في العبادة.

و اما إذا لم يعلم تعلق الأمر به و لكن على فرض التعلق يكون عباديا، يعتبر ان يؤتى بقصد القربة، كالوضوء بعد غسل الجنابة، فإن الوضوء و ان كان عملا عباديا، يعتبر فيه قصد القربة قطعا، الا ان الشك في تعلق الأمر به بعد غسل الجنابة، فلا مجال للاحتياط و الإتيان به رجاء في امتثال ذلك مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و ليس هذا من جهة اعتبار قصد الوجه، و التمييز، في المأمور به بل لأجل أن الامتثال الإجمالي، في طول الامتثال التفصيلي الذي هو عبارة عن التحرك و الانبعاث بتحريك المولى، و بعثه، و من الواضح عدم تحقق ذلك في الاحتياط، بداهة أن انبعاثه باحتمال البعث لانفسه و لا يصار اليه مع التمكن من انبعاثه بنفس بعث المولى و امره.

و بالجملة الاحتياط و إتيان العمل رجاء، و ان كان يعد امتثالا، الا انه في طول الامتثال التفصيلي و في صورة عدم التمكن من الامتثال.

و لو شك في كون الامتثال الإجمالي في عرض التفصيلي أو في طوله، فالمرجع الاشتغال لرجوع الشك في كيفية الإطاعة و الامتثال و انه هل يلزم ان يكون تفصيليا أو يكفي فيه الاحتياط فلا بد من الاحتياط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 120

..........

______________________________

و بعبارة أخرى مرجع الشك الى الشك في التعيين و التخيير و هو مورد لقاعدة الاشتغال «1».

و فيه: انه كما تقدم جواز الاحتياط و حسنه في المعاملات بالمعنى الأعم و المعاملات

بالمعنى الأخص، مع التمكن من تحصيل العلم، بلا طولية بين الامتثال الإجمالي و الامتثال التفصيلي، بل هما كفرسي رهان في عرض واحد و العرف و العقلاء ببابك فاختبرهم فتريهم شاهد صدق على ما ذكرنا، فتريهم يرون المحتاط المتمكن من الامتثال التفصيلي مطيعا و منقادا، و عمله اطاعة و امتثالا.

و من المعلوم انه لا فرق بين العبادة و غيرها الا من جهة انه لا بد في العمل العبادي ان يؤتى به مضافا اليه تعالى خالصا لوجهه الكريم، و معلوم ان الإضافة إليه تعالى كما يتحقق بالإتيان بالمأمور به على وجه التفصيل كذلك يتحقق بالإتيان به على وجه الإجمال، و لذا تريهم لا يشترطون في العمل بالاحتياط عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بل متفقون على انه إذا اتى العبد بعمل رجاء لاحتمال مطلوبيته مع التمكن من الإتيان به على وجه التفصيل، يعدونه مطيعا و منقادا.

و قد أشرنا في ذيل المناقشة الثالثة: انه لو شك في ذلك فمقتضى الأصل البراءة لا الاشتغال، لان مرجع الشك هنا بعد العلم بمفهوم العبادة إلى انه هل اعتبر الشارع في متعلق أمره ان يكون تحرك العبد و فعله بتحريك المولى و امره مع التمكن، أو يكفى ان يكون تحركه و لو عن احتمال الأمر.

فالجامع بين الاحتمالين و هو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الامتثال معلوم، و اما اعتبار كون التحرك و الانبعاث بتحريكه فمشكوك فيه، فيرجع الى البراءة لما تقرر من جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

فظهر مما ذكرنا ان الحق جواز الاحتياط فيما لم يستلزم تكرار جملة العمل مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي من غير فرق بين الاستقلالية و الضمنية، و من غير

______________________________

(1) التنقيح ج 1/

69.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 121

..........

______________________________

فرق بين ما إذا كان أصل المحبوبية معلوما أم لا.

المورد الثاني فيما إذا استلزم الاحتياط في العبادة تكرار جملة العمل للمتمكن من الامتثال التفصيلي.
اشارة

و ذلك مثل دوران الأمر بين المتباينين بان تردد الصلاة الواجبة بين القصر و الإتمام، أو بين الجهر و الإخفات، أو بين الظهر و العصر، الى غير ذلك.

فهل يصح الاحتياط فيها بالتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد أم لا؟.

و لعل عمدة اشكال المشهور في بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد هي هذه الصورة.

و ربما يناقش الاحتياط في هذه الصورة من صحح الاحتياط في الصور المتقدمة، و بعض الإشكالات في هذه الصورة و ان كان مشتركا بينها و بين ما تقدم الا ان لها ما يختص به و لا بأس بالإشارة إلى عمدة الإشكالات فيها فنقول.

إشكالات عدم جواز الاحتياط في العبادات مع التمكن من الامتثال التفصيلي فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل إخلال الاحتياط بقصد الوجه و التمييز و دفعه
اشارة

الأول و الثاني: ان الاحتياط كذلك يوجب الإخلال بقصد الوجه، أو التمييز في العبادة، و قد تقدم تقريبه في المورد الأول فليراجع.

و فيه أولا: كما أشرنا إليه انه لا يعتبر قصد الوجه في حقيقة الإطاعة عند العقل لأن حقيقة الطاعة عنده عبارة عن الانبعاث عن البعث و كون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الأمرية، و هذا لا يتوقف على معرفة الوجه و قصده و غاية ما يقتضيه هي ان يكون الداعي إلى الفعل إرادة الأمر، و اما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في حكم العقلاء أصلا، فلو كان قصد الوجه أو التمييز معتبرا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 122

..........

______________________________

فلا بد و ان يكون بأمر شرعي.

و ليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك مع كونه مما تعم به البلوى فعدم الوجود في مثله دليل على العدم حسبما تقدم.

فالإنصاف ان مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه و التمييز في العبادات غير مجازف.

و ثانيا: كما

أفيد: ان الاحتياط في المقام غير مخل بقصد الوجه لان المكلف إنما يأتي بالصلاتين بداعي امتثال الأمر الوجوبي المتعلق بإحداهما، و هي غير متميزة نعم ان عمله كذلك مخل بقصد التمييز و لا بأس به لأنه لا دليل على اعتباره «1».

و بالجملة ان المكلف إنما يأتي بالواجب المردد بين الفعلين لوجوبه بحيث لو لا كونه واجبا لما اتى بشي ء من المحتملين فقصد الوجه أمر ممكن في المقام لان معناه ان يؤتى بالعمل لوجوبه أو استحبابه و قد عرفت ان المكلف إنما يأتي بالعمل لوجوبه «2».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 122

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في اعتبار قصد الوجه، و الأصل في ذلك البرائه لا الاشتغال لان الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع الى الشك في اعتبار قيد في المأمور شرعا، زائدا عما يعتبره العقل و العقلاء، و المرجع البراءة.

الاحتياط لعب و عبث بأمر المولى و دفعه

الثالث: ان الاحتياط في المفروض لعب و عبث عند العقلاء مع التمكن من الامتثال التفصيلي لأن المكلف مع قدرته على تحصيل العلم بواجبه العبادي وجدانا أو تعبدا، و تمكنه من الإتيان به من غير ضم ضميمة إذا اتى به مع الضمائم، في ضمن أفعال متعددة، يعد عمله عبثا و لعبا و ما كان كذلك لا يمكن ان يقع مصداقا للامتثال، لأنهما مذمومان و المذموم لا يقع مصداقا.

و فيه أولا: ان الاحتياط مع التكرار لا يلازم كونه عبثا و لغوا لأنه قد يتعلق

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 30.

(2) التنقيح ج 1/ 74.

الدر النضيد في

الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 123

..........

______________________________

غرض عقلائي به كما إذا توقف تحصيل العلم بالواجب و الامتثال التفصيلي على مؤنة زائدة على الاحتياط كصرف وقت زائد للمطالعة أو المشي إلى مكان بعيد للسؤال عن حكم المسئلة، و الاحتياط في مثل ذلك لا يعد عند العقلاء لغوا و عبثا كما لا يخفى.

و ثانيا: انه إذا عد في مورد لعبا و عبثا كما إذا أشبهت القبلة بين اربع جهات و المكلف يتمكن من تحصيل العلم بالقبلة بسهولة، الا ان ذلك في كيفية الامتثال و هو لا يضر بصحة الامتثال، لان الواجب من الامتثال انما يتحقق بواحدة من تلك الصلوات، و هي الصلاة الواقعة إلى القبلة لا لعب فيها و لا عبث و انما هما في طريق إحراز الامتثال، لا في نفس الامتثال، فيصح الاحتياط في العبادات و ان استلزم التكرار.

و سيجي ء بعض الكلام في جوازه بل في حرمته في ذيل المسئلة الرابعة فارتقب حتى حين.

عدم كون الاحتياط امتثالا مع التمكن من الامتثال التفصيلي
اشارة

الرابع: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) و كان مصرا عليه قال ما حاصله.

«ان مراتب الامتثال و الإطاعة عند العقل أربعة.

الاولى: الامتثال التفصيلي سواء كان بالعلم الوجداني، أو بالطرق، و الأمارات و الأصول المحرزة، التي تقوم مقام العلم فان الامتثال بالظنون الخاصة و بالأصول المحرزة، يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني.

الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الوجداني.

الثالثة: الامتثال الظني.

الرابعة: الامتثال الاحتمالى كما في الشهبات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الوجداني عند تعذر الامتثال الإجمالي و الظني.

لا إشكال في انه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالى، الا بعد تعذر الامتثال الظني

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 124

..........

______________________________

و لا تصل النوبة إلى الامتثال

الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي.

و انما الإشكال في المرتبتين الأوليتين فقيل انهما: في عرض واحد، و قيل بتقديم مرتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان، على الامتثال الإجمالي، و على ذلك يبتني بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد أو التقليد و العمل بالاحتياط، و هذا هو الأقوى. و لكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل فإن حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون الداعي و المحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به و انطباق المأمور به عليه، و هذا المعنى في الامتثال الإجمالي غير متحقق فإن الداعي له نحو العمل، في كل واحد من فردي الترديد، ليس الا احتمال تعلق الأمر به فإنه لا يعلم انطباق المأمور به بالخصوص عليه.

نعم بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه، و الذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو ان يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل، و مجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي ان يكون الانبعاث عن البعث المولوي بل أقصاه ان يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة الى كل من العملين.

نعم الانبعاث عن احتمال البعث و ان كان أيضا نحوا من الطاعة عند العقل الا ان رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف ان من ادعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية و الحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه.

مع انه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت ان الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة لان مرجع الشك في ذلك الى الشك في التخيير بين

الامتثال التفصيلي و الإجمالي و بين تعين الامتثال التفصيلي اه» «1».

______________________________

(1) فوائد الأصول ج 4/ 93 ط نجف الأشرف.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 125

..........

______________________________

أقول: محط البحث كما لا يخفى هو ما إذا كان الامتثال الإجمالي واجدا لجميع ما هو المأمور به بشرائطه و قيوده بحيث لا يكون فرق بين الامتثال الإجمالي و بين الامتثال التفصيلي الا من جهة الإجمال و التفصيل فقط.

و بالجملة محل البحث هو ان العقل هل يحكم بلزوم العلم التفصيلي بالمأمور به حال الإتيان به، و ان الموافقة الإجمالية القطعية لا تفيد مع الإتيان بالمأمور به بجميع اجزائه و شروطه أم لا.

وجوه الرد على مقال المحقق النائيني (قده)

فاذا لا يخفى ان ما افاده (قدس سره) لا يخلو من نظر من وجوه أشار الى جملة منها أستادنا العلامة الخمينى دام ظله.

فأولا: انه لا دليل على انحصار الإطاعة في الانبعاث عن البعث و الأمر بل يعم الانبعاث عن احتمال البعث و الأمر أيضا.

بل آلاتى بداعي احتمال الأمر و البعث أطوع ممن يقتصر على الإتيان بالبعث القطعي لان البعث عن احتمال الأمر كاشف عن قوة المبادي الباعثة إلى الإطاعة في نفس المطيع من الإقرار بعظمته و الخضوع لديه.

و ثانيا: انه ليس الانبعاث أصلا عن بعث المولى و امره الواقعي و الا لزم الإلجاء و عدم صدور العصيان من أحد بل الباعث هو تصور أمر الأمر و ما يترتب عليه من العواقب و الآثار فيبعث عن تلك المقدمات رجاء الثواب، أو خوفا من العقاب و هذا المعنى موجود عند الانبعاث عن احتمال البعث.

و بالجملة الباعث هو المبادي الموجودة في نفس المطيع من الخوف و الخضوع و هو موجود في كلا الامتثالين- اى عند العلم بالأمر،

أو احتماله.

و ثالثا: ان الباعث للإتيان بالأطراف انما هو العلم بالبعث المردد بين الأطراف فالانبعاث انما هو عن البعث في الموافقة الإجمالية أيضا و الإجمال انما هو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 126

..........

______________________________

في المتعلق «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد:

«فعل كل واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب و الاحتمال دخيل في داعوية الأمر لا انه الداعي اليه و الا كان اللازم في صورة العلم التفصيلي البناء على كون الفعل بداعي العلم بالأمر، لا بداعي نفس الأمر، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر، و بالجملة العلم في صورة العلم التفصيلي و الإجمالي في صورة عدمه دخيلان في داعوية الأمر إلى الفعل لا انهما داعيان اليه اه» «2».

و بعبارة ثالثة كما أفيد أيضا «ان المكلف في الامتثال الإجمالي انما ينبعث إلى الإتيان بالواجب المردد بين الفعلين عن الأمر الجزمى المتعلق به و غاية الأمر انه لا يتمكن من تطبيق الواجب على المأتي به لا انه ينبعث اليه عن احتمال الأمر و ذلك للعلم بوجوب أحدهما على الفرض.

فغاية ما يقتضيه الاحتياط المستلزم للتكرار هو فقدان التمييز، إذ لا يمكن معه تمييز أن أيا منهما واجب، و أيا منهما مستحب، أو مباح، و لا دليل على اعتبار قصد التمييز أصلا» «3» و بعبارة رابعة كما أفيد أيضا:

ان العقل لا يستقل بكون الامتثال الاحتمالى في طول الامتثال الجزمى بل لا شأن للعقل إلا إدراكه لزوم الإتيان بما تعلق به أمر المولى من دون ان يكون له دخل في الحكم بوجوب شي ء أو بعدمه: و بما ان العبادة مقيدة بالإتيان بها مضافة الى المولى- و ان الإضافة تتحقق بالإتيان بها برجاء الأمر- لا

يبقى مجال لاحتمال ان يكون الامتثال الاحتمالى في طول الامتثال الجزمى اه» «4».

______________________________

(1) جواهر الأصول تقريرنا للمباحث الأصولية لأستادنا العلامة الخمينى دام ظله مخطوط، و أشير الى ما ذكرنا في التهذيب أيضا ج 2/ 128.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 8.

(3) التنقيح ج 1/ 74.

(4) الدروس ج 1/ 30.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 127

..........

______________________________

و رابعا: انه لو قلنا بلزوم كون الانبعاث عن البعث في صدق الإطاعة فلا بد من القول بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الاجزاء و الشرائط أيضا مع انه لا إشكال في جوازه حتى من المحقق النائيني، بيان الملازمة هو ان الاجزاء و الشرائط و ان لم تكن متعلقة للأمر مستقلا لكن الانبعاث نحوها يكون بواسطة بعث المولى إلى الطبيعة فما لم يعلم ان السورة مثلا جزء من الصلاة لا يمكن ان يصير الأمر المتعلق بالطبيعة باعثا إليها فالإتيان بالسورة المشكوك فيها ليس انبعاثا عن البعث القطعي و هو كما ترى.

و خامسا: ان ما ذكره (قدس سره) في مقتضى الأصل لا يمكن المساعدة عليه لما أشرنا كما أفيد: ان مرجع الشك في المقام الى الشك في اعتبار العلم بالأمر في تحقق الإطاعة و عدمه فيكون من قبيل الأقل و الأكثر لا من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد أيضا ان المرجع معه البرائه لا الاشتغال لان مرجعه الى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة- و هو لزوم الانبعاث عن بعث المولى دون احتماله- و في مثله تجري البراءة «2».

فتحصل مما ذكرنا بطوله جواز الاحتياط في جميع الموارد سواء كان المورد معامليا بالمعنى الأعم، أو الأخص، أو عباديا تمكن من

الامتثال التفصيلي، أو لا، استلزم تكرار جملة العمل، أم لا، كان الاحتياط في التكليف الاستقلالي، أو في التكليف الضمني.

نعم لنا إذا استلزم تكرار جملة العمل اللعب بأمر المولى كلام نشير إليه في ذيل المسئلة الرابعة فارتقب حتى حين.

تفاوت موقف احتياط المجتهد و احتياط غيره

بقي الكلام في قول الماتن (قدس سره) بجواز الاحتياط مجتهدا كان أولا.

______________________________

(1) المستمسك ج 1/ 4.

(2) الدروس ج 1/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 128

..........

______________________________

أقول: لا يخفى ان موقف احتياط المجتهد و غيره متفاوتة لكفاية احتياط غير البالغ مرتبة الاجتهاد بالنسبة إلى أقوال المجتهدين الذين يصح له المراجعة إليهم، و اما المجتهد فلا بد له من الاحتياط في جميع الجوانب و ملاحظة آراء غير المجتهدين الأحياء أيضا، و وجه واضح.

لا موقف لتجويز الاحتياط بالنسبة إلى المجتهد

ثم انه لا موقف لهذا الفتوى بالنسبة إلى المجتهد الذي لا بد له من معرفة جواز ذلك بالاجتهاد فتدبر.

وجه لزوم معرفة كيفية الاحتياط في العمل به

و اما قوله (قدس سره) يجب ان يكون عارفا بكيفية الاحتياط فوجهه واضح لان العمل بالاحتياط لا يكاد يتحقق الا بعد معرفة الاحتياط و موارده بالاجتهاد أو التقليد، و الا فلا يقدر على الاحتياط و لا يكاد يحصل له المؤمن من العقوبة كما لا يخفى، فوجوب المعرفة بحكم العقل، إرشادي من باب لزوم المطابقة، لا مولوي شرعي.

و لا يخفى ان لزوم معرفة ذلك انما هو فيما إذا كان المورد من المسائل النظرية و الا فلا يجب التقليد عند ذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 129

[مسئلة 3- قد يكون الاحتياط في الفعل و قد يكون في الترك]

مسئلة 3- قد يكون الاحتياط (1) في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجبا و كان قاطعاً بعدم حرمته، و قد يكون في الترك، كما إذا احتمل حرمة فعل و كان قاطعاً بعدم وجوبه، و قد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار كما إذا لم يعلم ان وظيفته القصر أو التمام (2)

______________________________

(1) لا يخفى ان الصور المذكورة في المتن غير حاصرة لأقسام كيفية الاحتياط لان الاحتياط بالجمع كما قد توجب تكرار أصل العمل، و قد لا يستلزمه، كما إذا تردد قراءة الجهر، و الإخفات في صلاة ظهر يوم الجمعة فيأتي بالقراءة مرتين: ينوي في إحديهما القراءة المأمور بها، و في الأخرى عنوان القراءة حيث يجوز قراءة القرآن في الصلاة، ثم ان الاحتياط قد يكون في ترك الفعلين كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر، كترك الخنثى لبس لباس المختص بالرجال، و النساء، و قد يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم إجمالا بوجوب الأول، و حرمة الثاني: لتردد دم المرية بين الاستحاضة و الحيض

فتجتمع بين أفعال المستحاضة و تروك الحائض.

(2) في عده القصر و التمام من تكرار العمل الواحد حقيقة نوع خفاء لاختلافهما في الكيفية و الكمية، و إطلاق التكرار عليه بلحاظ مفهوم الصلاة مسامحي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 130

..........

______________________________

أقول: ظاهر العبارة يعطي بأنه (قدس سره) بصدد حصر كيفية الاحتياط في الصور المذكورة و لا يخفى انه كما أفيد، ليس حاصرا لجميع الأقسام، لأنه مضافا الى ما ذكره في المتن قد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معا كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر، و قد يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم بوجوب الأول، أو حرمة الثاني فلا بأس بالإشارة إلى أقسام الاحتياط.

و ذلك لان متعلق الشك قد يكون واقعة واحدة و قد يكون واقعتين، و الواقعة الواحدة تارة يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها لئلا يكون من دوران الأمر بين المحذورين فالاحتياط يكون في الفعل سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليا، كالدعاء عند رؤية الهلال، أو ضمنيا كجلسة الاستراحة بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية من الركعة الاولى و الثالثة.

و اخرى يحتمل حرمتها مع القطع بعدم وجوبه فالاحتياط يكون في الترك كشرب التتن و النظر إلى الأجنبية في الماء.

و في صورة تعدد الواقعة تارة يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين: اما مع عدم تكرار أصل الواجب كما إذا دار الأمر بين وجوب الجهر أو الإخفات في صلاة يوم الجمعة لأمر بها في جملة من الاخبار و مقتضى الاحتياط عند ذلك تكرار القراءة فيها مرتين فيقرئها مرة إخفاتا، و اخرى اجهارا ناويا في إحديهما القراءة المأمور بها و في ثانيتها عنوان قراءة

القرآن لجواز قراءة القرآن في الصلاة، أو مع التكرار في أصل الواجب كما إذا علم إجمالا بأن وظيفته يوم الجمعة الظهر أو الجمعة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 131

..........

______________________________

و قد مثل الماتن (قدس سره) لذلك بدوران الأمر بين القصر و التمام و لكنه لا يخلو عن تسامح لأنه مع الاختلاف في الكيفية و الكمية لا يكون تكرارا حقيقة نعم يطلق عليه التكرار مسامحة بلحاظ مفهوم الصلاة.

و اخرى يكون الاحتياط في ترك الفعلين معا كما إذا علم بحرمة إحديهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الأخر كترك الخنثى لبس اللباس المختص بالرجال و النساء مثلا.

و ثالثة يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين و ترك الأخر كما إذا علم إجمالا بوجوب الأول أو حرمة الثاني كتردد الدم في المرية بين الحيض و الاستحاضة فتجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة.

ثم ان الاحتياط في الموارد المزبورة ليس على نسق واحد ففي بعضها يكون الاحتياط واجبا كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص و في بعضها الأخر غير واجب كالشبهات البدوية بعد الفحص و الشبهات الموضوعية مطلقا حسبما قرر في الأصول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 133

[مسئلة 4- جواز الاحتياط لو كان مستلزما للتكرار و إن أمكن الاجتهاد و التقليد]

اشارة

مسئلة 4- الأقوى جواز الاحتياط و لو كان مستلزما للتكرار (1) و أمكن الاجتهاد و التقليد.

______________________________

(1) ما لم يعد ملعبة بأمر المولى فيخرج عن طور الإطاعة عرفا فيحرم، و لكن مع ذلك لا يبعد الحكم بالاجتزاء به لتحقق الواجب من الامتثال منها.

و بالجملة غاية كون الاحتياط أحيانا ملعبة بأمر المولى انما توجب حرمته التكليفي و لا يمنع ذلك من الحكم بصحة الامتثال بذلك.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و

التقليد، ج 1، ص: 134

..........

______________________________

أقول: تقدم الكلام في حكم المسئلة في ذيل المسئلة الثالثة و ذكرنا هناك الإشكالات الطارية على جواز الاحتياط في العبادات مطلقا سواء استلزم التكرار و عدمه و دفعناها بحول اللّه و قوته، و وعدناك التكلم فيما إذا استلزم الاحتياط لعبا بأمر المولى فنقول ان تكرار العمل بالاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي على أنحاء.

عدم استلزام الاحتياط الموجب لتكرار جملة العمل اللعب بأمر المولى

فتارة لا يعد لعبا و عبثا لتعلق غرض عقلائي به كما إذا توقف الامتثال التفصيلي على مؤنة زائدة على أصل الاحتياط.

و بالجملة كما أفيد قد يكون في الفحص بالاجتهاد أو التقليد من العناء و المشقة ما لا يكون في الاحتياط.

و اخرى قد لا يكون للاجتهاد أو التقليد عناء، و مشقة أكثر من الاحتياط الا انه لا يقصر من الاحتياط و يكون حال المكلف بالنسبة إلى الاحتياط أو الاجتهاد أو التقليد متساويان، و غير خفي انه عند ذلك إذا اختار الاحتياط لا يعد عمله عبثا و لغوا.

و ثالثة يكون الاحتياط بتكرار العمل بحيث يعد ملعبة و عبثا بأمر المولى فعند ذلك يحرم الاحتياط.

و ذلك فيما إذا فرض انه أراد ان يصلى في مكان تردد فيه القبلة مثلا بين اربع جهات في خمسة أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه فالاحتياط في ذلك تبلغ مأة صلاة، الحاصلة من ضرب أربع في خمسة، ثم ضرب

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 135

..........

______________________________

حاصل الضرب في خمسة، مع انه يمكنه الإتيان بصلاة واحدة جامعة للشرائط الثلاثة فإن تردد أمر صلاته بين القصر و التمام أيضا تبلغ؟؟؟ عدد الصلوات الى مائتين، و كلما تردد أمره في شرط أو شرائط أخر تزيد عدد صلواته

عن خمسمائة صلاة بالنسبة إلى صلاة واحدة، و من الواضح ان تكرار صلاة واحدة بهذه الكثرة بل بدونها مع التمكن من إتيانها مرة واحدة اجتهادا أو تقليدا لعب و عبث بأمر المولى بل يكون ذلك شعبة من الجنون، و ربما يوجب اختلال النظام فلا يجوز ارتكابه. و ربما ادعى إجماع المسلمين فضلا عن أصحابنا على حرمته.

يمكن الحكم بصحة الاحتياط و ان كان لعبا

فاذا كان الاحتياط بتكرار العمل خارجا عن طور الامتثال عرفا و يصدق عليه عرفا انه لعب بأمر المولى بل ربما يعد ملعبة و استهزاء بالمذهب فالظاهر عدم جواز الاحتياط كذلك و حرمته.

و لكن مع ذلك لعله لم يمنع من الحكم بصحة الامتثال لان الواجب من الامتثال انما يتحقق بواحدة من تلك الصلوات و هي الصلاة الواقعة إلى القبلة في الثوب، و المسجد الطاهرين مثلا، و هي صلاة صحيحة لا لعب فيها و لا عبث و انما هما في طريق إحراز الامتثال لا انهما في نفس الامتثال فتدبر.

فظهر مما ذكرنا صحة الاحتياط في جميع الموارد حتى فيما إذا استلزم الاحتياط لعبا بأمر المولى لتحقق الواجب من الامتثال لواحدة منها، و غاية ما يقتضيه الاحتياط الكذائي هو حرمته التكليفي فقط فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 137

[مسئلة 5- نفس مسألة جواز الاحتياط يحتاج إلى التقليد أو الاحتياط]

اشارة

مسئلة 5- في مسئلة جواز الاحتياط يلزم ان يكون مجتهدا، أو مقلدا لان المسئلة خلافية (1).

______________________________

(1) ظاهر التعليل و ان كان يعطى عدم لزومهما عند كون المسئلة غير مختلف فيها، مع انه بمجردها لا يكفي الأمن من العقاب ما لم يستند إلى الحجة اجتهادا، أو تقليدا، و لكنه غير مراد له (قدس سره) بل مراده، ان الحكم بجواز الاحتياط حيث لم يكن بديهيا يحتاج إلى إعمال النظر بالاجتهاد، أو الرجوع الى قول الغير، فبعد كونه مختلفا فيه، يدور امره بين النقيضين، فلا مناص فيه من التقليد، أو الاجتهاد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 138

لا بد في جواز الاحتياط من الاجتهاد أو التقليد

______________________________

أقول: حاصل مراده (قدس سره): ان جواز الاحتياط كما تقدم مختلف فيه حيث ذهب بعضهم الى جوازه مطلقا، و بعض أخر الى عدم الجواز في العبادات مطلقا مع التمكن من الامتثال التفصيلي، و ثالث الى عدم الجواز مع التمكن فيما إذا استلزم الاحتياط تكرار جملة العمل الى غير ذلك من الأقوال، فيلزم في المسئلة المختلف فيها ان يكون مجتهدا، أو مقلدا، فلا يجوز للمجتهد ان يعمل به الا بعد استنباطه جواز العمل به كما ان غيره لا يجوز له العمل به قبل ان يراجع مجتهده في ذلك.

يلزم التقليد أو الاجتهاد في المسئلة و لو كانت غير مختلف فيها

و لا يخفى ان ظاهر التعليل بذلك يعطى عدم لزوم الاجتهاد أو التقليد إذا لم تكن المسئلة مختلفا فيها مع ان مجرد عدم الخلاف على حكم واقعا لا يكفي في حصول الأمن من العقاب للجاهل بالحكم بل لا بد و ان يستند إلى الحجة فيه من اجتهاد أو تقليد.

و لكن يمكن توجيه مقاله (قدس سره) بان مسئلة جواز الاحتياط حيث لم تكن من البديهيات بحيث لا يحتاج فيها الى الاجتهاد أو التقليد كما في المسئلة الاتية بل هي من المسائل النظرية، فلا بد فيها من اعمال النظر فيها بالاجتهاد، أو الرجوع الى قول العالم.

و بالجملة لما كانت المسئلة خلافية بين العلماء فلا يمكن فيها الاحتياط لدووان

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 139

..........

______________________________

الأمر بين النقيضين فلا مناص. فيها من التقليد أو الاجتهاد.

و بعبارة أوضح جواز الاحتياط ليس من المسائل القطعية التي لا يحتاج الى الاجتهاد أو التقليد بل هو محل الخلاف فلا مناص من تحصيل العلم بجوازه و مشروعيته اجتهادا أو تقليدا، و الا فلم يطمئن بعدم العقاب لاحتمال الحرمة و استحقاق العقاب

بارتكابه، و قد تقرر ان دفع ضرر العقاب المحتمل لازم و لا بد له من تحصيل المؤمن من العقاب فلا بد له لجواز الاحتياط من ان يستند الى الاجتهاد أو التقليد.

فظهر مما ذكرنا انه و ان قلنا ان طرق الامتثال ثلاثة: 1- الاجتهاد، 2- و التقليد، 3- و الاحتياط، الا انه في الحقيقة ثنائية لأنه لا بد لتارك طريقي الاجتهاد و التقليد من ان يكون مجتهدا، أو مقلدا في العمل بالاحتياط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 141

[مسئلة 6- لا موقف للتقليد و الاجتهاد في الضروريات و اليقينيات]

مسئلة 6- في الضروريات لا حاجة الى التقليد (1) كوجوب الصلاة، و الصوم، و نحوهما، و كذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين، و في غيرهما، يجب التقليد (2) ان لم يكن مجتهدا إذا لم يمكن الاحتياط، و ان أمكن تخير بينه و بين التقليد.

______________________________

(1) بل لا وقع للتقليد في الضروريات و اليقينيات.

(2) يعنى تعيينا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 142

..........

______________________________

لا موقف للتقليد و الاجتهاد في الضروريات و اليقينيات أقول: مراده (قدس سره) بالضروري، و اليقيني ما يكون كذلك عند الشخص.

و اما الشاك فيجب عليه التقليد، أو الاجتهاد، و ان كان المشكوك فيه ضروريا، أو يقينيا عند الناس.

و الوجه في عدم جريان التقليد في الضروريات، و اليقينيات بلحاظ انه حصل له العلم عند ذلك، و مع حصول العلم لا مجال للتعبد بالأمارة، من غير فرق بين كونها فتوى الغير، أو غيرها من الأمارات، لأنه تكون أسوأ أنحاء تحصيل الحاصل مع ان حجية الامارة مخصوصة بمن جهل الواقع فمع العلم به لا موقف للتعبد بالأمارة، كما لا يخفى.

و بما ذكرنا يظهر ان ما في المتن لا يخلو عن تسامح،

و حق العبارة ان يقول لا موقف للتقليد في الضروريات، و اليقينيات.

كما ظهر عدم معنى للاجتهاد: بمعنى تحصيل الحجة عند ذلك أيضا، فما في المتن من اختصاص ذلك بالتقليد غير ظاهر.

الا ان يقال ان الرسالة عملية فيكون (قدس سره) بصدد بيان حدود ما يجرى فيه التقليد فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 143

[مسئلة 7- عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل]

اشارة

مسئلة 7- عمل العامي بلا تقليد و لا احتياط باطل (1)

______________________________

(1) بمعنى عدم جواز الاقتصار عليه عقلا في مقام الامتثال ما لم ينكشف صحته اجتهادا، أو تقليدا، لا بمعنى عدم صحته، و ان كان مطابقا لأحدهما أو للواقع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 144

..........

______________________________

أقول: قد اعترض بعض الأعلام من المحشين على إطلاق ما في المتن، و قيّده بعضهم بما إذا خالف الواقع، أو فتوى من يجب تقليده، و لعله لا يبعد ذلك من الماتن (قدس سره) بقرينة ما سيجي ء منه في المسئلة السادسة عشر.

المراد ببطلان عمل العامي بلا تقليد و لا اجتهاد

و لكن يمكن ان يراد بالبطلان، البطلان بحكم العقل اعنى عدم جواز اكتفاء العامي بعمله بلا تقليد و لا احتياط ما لم ينكشف الخلاف، و ان كان صحيحا واقعا، أو مطابقا لرأي من يجب تقليده، نعم إذا انكشف مطابقته لأحدهما فيجتزى به.

و بالجملة غاية ما يقتضيه عدم تقليد العامي عدم الاجتزاء بما يأتي به الجاهل ما دام جاهلا لاحتمال فساده بحكم العقل لا عدم صحته واقعا كما استظهره بعض الأعلام فاذا انكشف مطابقته لأحدهما يحكم بالصحة و يترتب عليه آثارها.

مثلا إذا غسل ثوبه المتنجس مرة بالماء الطاهر، و هو لا يعلم كفايتها، فليس له ترتيب آثار الطهارة عليه، لاحتمال عدم حصول الطهارة، فمقتضى استصحاب النجاسة، بقائه على النجاسة ظاهرا، و عدم ترتب آثار الطهارة، عليه ما دام جاهلا، فاذا علم حصول الطهارة بالغسل مرة، أو كانت فتوى من يجب تقليده، الغسل مرة فيتجزى به و يترتب عليه آثار الطهارة.

و سيأتي مزيد توضيح لذلك، في القريب العاجل إن شاء اللّه فارتقب حتى حين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 145

[مسئلة 8- مباحث التقليد]

اشارة

مسئلة 8- التقليد هو الالتزام (1) بالعمل بقول مجتهد معين (2) و ان لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالة و التزم بما فيها كفى في تحقق التقليد

______________________________

(1) لا يتحقق عنوان التقليد، و لا ما هو وظيفة العامي (إن نوقش بعدم لزوم تحقق عنوان التقليد) بمجرد الالتزام، أو عقد القلب، أو أخذ الرسالة أو نحوها ما لم ينته الى العمل، فهي ربما تعد من مقدمات تحقق التقليد كما انه لا يتحقق عنوان التقليد على مجرد تطابق المأتي به مع الحجة، و ان لم يكن شاعرا به،

و انما كان تسقط الوظيفة عند ذلك واقعا بالتقليد، فإحراز إتيان الوظيفة انما تتحقق بالعمل به في العمليات أو الاعتقاد به في الاعتقاديات مستندا الى فتوى المجتهد.

(2) إذا اتحد المجتهد، و الا فمع التعدد، و اتفاقهم في الفتوى، فكما يصح الاستناد إلى رأي واحد منهم معينا، أو مرددا، فيكون مقلدا له يصح الاستناد إلى رأي جميعهم فيكون مقلدا لجميعهم، و لا ترجيح لأحدهما على الأخر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 146

..........

______________________________

أقول: الحقيق بنا أولا البحث عن موقف التقليد من حيث الجواز و عدمه ثم البحث في كونه عبارة عن العمل بقول الغير أو الالتزام بالعمل بقول الغير أو غيرهما.

موقف التقليد

ارتكاز العقلاء على مشروعية التقليد

فنقول: ان التقليد- و هو رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها- مما عليه ارتكاز العقلاء في محاويجهم فترى ان جاهل كل حرفة أو صنعة بل كل أمر راجع الى المعاش، أو المعاد، يراجع الى العالم بها من غير نكير بل لعل جواز رجوع الجاهل الى العالم من الضروريات التي لم يختلف فيه اثنان، و من أنكر التقليد بهذا المعنى فهو منكر له باللسان و لكن قلبه مطمئن بالتقليد الذي هو حقيقة الايمان.

لا يكون أصل التقليد تقليديا

فهذه السيرة الممضاة لدى الشرع مرتكزة لدى العامي يدركه عقل كل مكلف و لا يكون ذلك تقليديا و الا لزم الدور أو التسلسل لان قول الغير في نفسه ليس بحجة على الغير فلو توقف حجيته بهذا التقليد لزم ذلك لأنا ننقل الكلام فيه و نقول: ان حجية هذا التقليد الذي هو اتّباع قول الغير اما ان تستند الى تقليد الأول، أو تقليد أخر.

فعلى الأول يلزم الدور، و على الثاني ننقل الكلام الى التقليد الأخر، و هكذا يتسلسل الى ما لا نهاية له.

فالمتحصل انه لا يمكن ان يكون أصل التقليد تقليديا فلا بد و ان ينتهي اما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 147

..........

______________________________

الى الاجتهاد- و لو بالارتكاز- أو الى ما يقطع بحجيته.

نعم لا مانع من التقليد في خصوصياته كاعتبار الحيوة و غيرها من الصفات كما يأتي.

و هذا الوجه عمدة ما يستند به لمشروعية التقليد بل ربما ادعى انحصار الوجه به و لكن لا يخفى ما فيه كما سيظهر لك عن قريب.

بل ربما يقال ان اخبار الباب أو في بالمرام و أدل على المطلوب إذ السيرة غير متكفلة للفروع و الجزئيات بخلاف الأخبار إذ ببركتها يمكن استخراج جملة من

الفروع و الجزئيات كما سيظهر لك إن شاء اللّه تعالى.

الاستدلال لحجية الفتوى بوجه آخر

و يمكن ان يستند العامي لجواز التقليد بوجه أخر قد أشار الى بنيانه على ما قيل المحقق الأصفهاني (قدس سره) و قد أشرنا إليه في صدر البحث و حاصله بتوضيح منا.

ان المكلف الملتفت بعد الإذعان بالشريعة و المبدء و المعاد يرى إجمالا ان للشريعة المقدسة في كل واقعة حكما و انه لم يترك سدى و لم يفوض في أفعاله بحيث ان شاء فعل و ان شاء ترك بل لا بد له من القيام بالوظيفة في الخروج عن التكاليف الإلزامية- الوجوبية و التحريمية- و هو اما بإتيان نفس الواقع علما و هو قليل، أو بأحد الأمور الثلاثة، و لا رابع لها.

و حيث ان الاجتهاد كما عرفت غير واجب عينا على كل أحد لعدم تيسره لغالب الناس بل جميع الناس الا الأوحدي منهم كانوا في برهة من الزمان غير مجتهدين و الاحتياط أيضا غير متيسر غالبا للعامي لعدم تمكنه تشخيص موارده، و استلزام إيجابه، العسر و الحرج المنفيين في الشريعة بل ربما يوجب الاختلال بالنظام.

و بالجملة مع كون الشريعة سمحة سهلة لا يحتمل ان يكون مبنية على الاحتياط نعم ربما يجب الاحتياط في بعض الأحيان كما في بعض موارد النفوس و الاعراض و الأموال لمصالح لا يكاد يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 148

..........

______________________________

و حيث ان العامي لم يكن من أهل النظر و الاجتهاد فليس له ظن بالأحكام حتى يقال باتباع ظنه فيها.

مع ان ظنه حيث لم يكن مبتنيا على النظر في أدلة الأحكام، فلا اقريبة له الى الواقع بالنسبة إلى شكه، و وهمه، بل هو و شقيقتاه، في مرتبة واحدة.

فإذا يستكشف

عقل العامي الملتفت انه لا بد و ان يكون للشارع، غير المهمل بواجباته و محرماته طريق أخر لنيل العباد إليها، و ليس هو الا التقليد و الركون الى العالم و لا يخفى ان هذا الوجه، كسابقه بالنسبة إلى صفات المقلد- بالفتح- كالحيوة و غيرها مهملة فيجوز التقليد بالنسبة إليها.

فقد ظهر تمامية الوجهين في اتكال العامي عليهما في صحة التقليد.

و هناك وجوه أخر يمكن استدلال المجتهد بها «1» لموقف التقليد في الشريعة و ان كان الاستدلال ببعضها لا يخلو عن النظر.

الاستدلال باية النفر لمشروعية التقليد
اشارة

منها آية النفر قال اللّه تعالى وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «2».

تقريب الدلالة، هو ان ظاهر الآية الشريفة لمكان لو لا التحضيضية، إيجاب التفقه، و الانذار لكل طائفة من كل فرقة، بلحاظ انهما الغاية للأمر بالنفر، و ظاهر قوله لعلهم يحذرون، حيث جعل غاية الانذار بما تفقهوا، و علموا به: لزوم التحذر عقيب

______________________________

(1) و لا يخفى ان الوجه الأول من الوجهين الذين يتكل عليهما العامي- و هو السيرة الممضاة- مما يصح اتكال المجتهد عليه لجواز التقليد بل من حيث جواز الإفتاء أيضا فتدبر.

(2) التوبة: 9/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 149

..........

______________________________

الانذار، و مقتضى إطلاق التحذر عقيب الانذار، وجوبه مطلقا، حصل العلم من إنذارهم أم لا؟.

و بالجملة ظاهر لفظة لعل، إذا وقعت في مقام التعليل هو كون ما بعدها علة و غاية لما قبلها من غير فرق بين كون الواقع بعدها امرا تكوينيا، كقول الطبيب للمريض، اشرب هذا الدواء لعلك تطيب، أو أمرا غير اختياري للمكلف، كقولك للمذنب: استغفر

اللّه لعلك تدخل الجنة، أو أمرا اختياريا للمكلف كالآية الشريفة.

فإذا كان الواقع بعدها امرا اختياريا للمكلف فالتكليف بذي الغاية في الحقيقة تكليف بالغاية فيجب التحذر في الآية الشريفة عند إنذار المنذرين بما تفقهوا، و علموا و بعباوة اخرى الغاية إذا كانت من الأفعال الاختيارية للمكلف، تتبع لذي الغاية، من حيث الوجوب، و الاستحباب، و حيث ان ذا الغاية كان واجبا، كانت الغاية واجبة.

مناقشة المحقق الأصفهاني في الاستدلال بالاية لحجية الفتوى و دفعها

حكى عن المحقق الأصفهاني (قدس سره) ان الآية أجنبية عن حجية فتوى الفقيه، لان التفقه في الأعصار السابقة خصوصا في زمن الأئمة المعصومين (سلام اللّه عليهم) انما كان بسؤال الأحكام و سماعها عن مشايخ الحديث، و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و لم يكن محتاجا إلى إعمال النظر، و الفكر، و لم يكن وقتئذ من الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه، في العصور المتأخرة عين و لا أثر، فغاية ما تدل عليه الآية الشريفة: هي حجية النقل و الرواية، فتكون الآية الشريفة ناظرة إلى حجية الخبر لا حجية الفتوى.

و لكنه مدفوع أولا بوجود أصل الاجتهاد الذي هو عبارة عن تحصيل الحجة على الحكم الشرعي في الصدر الأول من غير فرق في ذلك بين الصدر الأول و العصور المتأخرة ضرورة انه في الصدر الأول، خصوصا بعد انتشار صيت الإسلام عن المدينة المنورة الى نواحيها، و من البلاد العربية إلى غيرها خصوصا في زمن الصادقين عليهما السّلام ليس

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 150

..........

______________________________

كل أحد و لو كان بمحضر المعصوم عليه السّلام ينال الحكم الواقعي من لسان المعصوم علما بمراده، بل الحاضرون محضره لم يكن لهم بد من الجمع بين عموماتهم و مخصصاتهم، و مطلقاتهم و مقيداتهم، و واضح انهما الركنان

الركينان في الاجتهاد و ليس كل من سمع و حفظ حديثا يعد فقيها. و قد ورد رب حامل فقه ليس بفقيه «1» و قد نص الشيخ الكبير كاشف الغطاء المتوفى 1290 ق في حق المبين انه كان في زمان أئمتنا الزرارية و اليونسية و نحوهم «2».

و مراده (قدس سره) بذلك انه كان لمثل زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و نظرائهما الذين هم أمناء اللّه على حلاله و حرامه، و الفقهاء بتعيرنا، اتباع، و مقلدة يرجعون إليهم في محاويجهم و يظهر مما رواه الكشي ان زرارة كان يفتي برأيه «3»، و كان في عصرهم، رواة يعرفون الغث من الاخبار عن سمينها، و يميزون الأخبار الصادرة لبيان الأحكام الواقعية عن الاخبار الصادرة لبيان غيرها، كالتقية و نحوها، و قد تقدم ان بعض الرواة عند ما عرض رواية على مثل زرارة و صرح بأني سمعتها من لفظ الامام عليه السّلام قال: أعطاه من جراب النورة «4» مشيرا الى تضعيفه و تزييفه.

و الحاصل انه لم تكن الفقاهة. و الاجتهاد في الصدر الأول، بمجرد سؤال الأحكام، و سماعها، و نقلها بل لم يكن لهم بد من اعمال الفكر و الروية في تحصيل الأحكام الشرعية، و قد روى في تعارض الاخبار، و التوفيق بينها، و التعديل، و الترجيح، بينها اخبار، و معلوم ان مسئلة التعادل، و الترجيح من مهمات مسائل أصول الفقه.

نعم حيث ان غالب رواة الأحاديث من أهل لسانهم (صلوات اللّه عليهم) فلم يكونوا محتاجين الى تعلم العلوم الأدبية، و لم يكن لهم صعوبة لإحراز

______________________________

(1) الوسائل الباب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 44.

(2) حق المبين في تصويب المجتهدين و تخطئة الأخبار بين/ 61.

(3) رجال الكشي/ 140 ط

الاعلمى.

(4) جراب النورة وعاء يضع فيه النورة يقال له بالفارسية كاسه واجبي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 151

..........

______________________________

صدور الخبر عنهم، و لا لإحراز كونه لبيان الحكم الواقعي، أو للجمع بين الخبرين المتعارضين ما يكون للاعصار المتأخرة، بلحاظ طول المدة. و كثرة الوسائط، و دسّ الدسّاسين، و توقف الاجتهاد فيها على مقدمات كثيرة، فالفرق بين الصدر الأول، و العصور المتأخرة انما هو بسهولة التناول و صعوبته، و ذلك لا يوجب الفرق و التغير في معنى الاجتهاد و الفقاهة، كما هو واضح إلى النهاية.

و ثانيا: ان غاية ما يعتبر في حجية الخبر هو الوثاقة في نقل الألفاظ المسموعة عن المعصوم عليه السّلام و لا يعتبر فيها التفات الناقل الى معناها فضلا عن ان يكون فقيها و قد اعتبر في الآية الشريفة عنوان الفقاهة في موضوع التحذر فليست للآية أيّة دلالة على حجية الخبر.

فتحصل ان المناقشة في الاستدلال بالاية الشريفة من هذه الجهة، مدفوعة الا انه مع ذلك لا تخلو الاستدلال بها للمقام من المناقشة من وجهين.

الاشكال بعدم شمول الآية لحجية الفتوى من جهة اشتمالها على الانذار و التخويف

الوجه الأول: ان ظاهر الآية الشريفة هو ان الانذار و التخويف بما تفقهوا و تعلّموا، معالم الدين فيختص بالواعظين و المرشدين و من يحذو حذوهما الذين ينذرون و يخوّفون عباد اللّه، و اماثهم عن الجحيم، و نيرانها، و حياتها و عقاربها، و صدق الانذار على فتوى الفقيه بلحاظ استلزام الفتوى للإنذار، خلاف ظاهر الآية الشريفة لا يصار إليه.

ضرورة ان قول الفقيه بأن صلاة الجمعة مثلا واجبة و ان كانت مستلزمة للإنذار من جهة ان ترك الواجب. يستلزم العذاب، و كذا قوله شرب الخمر حرام و ان كان مستلزما له من جهة ان ارتكاب الحرام يستلزم العقاب.

و لكن مع ذلك لا يعد مجرد الإفتاء بالوجوب، أو الحرمة إنذارا بالعذاب عرفا حتى يكون المفتي بهما منذرا و لعل ما ذكرنا واضح عند الأذهان الساذجة العرفية غير المشوبة بالدقائق المدرسية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 152

..........

______________________________

نعم ان أضاف الفقيه الى فتواه الانذار بالعذاب فتشمله الآية الشريفة بلا نكير.

فالآية الشريفة لا دلالة لها على حجية الخبر المجرد عن التفقه، و الانذار، كما لا دلالة لها على حجية فتوى الفقيه المجردة عن التخويف و الانذار.

اللهم ان يقال انها ان دلت على حجية الخبر المشتمل على التفقه، و الانذار، أو الفتوى المشتملة على التخويف، فيمكن استفادة التعميم، بالنسبة الى غير المشتمل عليهما بعدم القول بالفصل.

و لكن مضافا الى عدم كفاية عدم القول بالفصل للاستدلال بالاية الشريفة، بل لا بد من القول بعدم الفصل و لم يتحقق بعد، انه: ليس استدلالا بالاية بلابها و بشي ء آخر، فتدبر.

اشكال آخر لعدم دلالة الآية لحجية الفتوى

الوجه الثاني: ان المترائى من التحذر في الآية الشريفة هو التحذر و الخوف النفساني لا العملي- المنبعث عن الخوف النفساني كما يدعيه المستدل- ضرورة ان المتبادر من قولك للمنذر، و الواعظ: أنذر عباد اللّه الجهلاء لعلهم يحذرون هو تخويفهم، و توعيدهم بالعذاب و نحوه لغاية حصول الخوف و التحذر النفساني، و ارادة العمل الجوارحى من التحذر، و ان كان بمكان من الإمكان، و له إطلاق في بعض الكلمات، كقولك: حذر نفسك عن الأسد، أو تقول للمسافر الحامل سلاحه في الطريق المحتمل فيه اللص، أو السبع، للمدافعة عن نفسه، و ماله: تحذر في السفر، الا انه خلاف الظاهر من لفظة لعل، إذا تعقبت لكلمة الانذار.

فظهر مما ذكرنا ان ما افاده والدنا العلامة طاب ثراه وفاقا لشيخه

المحقق النائيني (قدس سره) حسب ما أفاده في الدورة الأخيرة من تعميم الآية الشريفة لحجية كل من الفتوى و الخبر، خلافا لما أفاده في الدورة السابقة من اختصاصها بحجية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 153

..........

______________________________

الخير «1» لا تخلو عن نظر و إشكال فالآية الشريفة ناظرة إلى بيان لزوم نفر كل طائفة من كل فرقة، للتفقه في معالم الدين، و أساسها ثم إنذار اقوامهم، و تخويفهم و إرشادهم إلى طريق الحق و الصواب كما هو شأن الواعظين و المنذرين.

تأييد من بعض المشايخ في عدم دلالة الآية على حجية الخبر و الفتوى

و بعد الفراغ من كتابة هذا الموضع ظفرت بكلام لسيد مشايخنا في حقائق الأصول يؤكد ما أشرنا إليه يعجبني نقله تثبيتا للمرام قال (قدس سره) ما نصه.

«و الإنصاف أن الآية الشريفة لا تدل على حجية الخبر، و لا على حجية الاجتهاد بل أجنبية عنهما بالمرة، و انما تدل على وجوب التفقه في الدين و تعلم معالمه في الأصول و الفروغ لغاية تعليم الجاهلين، و تفقههم بإقامة الحجة عليهم و اقناعهم بالطريق الذي تعلموا به و تفقهوا بلا دلالة لها على حجية الاجتهاد أو الخبر أصلا، لا مطابقة، و لا التزاما، و ظني ان ذلك ظاهر بأدنى تأمل» «2».

الاستدلال بآية السؤال لمشروعية التقليد
اشارة

و منها. آية السؤال: و هي قوله تعالى، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «3».

تقريب الدلالة هو ان ظاهر مثل هذا الخطاب هو بيان الوظيفة عند الجهل و عدم العلم بها فالسؤال عن أهل الذكر قبال العلم بالحال، موضوع للأثر، لا انه مقدمة لتحصيل العلم، و ظاهر ان مناسبة الحكم و الموضوع تعطي بأن السؤال عن أهل العلم مقدمة للعمل لا ان للسؤال موضوعية، و ان المقصود الأصلي هو نفس السؤال.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 56.

(2) حقائق الأصول ج 2/ 129.

(3) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 154

..........

______________________________

فاذا معنى الآية الشريفة أن للجاهلين السؤال عن أهل العلم، و المعرفة و العمل على طبق ما يقولون، و يجيبون، فمفاد الآية، و روحها هو ما عليه العقلاء، من رجوع الجاهل الى العالم و العمل برأيه الذي عبارة عن التقليد، فتدل الآية الشريفة على حجية فتوى العالم على الجاهل.

و بهذا التقرير يندفع بعض المناقشات على الاستدلال بها للمقام كما في الكتب

المفصلة. فلاحظ.

هذا بالنسبة إلى ظاهر الآية الشريفة، و لكن ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام أخبار في تفسير الآية استظهر منها انحصار أهل الذكر بهم عليهم السّلام، و من الواضح بديهة اختصاص المرتبة العالية بهم عليهم السّلام لأنهم منار العلم و خزّان علمه تعالى، و عيبة علمه، زقّوا العلم زقّا، منهم تفيض العلم الى غيرهم، و لولاهم لما عرف معالم الدين، فوقع الإشكال في الاستدلال بها للمقام.

و لعله يمكن التوفيق بين هذه الاخبار و ما هو الظاهر من الآية هو حملها على الجري و التطبيق بلحاظ انهم المصداق الأصلي و الفرد الأكمل من أهل الذكر، و باقي الناس عيال عليهم يعيشون في ظل عنايتهم، و لولاهم لما عرف من الذكر، و القران، شيئا، جعلنا اللّه و إياكم من اتباعهم و شيعتهم.

مناقشة في الاستدلال بها لمشروعية التقليد و دفعها

و لكن بقيت مناقشة و هي ان مورد الآية بقرينة قوله تعالى في الآية السابقة عليها:

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ «1».

بلحاظ ما استغربوا من تخصيصه سبحانه رجلا بالنبوة من بينهم، و من المعلوم اعتبار العلم، و المعرفة فيها، و لا يكفى فيها مجرد السؤال من دون ان يحصل له العلم و الإذعان.

و بالجملة مورد الآية الشريفة بقرينة الآية السابقة عليها من الأصول الاعتقادية

______________________________

(1) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 155

..........

______________________________

و هو الرد لاستغرابهم تخصيصه سبحانه رجلا من بينهم بالنبوة، و واضح، انه يعتبر في النبوة العلم و المعرفة و لا يكتفى فيها بمجرد السؤال مع عدم حصول العلم بالجواب فعلى هذا لا مجال للاستدلال بها على قبول فتوى الفقيه تعبدا من دون ان يحصل فيها العلم بالمسئلة.

و لعله يمكن:

دفعها بان الآية الشريفة قد تضمنت كبرى كلية ارتكازية و تكون بصدد تثبيتهم على ما هم عليه من مراجعة جهلتهم إلى علمائهم، و العمل بما يقولون و يجيبون، و ان لم يحصل لهم علم بذلك، و غاية ما هناك، حسب ما اقتضاه دليل آخر، هو اعتبار العلم، و المعرفة، في الأصول الاعتقادية، فيكون اعتبار العلم في مورد، بدليل، غير مضرر بتلك الكبرى الكلية الارتكازية، فكأنه دلت الآية الشريفة على جواز مراجعة الجهلة، إلى علمائهم، و العمل بما يقولون في جميع الموارد إلا في مثل الاعتقاديات فلا يقبل قوله بمجرد السؤال، ما لم يحصل به علم و معرفة.

و لكنه مع ذلك لا يخلو الاستدلال بها من هذه المناقشة، و غيرها، مما ذكر في المقام عن شوب اشكال.

الاستدلال بالأخبار لمشروعية التقليد
اشارة

و مما استدل لمشروعية التقليد، و حجية الفتوى: الأخبار الدالة منطوقا، أو مفهوما، أو بنحو من الأنحاء على حجية الفتوى و جواز التقليد و هي كثيرة، جدا بحيث ادعيت تواترها إجمالا- و لا يبعد- فلا يحتاج الى تجشم ملاحظة أسانيدها، كما لا يخفى،- لو قلنا بلزوم ملاحظة إسنادها- و هي على طوائف.

الطائفة الأولى: الأخبار الدالة على الأمر بالإفتاء بلحاظ العمل بالفتيا،

و الا كان الإفتاء لغوا منها: قول ابى جعفر عليه السّلام لأبان بن تغلب.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 156

..........

______________________________

اجلس في مسجد المدينة، و أفت الناس، فإني أحب ان يرى في شيعتي مثلك «1».

دلالته على مشروعية الإفتاء و حجيته، بل على محبوبية كثرة المفتين، و الفقهاء بمكان من الوضوح، و واضح ان الإفتاء لا يكون الا بالاجتهاد.

و منها: خبر ابن مسكان، عن ابان بن تغلب قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انى اقعد في المجلس فيجيئني الناس فيسئلونى، فان لم أجبهم لم يقبلوا منى و اكره أن أجيبهم بقولكم (بقولهم ن ل) و ما جاء عنكم فقال لي: انظر ما علمت انه من قولهم فأخبرهم بذلك «2».

جوّز عليه السّلام ان يجيبهم بعلمه، و ليس هو إلا الإفتاء.

و منها: ما رواه، معاذ بن مسلم النحوي، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام انه قال:

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس، قلت: نعم و أردت، أن أسألك عن ذلك، قبل ان اخرج إني اقعد في المسجد فيجي ء الرجل فيسئلنى عن الشي ء، فاذا عرفته بالخلاف لكم، أخبرته بما يفعلون و يجي ء الرجل، أعرفه بمودتكم، و حبكم، فأخبره بما جاء عنكم، و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدرى من هو فأقول جاء عن فلان كذا.

و جاء عن فلان كذا. فادخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي:

اصنع كذا فانى كذا اصنع «3».

و منها: خبر محمد بن فلان الرافقي قال.

______________________________

(1) مجمع الرجال ج 1/ 18/ 20.

(2) مجمع الرجال ج 1/ 16.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 36.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 157

..........

______________________________

كان لي ابن عم و كان زاهدا، فقال له أبو الحسن عليه السّلام اذهب فتفقه و اطلب الحديث قال عمن؟ قال عن فقهاء أهل المدينة ثم اعرض علىّ «1».

و منها: خبر ابى عبيدة الحذّاء قال:

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: و اللّه انى أحب أصحابي إليّ أورعهم، وافقههم، و أكتمهم لحديثنا الخبر «2».

و منها: ما عن نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما كتب الى قثم بن عباس:

اجلس لهم العصرين فأفت للمستفتى، و علم الناس و ذاكر اللّه «3».

يحتمل ان يكون المراد بالعصرين ما بين الصبح و العصر، أو بين العصر و العشاء، يستفاد من امره عليه السّلام لقثم بن عباس بالجلوس للإفتاء و تعليم الناس في العصرين معهودية الإفتاء في تلك العصر و لزوم الرجوع إليهم.

و منها: خبر عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، عن الحسين بن روح عن ابى محمد الحسن العسكري:

انه سئل عن كتب بنى فضال فقال خذوا بما رووا، و ذروا ما رأوا «4».

يستفاد منه ان لبني فضال روايات و آراء فأمر عليه السّلام بالأخذ بالأولى و طرح الثانية و لعل ذلك لاعتبار كون المفتي على مذهب الحق و العدالة.

و احتمال كون الآراء المطروحة هي المربوطة بأصول المذهب فلا ينفع المقام مدفوع بإطلاق الكلام فتدبر.

______________________________

(1) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 33.

(2)

الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 39.

(3) مستدرك الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 15.

(4) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 158

..........

______________________________

و منها: خبر على بن أسباط، قال.

قلت للرضا عليه السّلام: بحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد، أستفتيه من مواليك، قال فقال، ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء، فخذ بخلافه، فان الحق فيه «1».

يستفاد من الخبر معهودية الاستفتاء، و الفتوى من أصحابنا، في غير البلد الذي يكون فيه، على بن أسباط، و جواب الامام عليه السّلام يدل على إرجاع الأمر إلى الفقيه و لعل السر في إرجاع الإمام عليه السّلام على بن أسباط إلى فقيه البلد، بلحاظ ابتناء غالب فتاوى العامة على القياس و الاستحسان و الظنون غير المعتبرة فهي على خلاف الحق غالبا فيؤخذ به عند الضرورة.

الطائفة الثانية: الأخبار الناهية عن الإفتاء بغير العلم

و هي كثيرة منها: خبر ابى عبيدة قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام: من افتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة، و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه «2».

و منها: خبر مفضل بن مزيد قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال أنهاك أن تدين اللّه بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم «3».

و منها: خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 23.

(2) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 159

..........

______________________________

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: إياك و خصلتين ففيهما، هلك من هلك: إياك ان تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم «1».

و نحوه خبره الأخر «2».

و منها: خبر عاصم قال حدثني مولى لسلمان، عن، عبيدة السلماني قال:

سمعت عليا عليه السّلام: يقول يا ايها الناس اتقوا اللّه و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون الخبر «3».

و منها: خبر موسى بن بكر قال:

قال أبو الحسن عليه السّلام: من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض و ملائكة السماء «4».

و منها: مرسل تحف العقول عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

من افتى الناس بغير علم فليتبوء مقعده من النار «5».

و منها: ما عن العيون عن الرضا عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من افتى الناس، بغير علم لعنته ملائكة السماء و الأرض «6».

و منها: ما عن غوالي اللئالي انه عليه السّلام قال:

من افتى الناس و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ و المحكم من المتشابه فقد هلك «7».

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 3.

(2) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 29.

(3) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 19.

(4) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 31.

(5) الوسائل باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 32.

(6) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 55.

(7) جامع الأحاديث ج 1/ 68.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 160

..........

______________________________

و لا يخفى ان الاخبار الناهية عن الإفتاء بغير العلم، تشير إلى الإفتاء بمثل القياس و الاستحسان، و نحوهما، مما هو متداول عند العامة، أو تشير الى مطلق الإفتاء بغير العلم، فيستفاد منها مشروعية

الإفتاء، بالعلم، و هو الإفتاء على طبق الكتاب، و السنة بالمعنى الأعم، الشامل لما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام على النهج الدارجة عند علماء الإمامية، و لا يتحقق ذلك الا بالاجتهاد.

الطائفة الثالثة الأخبار الدالة على النهى عن الحكم بغير ما انزل اللّه.
اشارة

منها: خبر ابى بصير عن ابى جعفر عليه السّلام و الحكم عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

من حكم في درهمين بغير ما انزل اللّه عز و جل ممن له سوط، أو عصاء فهو كافر بما انزل اللّه على محمد صلّى اللّه عليه و آله «1» و منها: خبر أخر لأبي بصير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

من حكم في درهمين بغير ما انزل اللّه عز و جل، فقد كفر باللّه العظيم «2».

و نحوها خبرا عبد اللّه بن مسكان، و الفقيه «3».

و لا يخفى ان المراد بالحكم بغير ما انزل اللّه ما يعم كتاب اللّه، و سنن نبيه بالمعنى العام الشامل لما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام لأنهم شراح كلامه تعالى و مفسروا قرانه العظيم، فيستفاد منها ان الحكم بما انزل اللّه، لا يكون الا بعد معرفة كلامه تعالى، و سنن نبيه صلّى اللّه عليه و آله، و قد كان في الكتاب العزيز، و ما صدر، عن النبي الأعظم و أئمة أهل البيت (صلوات اللّه عليهم) محكمات، و متشابهات، عمومات، و خصوصات، مطلقات، و مقيدات، الى غير ذلك، و واضح ان معرفة هذه الأمور

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 2.

(3) الوسائل باب 5 من أبواب صفات القاضي ح 3/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 161

..........

______________________________

و

استخراج حكم اللّه تعالى. منها، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد، و اعمال النظر، و الفكر فمن نفوذ حكمه يستفاد اعتبار فتواه.

الأخبار الواردة في نفوذ حكم القاضي

و قريب من هذه الطائفة مقبولة عمر بن حنظلة و روايتا ابى خديجة «1» من الروايات الواردة في نفوذ حكم القاضي.

فقد أمر فيها بارجاعهم الى حكم الفقهاء من أصحابنا و القدر المتيقن منها حكمهم في الشبهات الحكمية لقوله عليه السّلام في المقبولة: نظر في حلالنا و حرامنا، و قوله اختلفا في حديثكم، و واضح ان النظر في حلالهم، و حرامهم و الاختلاف في الحديث المتعلقة بموضوع واحد بالنسبة إلى شخصين اما في فهم، رواية واحدة أو روايتين و لا يكاد يكون ذلك الا بالاجتهاد.

و بالجملة هذه الروايات ظاهرة في إرجاعهم عليهم السّلام الى الفقهاء من أصحابنا، في الشبهات الحكمية الاجتهادية و جعل الفقيه مرجعا، و واضح ان نصبه للحكم في الشبهات الحكمية ملازم لاعتبار فتواه.

الطائفة الرابعة الأخبار الدالة، على عرض الخبرين، على كتاب اللّه و ما دل على عرضها، على اخبار العامة.

حيث دلت على الأخذ بما وافق الكتاب و طرح ما خالفه، و دلت على رد ما وافق العامة و الأخذ بما خالفهم لاحظ الوسائل باب التاسع من أبواب صفات القاضي تقريب الدلالة، هو ان ترجيح أحد الخبرين على الأخر، بموافقة الكتاب، و مخالفة العامة، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد، فأمرنا بالاجتهاد، و حجية النظر و الفتوى.

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1/ و باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5 و باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 162

الطائفة الخامسة الأخبار الواردة في فضل العلم و العلماء

______________________________

و هي كثيرة.

كقوله عليه السّلام: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل.

و قوله عليه السّلام: و ان العلماء ورثة الأنبياء.

و قوله عليه السّلام: و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر و قوله عليه السّلام: اللهم ارحم خلفائي «1».

الى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد منها ان الغاية المطلوبة منها، و المقصود منها إرجاع الأمة إليهم و جعلهم مرجعا و مقتدى للرعية باتباع آرائهم، و أنظارهم المتخذة من الكتاب و السنة فآراؤهم و أنظارهم معتبرة.

الطائفة السادسة الأخبار الدالة، على إرجاع الناس الى أشخاص معينين، أو الى بعض العناوين المنطبقة على الفقهاء.
اشارة

فمن الأول، ما رواه على بن المسيب الهمداني قال:

قلت للرضا عليه السّلام: شقتي «2» بعيدة و لست أصل إليك في كل وقت، فممن أخذ معالم ديني، قال من زكريا بن أدم القمي، المأمون على الدين و الدنيا، قال على بن مسيب، فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسئلته عما احتجت اليه «3».

و قريب منه ما رواه فضل بن شاذان عن عبد العزيز بن المهتدي- و كان خير قمي رأيته، و كان وكيل الرضا، عليه السّلام و خاصته- قال:

______________________________

(1) مصادرها معلومة يجدها الطالب بسهولة و لعلنا في المستقبل نتعرضها بالمناسبة.

(2) الشقة: الناحية.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 27.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 163

..........

______________________________

سئلت الرضا عليه السّلام فقلت: انى لا ألقاك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني فقال خذ عن يونس بن عبد الرحمن «1» و ما رواه محمد بن عيسى عن عبد العزيز المهتدي فقال:

في ذيله فآخذ معالم ديني عن يونس مولى ال يقطين قال عليه السّلام: نعم «2».

و نحوه ما رواه محمد بن عيسى عن عبد العزيز، و الحسن بن على بن

يقطين جميعا، عن الرضا عليه السّلام قال (قالا ظ):

قلت لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج اليه من معالم ديني، ا فيونس بن عبد الرحمن ثقة أخذ عنه عما احتاج اليه من معالم ديني؟ فقال نعم «3».

و منها خبر أحمد بن إسحاق، عن ابى الحسن عليه السّلام قال:

سئلته، و قلت من أعامل؟ و عمن آخذ؟ و قول من اقبل؟

فقال العمري ثقتي، فما أدى إليك عني، فعني يؤدى و ما قال لك عني، فعني يقول، فاسمع له، و أطع، فإنه الثقة المأمون و قال و سئلت: أبا محمد عليه السّلام عن مثل ذلك فقال: العمرى و ابنه، ثقتان، فما أديا إليك، عني فعني، يؤديان، و ما قالا لك فعني، يقولان، فاسمع لهما، و أطعهما، فإنهما الثقتان، المأمونان فهذا قول إمامين قد رضيا فيك الى ان قال فقلت له:

فالاسم قال محرم عليكم ان تسئلوا عن ذلك، و لا أقول هذا من عندي فليس لي ان أحلل و لا أحرم و لكن عنه عليه السّلام «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 34.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 35.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 33.

(4) أصول الكافي ج 1/ 330- الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 164

..........

______________________________

و منها ما رواه شعيب العقرقوفي قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ربما احتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير «1».

و منها ما رواه عبد اللّه بن ابى يعفور قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انه ليس كل ساعة ألقاك، و لا يمكن

القدوم، و يجي ء الرجل، من أصحابنا فيسئلنى، و ليس عندي ما يسئلنى عنه، فقال ما يمنعك من محمد بن مسلم، الثقفي، فإنه سمع من ابى، و كان عنده وجيها. «2».

و منها- الإرجاع إلى زرارة:

بقوله عليه السّلام: إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس، مشيرا إلى زرارة «3».

و من الثاني ما رواه إسحاق بن يعقوب، قال:

سئلت محمد بن عثمان العمرى، ان يوصل لي كتابا قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت علىّ، فورد التوقيع، بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام:

اماما سئلت عنه أرشدك اللّه و ثبتك الى ان قال: و اما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، و انا حجة اللّه.

و اما محمد بن عثمان العمري، فرضي الله عنه، و عن أبيه من قبل، فإنه ثقتي، و كتابي كتابه «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 15.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 23.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 19.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 165

..........

______________________________

و منها ما رواه أحمد بن ماهويه، قال:

كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السّلام- اسئله عمن أخذ معالم ديني؟ و كتب أخوه أيضا بذلك، فكتب إليهما فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبّنا، و كل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى «1».

و منها غير ذلك من الاخبار التي نشير إليها إن شاء اللّه.

و لا يخفى ان دلالة هذه الطائفة على الإرجاع مطلقة، حيث لم يقيد بخصوص ما إذا كان الجواب، من المرجوع إليهم بنقل ألفاظ سمعوها منهم عليهم السّلام،

فيعم ما وصل اليه نظرهم، و فكرهم، من الجمع بين الخبرين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الأخر، أو حمل المطلق على المقيد الى غير ذلك من أنحاء الاجتهاد.

فدلالة هذه الطائفة على حجية قول الثقة و أخذ معالم الدين، منه بالأعم من الرواية، و الفتوى لا تكاد تخفى.

بل دلالة القسم الثاني من هذه الطائفة خصوصا التوقيع الشريف على حجية الفتوى منه أوضح منه من حجية الخبر.

و ذلك لان ظاهر قول عليه السّلام: و اما الحوادث الواقعة إلخ يعطي بأن سؤال إسحاق بن يعقوب كان عن أحكام الحوادث التي بيانها من وظيفة الشارع لا خصوص الموضوعات المختصة بباب المرافعة كما ادعى، و لا خصوص ما عنونت في مكتوب إسحاق بن يعقوب الى صاحب الأمر (صلوات اللّه عليه) غير المعلومة لنا بعد.

يشهد لما ذكرنا قوله عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه حيث أطلق عليهم الحجة، من قبله من غير قيد فاذا الحوادث الواقعة قد لا تكون منصوصة، فلا يمكن ان يجاب فيها الا بعد اعمال النظر، و الفكر، و تطبيق الكبريات الصادرة عنهم عليها فدلالته على الإرجاع من حيث أخذ الفتوى بمكان من الوضوح.

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 166

..........

______________________________

و إياك ان تتوهم من تعبيره (صلوات اللّه عليه) عمن يرجع إليه برواة أحاديثنا دون علمائنا، و فقهائنا ما زعمه الأخباريون.

و ذلك لان فقهاء الشيعة، و مجتهديهم، جميعهم، في الحقيقة رواة أحاديثهم (صلوات اللّه عليهم) و مبين مقاصدهم، ضرورة أن همهم و غرضهم الوحيد (رضوان اللّه عليهم أجمعين) معرفة ما صدر عنهم معرضين عن القياس، و الاستحسان و نحوهما من الظنون غير

المعتبرة، بخلاف فقهاء العامة، حيث ان آرائهم، و أنظارهم في عرض آرائهم (صلوات اللّه عليهم) و في قبالهم.

نكتة التعبير عن فقهاء الشيعة برواة الأحاديث

فلعل التعبير عن فقهاء الشيعة برواة أحاديثهم بلحاظ ان فتاويهم في الحقيقة هي المتحصلة، من الروايات، الصادرة عنهم، (صلوات اللّه عليهم) و الا فمقتضى الجمود، على العنوان المأخوذ في التوقيع الشريف، يعطى جواز المراجعة الى من روى أحاديثهم، و ان لم يكن له دربة، و معرفة إلى معانيها و مقاصدها.

حاشاك ثم حاشاك!!؟ ان تتوهم تجويز ذلك عن فاضل فضلا عمن هو قطب دائرة الإمكان، و الذي بوجوده ثبتت الأرض و السماء، روحي و أرواح من سواه فداه و بما ذكرنا يوجه العنوان المأخوذ في المكاتبة، فإن مناسبة الحكم، و الموضوع، تعطي بأن المراد من قوله عليه السّلام: كل مسنّ في حبنا، كثير القدم في أمرنا ليس ما هو المترائى من ظاهره، بل المراد الاعتماد بمن امتحن اللّه قلبه بالايمان، و كان عارفا بما صدر عنهم، بل و يوجه في الإرجاع إلى الثقفي، معللا بأنه سمع من ابى أحاديث، الى غير ذلك من العبارات فتدبر و اغتنم، و ليكن ما ذكرنا على ذكر منك ينفعك إن شاء اللّه.

و قريب من هذه الطائفة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 167

الطائفة السابعة ما أمر فيها بالتقليد الى من يتصف ببعض العناوين المنطبقة عليهم.

______________________________

و ذلك مثل خبر الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام بتوسط ابى محمد العسكري (صلوات اللّه عليه).

و الخبر طويل الذيل، نتعرضه بطوله عند تعرض الماتن (قدس سره) إياه عند شرائط مرجع الفتوى نذكر الفقرة المناسبة منه للمقام و هو قوله عليه السّلام:

فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض الفقهاء «1».

فقد ظهر من الطوائف السبعة بعد إرجاع بعضها الى بعض.

هو مشروعية أصل التقليد في الشريعة المقدسة و معهوديته

في الصدر الأول و كان أئمة أهل البيت عليهم السّلام راضين بالاجتهاد و الإفتاء غير المبنيين على القياس و الاستحسان و غيرهما من الظنون غير المعتبرة و القدر المتيقن منها ما هو الأخص مضمونا و لسنا، الآن بصدد بيان مقدار دلالتها بل النظر الوحيد إثبات مشروعية التقليد، و جوازه، في الجملة قبال، من ينكره رأسا.

الاستدلال لمشروعية التقليد بالإجماع و تزييفه

و مما استدل به لمشروعية التقليد الإجماع المنقول قديما، و حديثا على جواز التقليد، و ان ما ينكره الأخباريون، فإنما ينكرونه بلسانهم، و هم معترفون به حقيقة و واقعا.

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20، قال صاحب الوسائل بعد نقل الخبر عن الاحتجاج: «و أورده العسكري عليه السّلام في تفسيره» يظهر منه (ره) ان الطريق الى ما قاله الصادق عليه السّلام، ليس منحصرا بتفسير العسكري عليه السلام فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 168

..........

______________________________

و لكن فيه: ان المتحصل منه، فضلا عن منقولة، في مثل هذه المسئلة التي يستدل لها بالوجوه المسطورة، لا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم عليه السّلام أو دليل معتبر غير ما ذكرنا، فالمظنون لو لا المقطوع هو كون تلك الوجوه مدركا للاتفاق، و الإجماع، فلا يكاد ينتفع بالإجماع.

و بما ذكرنا كله في مشروعية التقليد عقلا و كتابا و سنة نخرج عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم الذي دل عليها العقل و النقل.

و بالجملة الأصل و ان كان حرمة العمل بما وراء العلم عقلا، و نقلا، الا انه خرجنا عن ذلك بالأدلة المتقدمة.

فلا ينبغي الإشكال في جواز التقليد، في الأحكام الفرعية لغير المتمكن من تحصيل العلم، بل وجوبه بعد العلم بثبوت أحكام في الشريعة المقدسة، و عدم

تمكن غالب الناس من تحصيل العلم، و الاجتهاد، و عسر العمل بالاحتياط، بل عدم تمكن غالب الناس منه، و لا بد من تفريغ الذمة عنها فلا يكاد يحصل الا بالتقليد.

فلا يصغي الى الآيات الناهية عن التقليد، و ذمة، أو الناهية عن العمل بالظن و ذلك اما لعدم شمولها للمقام، أو خروجه عنه.

هذا إجمال الكلام فيه، و ان كان مع ذلك في خاطرك شوب اشكال من ذلك فلا بأس بالإشارة الى ما يتوهم في المقام، و الى دفعه هنا إجمالا تثبيتا للمرام، و التفصيل يطلب من غير المقام.

توهم النهى عن التقليد و ذمه و دفعه

اما التوهم فقد وردت آيات في النهي عن التقليد و ذمه.

كقوله تعالى:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «1».

______________________________

(1) البقرة: 2/ 17.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 169

..........

______________________________

و قوله عز من قائل:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ «1».

و قوله تعالى:

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ الشَّيْطٰانُ يَدْعُوهُمْ إِلىٰ عَذٰابِ السَّعِيرِ «2».

و قال تعالى:

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوٰاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» الى غير ذلك من الآيات.

و حيث ان المتحصل من الاجتهاد هو الظن بالحكم الشرعي، فيمكن التشبث على عدم جواز تقليد المجتهد، بالآيات الناهية عن العمل بالظن كقوله تعالى.

لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «4».

و قوله عز من قائل:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى الْأَنْفُسُ «5»، وَ

مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَ إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «6».

و قوله تعالى:

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «7» الى غير ذلك من الآيات

______________________________

(1) المائدة: 5/ 14.

(2) لقمان: 31/ 21.

(3) الروم: 30/ 29.

(4) الاسراء: 18/ 36.

(5) النجم: 53/ 23.

(6) النجم: 53/ 28.

(7) الحجرات: 49/ 41.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 170

..........

______________________________

و اما الدفع فأولا ان المذموم، و المنهي عنه في الآيات الناهية عن التقليد، هو رجوع الجاهل الى جاهل مثله، و معلوم ان مجرد التعبد و التقليد عن اى شخص عالما كان، أو جاهلا، مذموم، عقلا و شرعا بل الفطرة قاضية بقبحه.

و ثانيا: لو أغمض عن ذلك فنقول: ان مورد الآيات هو التقليد، في أصول الدين التي يعتبر فيها العلم، و المعرفة، و لا يصح الاكتفاء فيها بمجرد التقليد ان لم يحصل له العلم، و سيوافيك بعض الكلام في مسئلة عدم جواز التقليد، في أصول الدين فارتقب حتى حين.

فظهر انه ليس في شي ء من الآيات، ما يدل على النهى عن التقليد في الأحكام الفرعية لغير المتمكن من تحصيل العلم بها.

و اما الآيات الناهية عن العمل بالظن فلا دلالة لها على حرمة التقليد في الفرعيات لما أفيد:

«ان النهى في تلك الآيات ليس نهيا مولويا، و انما هو الإرشاد الى ما استقل به العقل، إذ الظن يقترن دائما باحتمال الخلاف فالعمل به مقرون باحتمال العقاب، لا محالة و دفع العقاب المحتمل مما استقل به العقل، و النهى في الآيات المباركة إرشاد اليه، و من ثمة قلنا في محله، ان حجية اى حجة لا بد و ان ينتهي إلى العلم، إذ لو لم

تكن كذلك لاحتمل معها العقاب و العقل مستقل بلزوم دفعه» «1».

فمع قيام الأدلة القطعية على جواز التقليد يكون التقليد خارجا عن نطاق الآيات الناهية.

و بالجملة موضوع الآيات الناهية الوقوف، و الركون الى الظن، من حيث هو، فمع قيام الدليل على اعتباره لا يكون وقوفا على الظن كما لا يخفى، و التفصيل يطلب من غير المقام.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 91.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 171

بيان من أستادنا العلامة لخروج التقليد عن الآيات المومى إليها

______________________________

بل يمكن ان يقال كما أفاده أستادنا العلامة الخمينى دام ظله:

ان عمدة دليل وجوب التقليد بناء العقلاء بما هم عقلاء، و قد جبّلوا على رجوع جاهل كل حرفة، أو صنعة، إلى العالم بها، من دون ان ينتحلوا بنحلة أو شريعة، و لم يكن ذلك مخصوصا بالفقه، و أحكام الدين، فيراجعون جهلائهم إلى علمائهم، و خبرائهم في كل أمر من الأمور خصوصا إذا كان الأمر بما يعمل فيه الرأي و النظر، و الشارع لم يردعهم عما هم عليه، فيستكشف من ذلك رضي الشارع به.

و أدلة عدم الاعتناء بالظن، و حرمة اتباعه، لو لم تكن مخصوصة بأصول العقائد، لا تصلح لان تكون رادعة لمثل هذه الظنون لعدم انقداح احتمال الخلاف في مثل هذه الارتكازات بمجرد النهى عن اتباع الظن مطلقا، الا مع التنبيه، و التصريح، كما هو الشأن بالنسبة إلى العمل بخبر الثقة، و اليد، و أصالة الصحة، و غيرها مما يدور عليها رحى معاشهم.

و بالجملة كأنه لم ينقدح في ذهن العقلاء، ان تقليد الغير، و العمل بخبر الثقة، و الظاهر، و اليد؟؟؟، و أصالة الصحة و نحو ذلك من اتباع الظن، و لذا لم يرتدعوا بعد ما ورد النهى عن العمل بالظن، و اتباعه، عما جبلوا

عليه و لم يتعطل سوق المدينة المنورة، مثلا بذلك، بل حالهم بعد ورود الآيات الناهية عن الظن كحالهم قبل ورودها، فكانوا يرتبون آثار الملكية على ما في يد الغير، و أثر الصحة على معاملات الناس، و قبول قول الثقة، و العمل بالظواهر، و يرجع جاهل كل صنعة أو حرفة إلى العالم بهما، و لعمر الحق ان إنكار ذلك مكابرة «1».

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 172

عدم تمامية الاستدلال ببناء العقلاء في المقام ما لم يحرز رضي الشارع به

______________________________

و لكن مع ذلك كله وقع الإشكال في الاستدلال ببناء العقلاء في مثل المقام ما لم ينضم إليه إمضاء الشارع إياه، و لو بعدم الردع، لأنه لم تقم آية، و لا رواية، على حجية اى بناء العقلاء على كل شي ء، فلا بد و ان يكون بنائهم بمرئي و مسمع من الشارع حتى يستكشف من عدم ردعه رضاه به.

فاذا البناء المستحدث غير المعهود في عصر أئمة أهل البيت عليه السّلام. لا يكاد ينفع، و من الواضح ان الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلتهما بالنحو الدراج في اعصارنا لم يكن معهودا في الصدر الأول، لأن علم الفقه أصبح في زماننا من العلوم النظرية الغامضة التي لا يقصر عن العلوم الرياضية، و الفلسفية، بلحاظ اضطرار الفقهاء اليه لطول غيبة حجة اللّه الأعظم جعلني اللّه من كل مكروه فداه، عن الانظار، و وجود أخبار متعارضة، و فتاوى كذلك، و ورود أفكار غير مأنوسة، و دقائق غير معهودة و نحو ذلك بين أيديهم بحيث صار الاجتهاد و معرفة الأحكام الشرعية، عن مداركها غامضا صعبا، بحيث حكى عن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره): ان الاجتهاد في مثل زماننا أصعب من الجهاد في

سبيل اللّه، و قد كان في الصدر الأول، و في زمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام علما ساذجا بسيطا، و كان فقهاء أصحاب الأئمة يعلمون فتاويهم و مميزون ما هو الصادر عنهم لبيان الحكم الواقعي عما يكون صادرا تقية، و لبيان غير الحكم الواقعي بسهولة.

و بالجملة لم يكن الاجتهاد في مثل ذلك الأزمنة كزماننا هذا، لان رجوع الجاهل الى العالم في تلك الأزمنة رجوع الى من يعلم علما وجدانيا بالأحكام الشرعية الحاصلة لهم من مشافهة أئمة أهل البيت عليهم السّلام حيث يتلقى أصحابهم الأحكام الشرعية من معادن الوحي و التنزيل.

و اما رجوع الجاهل في زماننا الى فقهائهم رجوع الجاهل الى من عرف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 173

..........

______________________________

الأحكام بالظنون الاجتهادية و الأمارات و يكون علمه و معرفته تنزيلا تعبديا لا وجدانيا فاذا يقع الإشكال أيضا في التمسك بالأخبار الواردة في إرجاع أئمة أهل البيت عليهم السّلام الى فقهاء أصحابهم حسبما فصلناه لصحة المراجعة إلى فقهائنا و لا يكاد يمكن ذلك الأبعد إلغاء الخصوصية بجامع كونهما من العلماء و الفقهاء و هو كما ترى للفرق الواضح بينهم و بين فقهائنا، لما أشرنا أن فقهاء أصحابهم كزرارة بن أعين، و الثقفي و زكريا ابن آدم، و ابى بصير، و ابان بن تغلب، و نظرائهم كانوا يعلمون الأحكام الواقعية، و يكون الإرجاع إليهم، إرجاع الى من عرف الأحكام الواقعية المعلومة لهم مشافهة عنهم عليهم السّلام، و كان يحصل علمهم بفتاواهم أنظارهم المقدسة من غير اجتهاد و تعب شديد، بداهة انهم تلمذوا لدى الأئمة المعصومين سنين متمادية و أخذوا الأحكام منهم مشافهة، و كانوا عارفين بنفس فتاوى أئمة أهل البيت عليهم السّلام الصادرة

لبيان الحكم الواقعي، و كانوا يميزونها عن الفتاوى، الصادرة عنهم لبيان غيره كالتقية و نحوها.

و اما فقهاء أمثال عصرنا فغاية بضاعتهم بعد التعب الشديد و المشقة الأكيدة، هو علمهم بالوظيفة الأعم من الواقعي، و الظاهري و حديث المعذرية، مع وجود الاختلاف الكثير في فتاويهم، فقياس أحدهما بالآخر قياس مع الفارق.

و بالجملة اختلاف فقهائنا المتأخرين كثيرة بحيث قلما توجدان تتفق جماعة من الفقهاء على مسائل باب واحد بل يختلفون في جل المسائل المعنونة الا نادرا، بل قد يختلف نظر فقيه واحد، في مسئلة واحدة، بتعدد كتبه، بل في أبواب كتاب واحد، و واضح ان رأى كل من هذه الأمة يخطّأ و يكذّب مقابلته، و بعد ملاحظة هذه الاختلافات الكثيرة يحصل لكل شاعر ملتفت وهنا بكاشفية أنظار الفقهاء للأحكام الواقعية، بل ربما لا يرون لآرائهم كاشفية و طريقية، بالنسبة إليها.

و من الواضح عدم وجود هذا النحو من الاختلاف في الصدر و الأول، بين فقهاء روات الأصحاب، لما أشرنا انهم كانوا يأخذون معالم الدين، من معادن الوحي و التنزيل بلا واسطة، أو وسائط قليلة، فقلما تقع الاختلاف بينهم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 174

..........

______________________________

فظهر ان الاجتهاد، و الإفتاء في عصرنا يخالف طور الاجتهاد و الإفتاء في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و مع هذا الاختلاف الفاحش، و الفرق الواضح، لا يصح الاستدلال لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد بما دل على مشروعية ما في الصدر الأول فلا يكاد يستكشف، مما دل على مشروعية الإفتاء في الصدر الأول مشروعية الإفتاء في زماننا.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في ذلك و هو مساوق للقطع بعدم الشمول فلا بد لمشروعية هذا النحو من

الاجتهاد من التماس دليل أخر.

فحاصل الاشكال: انه لا يتم الاستدلال لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد في زماننا بمجرد بناء العقلاء على رجوع الجاهل بكل حرفة أو صنعة إلى العالم بهما بالأخبار المتقدمة بعد افتراق كيفية الاجتهادين و اختلاف معرفة فقهاء العصرين، الأبعد إثبات أمرين على سبيل منع الخلو:

اما إثبات معهودية هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول، و زمن الأئمة المعصومين عليهم السّلام و عدم ردعهم عنه.

أو إثبات انه، و ان لم يكن معهودا في الصدر الأول، الا انه كان عليهم الردع عن طريقة تحدث طبعا في الشريعة في طول الغيبة الكبرى، لو لم يرضوا بها فحيث لم يردعوا عنها فيستكشف رضاهم بها.

فلو لم يتم الأمرين المذكورين لا يصح التقليد بمجرد بناء العقلاء على رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بهما، بالأخبار المتقدمة.

بيان لطيف في وجود هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول
اشارة

و الذي يقتضيه دقيق النظر، هو إمكان إثبات كلا الأمرين، بحمد اللّه، و قوته اما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 175

الأمر الأول [الاخبار]
اشارة

______________________________

فيدل على وجود الاجتهاد بهذا النحو- لكن لا بهذه الشدة- في الصدر الأول جملة من الاخبار.

منها ما عن ابن إدريس في أخر السرائر عن كتاب هشام بن سالم، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام، قال:

انما علينا ان نلقى إليكم الأصول، و عليكم ان تفرّعوا «1» و منها ما عنه، عن كتاب أحمد بن ابى نصر، عن الرضا عليه السّلام قال:

علينا إلقاء الأصول، و عليكم التفريع «2».

ظاهر الخبرين يدلان، على معهودية التفريعات على الأصول في الصدر الأول لأن التفريع عبارة، عن استخراج الفروع عن الأصول المتلقاة، و تطبيقها على مواردها و صغرياتها مثلا.

قوله (عليه السّلام): لا تنقض اليقين بالشك ابدا و انما تنقضه بيقين آخر «3».

أصل من الأصول و ما يبحث في الاستصحاب: من جريان الاستصحاب في جميع الموارد أو اختصاصه بالوجوديات، أو انه مخصوص بالدفعيات، أو يعم التدريجيات، أو يشمل لكل من الاستصحاب السببي، و المسببي في عرض واحد، أم لا؟، أو يعم الاستصحابين المتعارضين أم لا، الى غير ذلك من المباحث التي لا تتجاوز عن مفاد قوله عليه السّلام لا تنقض اليقين بالشك فجميع المباحث التي تذكر في رسالة الاستصحاب مثلا تدور مدار تلك الكبرى الكلية.

______________________________

(1) الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح/ 51.

(2) الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح/ 52.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 176

..........

______________________________

و كذا قوله (ع): رفع عن أمتي ما لا يعلمون «1».

أصل، و ما يبحث في رسالة البراءة

من جريان البراءة في كل ما لا يعلم- سواء كان الشك في وجود النص، أو إجماله، أو تعارض النصوص، و كان الشك في الأمور الخارجية- أو يخص ببعضها، أو انه يعم الأحكام الوضعية، و التكليفية، أو يخص بالتكليفية، أو يعم الشك في الاجزاء و الشرائط، أو يخص الاجزاء الى غير ذلك من المباحث كلها، تدور مدار تلك الكبرى الكلية.

و كذا قوله (ع): لا ضرر و لا ضرار في الإسلام «2».

أصل، و ما يبحث فيه من شمول القاعدة لمطلق الإضرار، سواء كان بالنفس أو بالغير، أو لا، ثم انه هل يعم مطلق الإضرار بالغير بالأعم من التسبيب، و المباشرة أو خصوص المباشري، الى غير ذلك، من المباحث، بحث عما يتفرع على ذلك الأصل.

الى غير ذلك من الأصول المعنونة في الكتب الأصولية، و الفقهية، و الفروع الكثيرة المستنبطة منها تفريعات.

و هذه الأمور، كانت في زمان الصادق، و الرضا، عليهما السّلام مثل زماننا هذا، من غير تفاوت في أصل الاستنباط و التفريعات لكن مع تفاوت في كثرة التفريعات و قلتها، و هو مقتضى طبع تطور العلم و مباحثه، و قد يتحقق التفاوت بين المجتهدين في عصرنا أيضا فترى بعضهم يقتصر بذكر بعض التفريعات، و بعضهم يطول بذكر التفريعات و بعضهم متوسط بينهما.

و بالجملة معنى قوله عليه السّلام و علينا إلقاء الأصول ذكر القواعد الكلية و الكبريات من العمومات، و المطلقات، و معنى التفريع فيها، هو استخراج ما يستفاد منها، و ما يتفرع منها، و تطبيقها على مواردها، و صغرياتها، و هو شأن المجتهدين في اعصارنا كما هو الشأن في العصور الأولية، مع تفاوت. في كثرة التفريعات و قلتها.

______________________________

(1) كتاب الخصال ج 2/ 417 ط مكتبة صدوق.

(2) الوسائل باب

1 من أبواب موانع الإرث.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 177

..........

______________________________

و لا يعنى بالتفريع عند علمائنا الإمامية إلا ما ذكرنا لا الحكم بالأشباه و النظائر كالقياس، و الاستحسان، و الحكم بالظنون غير المعتبرة، كما هو دأب فقهاء أهل السنة، و مجتهديهم، في لسان الاخبار.

الاجتهاد المنهي عنه هو اجتهاد غير أصحابنا

و بهذا يظهر ان الاجتهاد المنهي عنه هو الاجتهاد و استخراج الأحكام الشرعية بالأشباه و النظائر و القياس و الاستحسان، التي عليها، فقهاء أهل السنة، و مجتهد و هم المنقطعون عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع أنهم مأمورون باتّباعهم، و حديث الثقلين المتواتر عليه بين الفريقين، أصدق شاهد على ذلك، فترى في فتاويهم من يقول: قال على كرم اللّه وجهه: كذا. و انا أقول كذا. قالت الصحابة كذا. و انا أقول كذا.

قال جعفر بن محمد كذا. و انا أقول كذا. قال أئمة أهل البيت كذا.

و انا أقول كذا. الى غير ذلك من العبائر التي يجدها المتتبع في عباراتهم.

و اما ما عليه فقهاء أصحابنا منذر من أئمة أهل البيت عليهم السّلام الى زماننا هذا فهم برآء منها، و مباحثهم في الأدوار الأخيرة و ان صارت طويلة الذيل، كثيرة المباحث الا ان جميع ما في زبرهم شروح لكلمات أئمة أهل البيت عليهم السّلام و مبيّن لمقاصدهم و استخراج لمنوياتهم المقدسة، و جمع لمختلفات أحاديثهم المروية.

و لعمر الحق ان إنكار هذا النحو من الاجتهاد، إنكار للتفقه في فروع الدين.

بعض المباحث الأصولية و الفقهية مما لم ينتفع بها أو يقل فائدته

نعم كما أشرنا بعض المباحث الأصولية، و الفقهية، المعنونة في كتب الأصحاب لم يكن ينتفع المتدرب فيه، أو تقل فائدته له، بل ربما يوجب تشويش خواطره، و يوجب اضطراب فهمه و منعه عن الوصول الى الدرجات العالية في الفقه، و الفقاهة، و لعله لهذه، و غيرها، من الاشتغال بأمور غير مهمة. صارت توفيقات

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 178

..........

______________________________

أصحابنا المتأخرين في تدوين الكتب الفقهية، و غيرها، أقل من توفيقات قدمائنا كما أشرنا إليه في هذه الرسالة فلاحظ.

فلا بد للباحث الخبير، و المتدرب

البصير، تمييز المباحث التي يستند إليها المجتهد في استنباط الأحكام الفقهية، و يكون مبتلى بها عما لا يستند اليه فيها، بل تذكر تشحيذا للذهن، و تمرينا للقوة الفكرية، مثل مباحث المشتق بعرضها العريض و المعاني الحرفية بما لها من الدقة، و مقدمات الانسداد بما لها من الصعوبة و الدقة، ثم البحث في ان مقتضى المقدمات حجية الظن على الحكومة، أو الكشف مع ان باب العلم، بمصراعيه مفتوحة، و نحو ذلك مما لم يستند إليها في استنباط الأحكام الشرعية إلا نادرا.

بعض المباحث مما ينتفع به و كان في الصدر الأول

و اما مثل مباحث العام و الخاص، و المطلق، و المقيد و الاستصحاب و البراءة و الاشتغال، و التخيير، و علاج التعارض، و أمثالها مما يستند إليها في استنباط الأحكام و يكون كثيرا الدوران في استخراج الأحكام بل قلما يكون باب من أبواب الفقه، بل كل مسئلة من مسائله، الا و فيها أحد منها، لو لم يكن كثير منها.

و غير خفي على الباحث الخبيران مثل هذه المباحث و نظائرها كانت معهودة في الصدر الأول أيضا.

الا ترى ورود أخبار في الاستصحاب، و فيما لا يعلمون، و في علاج تعارض الخبرين، و تخالفهما من العرض على الكتاب العزيز، و مخالفة العامة، و الأخذ بما اشتهر- لو كان من مرجحات الخبرين- الى غير ذلك، و هذه المباحث من أوضح المسائل الأصولية و يبتني عليها كثير من المسائل الفقهية.

و من الواضح ان زمن حضور أئمة أهل البيت عليهم السّلام لم يكن جميع الرواة بحيث يمكنهم التشرف بمحضرهم، كل يوم و ليلة، بل ربما لم يتحصل لبعضهم التشرف لديهم في السنة الإمرة واحدة، أو مرتين، بل و مرة واحدة في موسم الحج عند

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و

التقليد، ج 1، ص: 179

..........

______________________________

ارادة حج بيت اللّه- زاده اللّه عزا و شرفا. بل ربما لم يتحصل لبعضهم التشرف لديهم طيلة حياته، فلا بد و ان يكون لهم طريق، و كيفية في الأخذ بما يصدر عنهم عليهم السّلام فهل يصح ان يقال انهم يأخذون معالم الدين من كل أحد، أو خصوص من يوثقون به، و هل لم يكن لهم حيلة في علاج الخبرين المتعارضين أم لا، الى غير ذلك، و واضح ان معرفة هذه الأمور ليس إلا شأن المجتهد من غير فرق بين زماننا هذا و العصر الأول فتدبر، و كن من الشاكرين.

شواهد من الاخبار على وجود الاجتهاد في الصدر الأول لكن لا بهذه الشدة

و مما يدل على وجود الاجتهاد لكن لا بهذه الشدة في الصدر الأول ما عن عيون اخبار الرضا، عن ابى حيون، مولى الرضا، عن الرضا عليه السّلام قال:

من رد متشابه القرآن إلى محكمه، فقد هدى الى صراط مستقيم، ثم قال عليه السّلام: ان في أخبارنا محكما كمحكم القران و متشابها كمتشابه القران، فردوا متشابهها الى محكمها، و لا تتبعوا متشابهها، دون محكمها فتضلوا «1».

لوضوح ان رفع الاشتباه عن المتشابه بالمحكم، و جعل أحدهما قرينة على الأخر، لا يكاد يحصل الا بالاجتهاد الدقيق و التعب الأكيد، المتداول، في زماننا هذا.

و منها: ما عن معاني الاخبار عن داود بن فرقد قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء، و لا يكذب «2».

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 22.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 27.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 180

..........

______________________________

و لا يخفى ان عرفان مرادهم

و تشخيص مرامهم فيما إذا كان الصادر منهم ذا وجوه و احتمالات، انما هو بعد العرض على الكتاب و السنة و على الاخبار العامة و التتبع التام و الممارسة الأكيدة في كلماتهم و لا يكاد يحصل ذلك الا بالاجتهاد.

و منها: الأخبار الواردة في عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب العزيز، و اخبار العامة، و ترجيح بعضها على بعض، لاحظ باب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل.

و غير خفي ان هذا من أوضح موارد الاجتهاد، و مباحثه المتعارفة بين المجتهدين في عصرنا.

ذكر بعض الاخبار في تعليم أئمة أهل البيت كيفية استنباط الفروع من مداركه بنحو دقيق

أضف الى ما ذكرنا كله الأخبار الواردة في تعليم أئمة أهل البيت عليهم السّلام أصحابهم كيفية استفادة الأحكام، و استنباط الفروع، من مداركه بنحو دقيق نشير الى بعض منها تأكيدا للمقال.

فمنها: ما في الكافي عن يونس عن بعض رجاله، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ادنى الطهر عشرة أيام، و ذلك ان المرية أول ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم فتكون حيضها عشرة أيام فلا تزال كلما كبرت نقصت حتى ترجع إلى ثلاثة أيام، فإذا رجعت الى ثلاثة أيام، ارتفع حيضها و لا يكون أقل من ثلاثة أيام، فإذا رأت المرية الدم في أيام حيضها، تركت الصلاة فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فهي حائض، و ان انقطع الدم بعد ما رأته يوما أو يومين اغتسلت و صلت و انتظرت من يوم رأت الدم إلى عشرة أيام، فإن رأت في تلك العشرة أيام من يوم رأت الدم يوما أو يومين حتى يتم لها ثلاثة أيام، فذلك الذي رأته في أول

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 181

..........

______________________________

الأمر مع هذا الذي رأته بعد ذلك في العشرة، فهو من الحيض، و

ان مر بها من يوم رأت الدم عشرة أيام، و لم تر الدم فذلك اليوم و اليومان الذي رأته لم يكن من الحيض، انما كان من علة اما من قرحة في جوفها، و اما من الجوف فعليها ان تعيد الصلاة، تلك اليومين التي تركتها لأنها لم تكن حائضا فيجب ان تقضى ما تركت من الصلاة، في اليوم و اليومين، و ان تم لها ثلاثة أيام فهو من الحيض و هو ادنى الحيض و لم يجب عليها القضاء و لا يكون الطهر أقل من عشرة أيام فإذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام ثم انقطع الدم اغتسلت، وصلت، فإن رأت بعد ذلك الدم، و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام، فذلك من الحيض تدع الصلاة، و ان رأت الدم من أول ما رأت الثاني الذي رأته تمام العشرة أيام و دام عليها عدت من أول ما رأت الدم الأول، و الثاني عشرة أيام، ثم هي مستحاضة تعمل ما تعمله المستحاضة، و قال كل ما رأت المرية، في أيام حيضها من، صفرة أو حمرة فهو من الحيض و كلما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض «1».

و أنت خبير بعد ملاحظة الخبر الشريف من أوله إلى آخره انه قد روعي فيه أمورا دقيقة لمعرفة كون الدم حيضا، أو استحاضة أو غيرها، و لمعرفة أيام الاستظهار و الأيام التي يحكم فيها بالحيض ظاهرا، أو واقعا و ادنى الحل الى غير ذلك من الأحكام بحيث يصعب دركها الا مع امعان النظر الدقيق.

______________________________

(1) فروع الكافي ج 3/ 76. أورد صدره في الوسائل في باب 10 من أبواب الحيض ح 4. و ذيله في باب 4 منها ح

3. و الفقرة المتوسطة الطويلة في الباب 12 منها ح 2.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 182

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 182

..........

______________________________

و منها: ما في من لا يحضره الفقيه، عن زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام الا تخبرني من أين علمت و قلت:

ان المسح ببعض الرأس، و بعض الرجلين، فضحك و قال:

يا زرارة قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نزل به الكتاب من اللّه لان اللّه عز و جل قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، فوصل اليدين الى المرفقين بالوجه، فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا الى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فعرفنا حين قال برؤسكم ان المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فعرفنا حين وصلهما بالرأس ان المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس فضيعوه، ثم قال فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ، فلما ان وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحا لأنه قال بِوُجُوهِكُمْ ثم وصل بها وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ اى من ذلك التيمم لأنه علم ان ذلك اجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف و لا يعلق بعضها ثم قال اللّه: ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج، و الحرج الضيق «1».

فترى

انه عليه السلام كيف استفاد غسل تمام الوجه، و اليدين الى المرفقين من الآية الشريفة، و كيف فرق بين غسل الوجه و اليدين، و بين مسح الرأس و الرجلين فاستفاد مسح بعض الرأس، و الرجلين، و هل ترى فرقا بين كيفية هذه

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 1/ 56. أورد صدره في الوسائل في باب 23 من أبواب الوضوء ح 1. و ذيله في باب 13 من أبواب التيمم ح 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 183

..........

______________________________

الاستفادة، و ما يستنبطه الفقهاء العظام، في عصرنا من الأدلة.

و منها: ما في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عز و جل، مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» امسح عليه «2».

فترى انه عليه السّلام كيف استفاد المسح على المرارة من قوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، و صرح بان هذا و أمثاله يعرف من كتاب اللّه، و هل هو الا ما يستفيده فقهاء عصرنا من الأدلة و أ ليس قوله عليه السّلام؟! يعرف هذا و أمثاله من كتاب اللّه ترغيب و تحريص الى الطريقة المألوفة بين الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية.

الى غير ذلك من الاخبار التي يجدها المتتبع في الاخبار و فيما ذكرنا كفاية لمن له قلب.

هذا كله بالنسبة الى الأمر الأول فقد ظهر معهودية هذا النحو من الاجتهاد- لكن لا بهذه الشدة- في الصدر الأول.

فإذا تم هذا الأمر فيمكن ان يستدل لمشروعية هذا النحو من الاجتهاد، مضافا الى هذه الاخبار، بالأخبار المتقدمة

بطوائفها السبعة، فليكن على ذكر منك، و كن من الشاكرين و اما.

______________________________

(1) الحج: 22/ 77.

(2) فروع الكافي ج 3/ 33. أورده في الوسائل في باب 39 من أبواب الوضوء ح 5.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 184

الأمر الثاني
اشارة

______________________________

ففي إثبات مشروعية هذا النحو من الاجتهاد و ان لم يكن معهودا في الصدر الأول.

و ذلك لان الأمور التي تحدث في المستقبل على نحوين: فتارة يكون مما يترقب وجوده، و ينتظر تحققه في المستقبل بحسب طبع الأمر، بحيث يصح الاطلاع عليه كل خبير متظلع.

و اخرى لا يكون كذلك، نعم من يكون عالما بالغيب، و يكون واقفا بما وراء الطبيعة باذنه تعالى فله الاطلاع على ذلك.

فان كان الأمر على نحو الثاني كبعض المسائل المستحدثة كمسئلة التأمين، و الترقيع و حق الطبع، و السير مع السفن الفضائية و غيرها مما لم يكن لها عين، و لا أثر، في الأعصار المتقدمة، و لم يكن مما يترقب حصولها و تحققها من ذي قبل عادة، فيصح ان يقال ان عدم ذكرها في لسان الشارع و بيان أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع علمهم بالغيب، و ما يحدث في المستقبل، و تمكنهم الأعلام بذلك بأخبار الغيب، و لكن بلحاظ مصالح و أمور لا يكاد يخفى بل ربما لا يكاد نعلمها لم يكن بنائهم على بيان معارف الدين بأصولها و فروعها و تبليغها الى الناس على غير ما هو المتعارف بين الناس و لم يتشبثوا في بيانها بطرق غير عادية و اعمال خارقة للعادة.

و لا يكاد يخفى ذلك على الواقف بسيرتهم المقدسة، و الخبير بأخبارهم الصادرة عن ناحيتهم الشريفة، و الا لكان عليهم بيان كثير من مهام الحوادث الواقعة، في

الأدوار المتأخرة بإلهاماتهم المقدسة، و كشف الحقائق الراهنة بأنفسهم المباركة لئلا تقع الأمة الإسلامية فيما وقعوا عليهم فلا يصح الإيراد عليهم بعدم ذكر المسائل المستحدثة المحتاجة إليها في اعصارنا مع إمكان استكشاف أحكامها من القواعد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 185

..........

______________________________

الكلية التي ألقوها، و إمكان معرفة محكماتها من مشابهاتها و نظائرها.

و اما إذا كان الأمر على النحو الأول فالاعتبار يناسب الاعتناء بها من كل حكيم خبير إثباتا- لو كان راضيا بها- أو نفيا- لو لم يكن كذلك-، فلو لم يمنع عن أمر و طريقة، تترقب حصولها عرفا في مستقبل الأمر. فيمكن استكشاف رضاه به، و لعله واضح لا سترة فيه.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: لا يخفى ان حديث الاجتهاد، و الإفتاء في مثل زماننا هذا يقرب ان يكون من النحو الأول.

ضرورة انه كما أشرنا غير مرة ان رجوع جاهل كل صنعة، أو حرفة إلى العالم بها كان امرا ارتكازيا معلوما لكل أحد، و غيبة ولي اللّه الأعظم، أرواح من سواه فداه، بل طول غيبته كانت معلومة في الصدر الأول، و ورد في ذلك أخبار كثيرة يجدها المتتبع في مظانه.

و قد علموا (صلوات اللّه عليهم) ان علماء المذهب في طول زمان الغيبة، و حرمانهم عن الوصول الى امام زمانهم، و بقية اللّه في أرضه، لا بد لهم من الرجوع الى كتب الاخبار، و الأصول و الجوامع الحديثية.

ترغيب أئمة أهل البيت بجمع الأحاديث و حفظها و بثها بين الناس

و لذا ورد في غير واحد من الاخبار، التأكيد، و الترغيب بكتابتها، و حفظها و تدوينها، و بثها في الناس، و الوعد بالثواب الجزيل على فعلها.

فعن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام:

احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها «1».

و عن المفضل بن عمر

قال:

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 186

..........

______________________________

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام اكتب، و بث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه الا بكتبكم «1».

و عن الصدوق في أماليه بإسناده إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

ان المؤمن إذا مات، و ترك ورقة واحدة عليها علم كانت الورقة سترا فيما بينه و بين النار و أعطاه اللّه بكل حرف مدينة أوسع من الدنيا و ما فيها، و من جلس عند العالم ساعة ناداه الملك جلست الى عبدي و عزتي و جلالي لأسكنك الجنة معه و لا أبالي «2».

و عن ابى بصير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا «3».

الى غير ذلك من الاخبار المؤكدة للكتابة و بثها و الوعد بالثواب الجزيل على تعلمها.

و واضح ان طبيعة الأمر تقتضي انه في طول غيبة الإمام عليه السّلام و حرمان الحضور لديه يكثر اختلاف الآراء و تتشتت الأفكار، و تتضارب الانظار، فلا محيص لهم الا بالرجوع الى الاخبار الصادرة عنهم مع ما عليها من الاختلاف و الاضطراب.

و لا محالة يرجع عوام الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز و البناء العقلائي لكل أحد، و قد ورد، ان كفيل أيتام آل محمد عليهم السّلام طول الغيبة علمائنا الفقهاء.

______________________________

(1) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 11.

(2) أمالي الصدوق/ 40/ 41 مع اختلاف يسير.

(3) أصول الكافي ج 1/ 52 ح 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 187

إلقاء الأخبار المتخالفة من أئمة أهل البيت لتشكيل الحوزات العلمية

______________________________

أضف الى ذلك ان أئمة أهل البيت عليهم السّلام لمصالح

راجعة إلى حفظ الدين، و المذهب، و حفظ أعلام الدين، و قواعده ألقوا بعض الخلاف بين أصحابهم بذكر عمومات غير مقترنة بالخصوصات، و مطلقات، غير محفوفة بالمقيدات، و متشابهات غير ملائمة بالمحكمات، و أحكام لا تكون صادرة لبيان الأحكام الواقعية الى غير ذلك فلعل كل ذلك منهم لنفر طائفة منهم للفقه في الدين و تشكيل مجالس التعليم و التعلم، و تأسيس الحوزات العلمية و الجوامع العلمية لمعرفة ما هو الصادر منهم عما هو الصادر عن غيرهم و تشخيص ما هو الصادر منهم لبيان الأحكام الواقعية عن غيرها، و إرجاع متشابهات ما صدر عنهم الى محكماتها و عموماتها الى مخصصاتها و مطلقاتها الى مقيداتها الى غير ذلك مما هو متعارف في الحوزات العلمية، و عرفان معالم الدين بهذه الكيفية، أوقع في النفوس، و أثبت في أذهانهم و الا لو لم يكن همهم تشكيل الحوزات العلمية و مجالس التعليم و التعلم، فلعله يمكنهم إلقاء الأحكام الشرعية و معالم الدين بصورة واضحة بينة، مثل وضع القوانين الموضوعة في مجالس النواب أو الشيوخ من كل مملكة فلو ألقيت كذلك لاندرست آثار الدين، و المذهب، و لذا ترى ان القوانين الموضوعة في الممالك المتمدنة و غيرها مع انها مقررة بعبارات واضحة و تكون سهلة التناول لم يطلع عليها الا الخواص منهم، و اما سائر الناس فغير واقفين بها.

و بالجملة من تدبر في الاخبار الصادرة عنهم مع ما عليها من الاختلاف، و الاضطراب، يحدس حدسا قويا بأن ألغاه معالم الدين بأصولها و فروعها بهذه الكيفية من ولاة الدين و أئمة أهل البيت عليهم السّلام لتشكيل الحوزات العلمية، و مجالس التعليم و التعلم و من تفطن و تأمل فيما ذكرنا كله بعين

الإنصاف يعتقد اعتقادا جازما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 188

..........

______________________________

بأن كيفية الاجتهاد و الإفتاء بهذه الصورة كانت معلومة لهم عليهم السّلام بل لكل قائد متفكر خبير، و ان لم يكن من ولاة الدين و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فلو لا ارتضائهم بهذه الكيفية طول الغيبة كان عليهم الردع، و إظهار عدم رضايتهم عنها، و بعدم ردعهم عنها يستكشف رضاهم بذلك.

إذ لا فرق في استكشاف رضي المعصوم بسيرة و طريقة بين كونها بمرئي و مسمع منه، و في حضوره، و بين ما يحدث طبعا و عادة في مستقبل الأمر فتدبر.

فاذا أحطت خبرا بما ذكرنا يندفع الاشكال بحذافيره و يظهر لك جليا رضي أئمة أهل البيت عليهم السّلام باجتهاد المجتهدين طول الغيبة، بهذه الكيفية و رضاهم بمراجعة أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله في غيبة ولي اللّه الأعظم أرواح من سواه فداه الى الفقهاء و المجتهدين العدول.

فهل ترى من نفسك انهم عليهم السّلام في طول الغيبة ألقوا زمام أمر الرعية و أيتام آل محمد عليهم السّلام الى أنفسهم، و لم يرضوا بتكفل الفقهاء الصلحاء لهم حاشاك ثم حاشاك.

فذلكة في رضي أئمة أهل البيت هذا النحو من الاجتهاد

فتحصل مما ذكرنا بطوله انه يصح ان يقال أولا بوجود هذا النحو من الاجتهاد في الصدر الأول لكن لا بهذه الشدة.

و لو سلم عدم وجوده في الصدر الأول فيمكن ان يحدس المتدرب الخبير ان مقتضى طبع الأمر بعد معهودية رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها، و معلومية غيبة الإمام عليه السّلام و طولها، و ما ورد عنهم في الحث بجمع الاخبار و كتابتها و بثها، و وجود الفرق الظاهر بين زمن الحضور و الغيبة من حيث قلة

الاختلاف و كثرته و عدم تمكن الاجتهاد من كل أحد، و عدم وجوب الاحتياط الا في موارد مخصوصة رضائه أئمة أهل البيت عليهم السّلام بهذه الطريقة المستحدثة المألوفة في مثل هذه العصور في رجوع عوام الشيعة و أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله إلى علمائهم و فقهائهم العدول، و لعل إنكار ذلك لا يخلو عن مكابرة عصمنا اللّه و إياكم عن الزّلات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 189

اشكال عدم وجود بناء العقلاء الى الخبراء في مثل المقام

______________________________

قد يتوهم عدم وجود بناء العقلاء في مثل ما نحن فيه الذي تكون انظار خبرائهم و متخصصيهم متفاوتة و مختلفة غاية الاختلاف بحيث يقل اتفافهم على أمر إلا نادرا و ذلك لان مناط بناء العقلاء في رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها لا يخلو عن أحد هذه الاحتمالات.

الاحتمالات المتصورة في ملاك رجوع الجاهل الى العالم
اشارة

الأول: ان يكون لأجل ان اصابة نظر العالم للواقع أكثري و تخلفه عنه قليل بحيث يكون احتمال الخلاف، و الغلط ملغى في نظر الجاهل فكأن الجاهل يطمئن يقول العالم و يركن اليه، نعم لو تنبه يرى انه ليس بعالم، و لعل هذا هو المراد بالعلم العادي المتداول على ألسنتهم.

الثاني: ان زعماء القوم و رؤسائهم السياسية، أو الدينية في بدء تأسيس المجتمع البشرى و التمدن الإنساني لما رأوا انه لو لم يرجع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها أو لو لم يترتب آثار الملكية على ما في اليد، أو لو لم يجب العمل بخبر الثفة، أو لو لم يلزم الأخذ بظاهر كلام كل متكلم الى غير ذلك مما تدور عليه رحى حياتهم و تنتظم به معيشتهم للزم الكلفة الشديدة، و الخرج الأكيد، بل ربما تنجر الى اختلال نظام المجتمع فاوضعوا تلك القوانين لتسهيل الأمر عليهم، و رغدة عيشهم، و انتشروها في الأعصار، و الزموا العمل و التعبد بها، فلم يزل يعلمون بها خلفا عن سلف و دار بينهم اجيالا و قرونا متمادية حتى أصبحت و صارت من الأمور الارتكازية لدى الناس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 190

الفرق بين بناء العقلاء على ما جبلوا عليه و ما صار عادة لهم

______________________________

و الفرق بين الاحتمالين هو ان عمل العقلاء على الاحتمال الأول بلحاظ ما جبلوا عليه و فطّروا عليه بما هم عقلاء، بخلاف الاحتمال الثاني فإنه لم يكن ذلك منهم بما هم عقلاء بل بالوضع و التعبد الى ان صار عادة لهم.

و كثيرا ما تشتبه عادة العقلاء ببناء العقلاء من دون سبق تعبد و وضع بخلاف ما جرت عليه عادتهم أولا بالوضع و التعبد، و الأكثري بين الناس هو القسم الثاني لكنه ربما

تختلط ببناء العقلاء فتدبر.

الثالث: ان يكون ذلك لأجل مقدمات الانسداد بتقريب ان العقلاء في حياتهم الاجتماعى و تنظيم أمورهم ربما يحتاجون الى تشخيص أمور لما فيها مصالحهم، و مفاسدهم و معرفة حالا لما فيها من المصالح و المفاسد لاستيفاء مصالحها و الاحتراز عن مفاسدها فلا يجوز لهم إهمال تلك الأمور مع ما هم عليه من الحاجة، و يعز عليهم الاحتياط لاستلزامه الحرج الشديد، بل ربما لا يمكنهم ذلك لأدائه إلى اختلال النظام، و ليس لهم المراجعة إلى الجاهل، و هو واضح لعدم ترجيح لقول الغير الجاهل، على أنفسهم و ليس لهم طريق إليها إلا بالمراجعة إلى أهل الخبرة، و علماء الفن لاقريبة قوله الى الواقع من غيره، فليكن هذا سر مراجعة جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها هذا.

تضعيف بعض الوجوه في ملاك رجوع الجاهل الى العالم

و لا يخفى عدم تمامية الاحتمال الثالث لبطلان مقدمات الانسداد في كثير من الموارد لعدم استلزام العسر و الحرج في موارد كثيرة في الاحتياط فضلا عن استلزامه اختلال النظام- و مع ذلك لا يحتاطون بل يعملون بقول الخبير.

مع انه لو فرض عدم التمكن من الاحتياط الكلى فلازمه التبعيض في الاحتياط لا العمل بقول الخبير.

و اما الاحتمال الثاني فدون إثباته خرط القتاد لان تطابق القوانين البشرية من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 191

..........

______________________________

باب الاتفاق مع تفرق أبناء البشر في الأصقاع المتباعدة و الأمكنة المختلفة مع اختلاف مشاربهم، و عشرتهم، و أديانهم مع عدم وجود عامل الارتباط و الاجتماع بينهم بعيد بل ممتنع عادة، مع انا نرى عيانا ان جميع طوائف الناس، و أصنافهم من الإيراني و العربي، و الحبشي، و الرومي، و الهندي، و غيرهم، و من يكون في أقصى

نقاط العالم و في أبعد نقطة المسكون و من يعيشون حياة بدوية بسيطة يعملون بخبر الثقة و يرتبون آثار الملكية على ما يكون تحت يد الغير و آثار الصحة على فعل الغير و يرجع الجاهل منهم الى العالم منهم من دون ان يكون عمل كل مستندا إلى الأخر، بل غير مطلع على عمل الغير. فأين الإيراني من ان يكون عمله مستندا إلى الإفريقي و بالعكس؟! و أين الإيراني و الإفريقي، من الهندي، و هكذا غيرهم مع عدم وجود الارتباط بين الأمم المتباعدة في الأزمنة السابقة و القرون الغابرة.

فاحتمال كون عمل العقلاء بتلك الأمور لأجل تعبد كان في بدء الأمر بديهي البطلان.

تصحيح بعض الوجوه في ملاك رجوع الجاهل الى العالم

فالأشبه هو الاحتمال الأول لكونه امرا معقولا موافقا للاعتبار لقضاء الوجدان بان من يشترى البقل من البقال مثلا و العطر من العطار و الحديد من الحداد لا ينقدح في خواطره ان البقال، و العطار، و الحداد غير مالكين لها الأبعد التذكر، و مع ذلك لا يعتنى به، بل يراها أملاكا لهم.

و كذا يرتب آثار الصحة على فعل الغير، من دون انقداح الخلاف، و يعمل بخبر الثقة من دون انقداح الكذب في خواطره الى غير ذلك مما عليه بنائهم عليه.

و مما جبلوا عليه، و استقر عليه بنائهم مراجعة جاهل كل صنعة أو حرفة إلى العالم بها و يعملون برأيه غافلا عن احتمال مخالفته للواقع بحيث لم ينقدح في أذهانهم الشك، و الريب في ذلك، فهم مطمئنون بآراء خبرائهم و واضح ان بناء العقلاء في رجوع جاهل كل حرفة أو صنعة إلى العالم بها من باب الطريقية لوضوح ان نظر الطبيب في ان الشي ء الفلاني مثلا نافع للحمى مثلا لا يكون له سببية في ذلك بل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 192

..........

______________________________

طريق إلى الخاصية التي تكون فيه.

و من المعلوم انه لا اشكال و لا خلاف عند أصحابنا الإمامية في ان فتوى الفقيه طريق إلى الأحكام الواقعية، و العذرية بحيث لا توجب فتواه مصلحة ملزمة في مؤداة فاذا يقع الإشكال في بناء العقلاء في الموارد التي يكون الاختلاف من خبراء الفن كثيرا كآراء فقهائنا في الأعصار المتأخرة.

و حاصل الاشكال انه كيف يمكن دعوى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف و الخطاء و يطمئنون بارائهم مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيه واحد في كتبه العديدة بل في كتاب واحد.

و الإنصاف انهم لا يطمئنون بآراء الفقهاء بل لا يرون لآرائهم أمارية و كاشفية ألا ترى انه إذا اختلف المقومون لتقويم بيت أو متاع مثلا فلا يرى لتقويهم أمارية و كاشفية، و لا تطمئن نفسك بقولهما كما تطمئن إذا لم يكن هنا اختلاف.

فعلى هذا لا يبعد ان يقال ان رجوع العوام الى فقهاء الدين لأحد أمرين.

1- اما لتوهم كون فن الفقه كسائر الفنون يقل فيه الخطاء فيكون رجوعهم إليهم لمقدمة باطلة و توهم خطأ، بحيث لو علموا بها لما راجعوهم.

2- و اما لأجل أمر تعبدي أخذ الخلف من السلف لا لأمر عقلائي، فعلى هذا يكون الرجوع إليهم أمرا تعبديا، لا عقلائيا.

فظهر مما ذكرنا كله عدم تمامية بناء العقلاء في رجوع العوام الى فقهاء الدين هذا غاية التقريب في الاشكال.

جواب من العلامة الحائري عن الاشكال و المناقشة فيه

و اما الدفع فعن العلامة الحائري (قدس سره) بما حاصله:

ان خطأ الفقهاء و ان كان كثيرا إذا انضم بعضها الى بعض بحيث لو اجتمعت من أول الفقه إلى آخره لأمكن تدوين فقه غير صحيح، الا ان

خطأ آراء كل واحد منهم قليلة بالنسبة إلى آرائه المطابقة للواقع بحيث لو لوحظت آراء الفقيه الفلاني

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 193

..........

______________________________

مثلا و ضم بعضها ببعض لرأيت ان نسبة ما اخطائه بالنسبة الى ما اصابه كالحجر جنب الإنسان «1».

و لكن نوقش فيما أفاده: بأن هذا كلام مدرسي لا يمكن المساعدة عليه ضرورة انه مع ملاحظة هذه الاختلافات الكثيرة من الفقهاء في المسائل الفقهية في الأبواب المختلفة بل في باب واحد بحيث لم يكن لهم اتفاق في المسائل إلا نادرا كيف يصح ان يقال ان خطأ كل واحد بالنسبة إلى صوابه قليل فتأمل.

ثم انه حكى عنه (قدس سره) انه تفصى عن الاشكال بوجه أخر بما حاصله:

جواب أخر من العلامة الحائري و النقاش فيه

ان الواجب و المطلوب عند العقلاء في باب الاحتجاج بين الموالي و العبيد هو قيام الحجة لديهم على أنحائها المقررة، سواء كانت أحكاما واقعية أولية- و هي أحكام مجعولة على موضوعات واقعية- أو أحكام مقررة على طبق الطرق و الأمارات التي أنفذها الشارع، و هي قد تتخلف عن الواقع، أو وظائف مقررة عند فقد الأمارات و هي الأصول العملية.

و الواجب على العقلاء في مقام الاحتجاج هو تحصيل المؤمن من العقاب لا خصوص العمل بالأحكام الواقعية، و من المعلوم ان الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) أتعبوا أنفسهم الشريفة في استنباط الأحكام الشرعية و تفريع الفروع، و لم يقصروا في ذلك الا انهم لأجل اختلافهم في الفهم و النظر و دقة المطالب و غموضتها فقد يصل بعضهم الى الحكم الواقعي الاولى، و بعضهم الأخر إلى حكم مؤدى الأمارات، و الثالث إلى مؤدى الأصل، وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهٰا و لكل منهم حجة على اللّه تعالى و

عذر فيما وصل اليه و لكل منهم مؤمن من العقاب و لا يفضل أحدهم على الأخر في تحصيل الحجة، و رأى كل منهم حجة و معذر في حق نفسه

______________________________

(1) الدرر الملتقاط تقريرنا لبحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الاجتهاد و التقليد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 194

..........

______________________________

و حق مقلديه و يكون مؤمنا من العذاب.

و بالجملة الواجب على العقلاء في باب الاحتجاج تحصيل الحجة و المؤمن من العقاب لا الوصول الى خصوص الأحكام الأولية، و جميع الفقهاء شرع سواء في ذلك من غير تفضيل لأحدهم بالنسبة إلى الأخر فيصح للعقلاء المراجعة الى اى من الفقهاء «1».

و نوقش أولا: بان ما ذكره (قدس سره) خارج عن موضوع البحث لأنه لم يكن البحث في ان الفقهاء مقصرون في الاستنباط حتى يقال: ان لكل من الفقهاء حجة بينه و بين اللّه تعالى أو يكون معذورا في فتواه، و ان كان مخالفا للواقع حتى تصح المراجعة إليهم، بل موضوع البحث في انه مع هذه الاختلافات الكثيرة بين الفقهاء كيف تصح المراجعة إليهم، و لو اطلع العقلاء على وجود الاختلاف الكثير فلا يكادون يراجعون الى خبرائهم، فالجواب لا يلائم الاشكال.

و ثانيا: انه لو سلم ان نظر العقلاء في مثل المقام تحصيل الحجة و العذر لا اصابة الواقع لكنهما يتوقفان على إلغاء احتمال الخطاء في اجتهاد المجتهد في استنباط الأحكام الأولية حتى يصير فتاويه مع هذه الإلغاء في عداد سائر الأمارات العقلائية و لا يكاد يمكن الإلغاء مع هذه الاختلافات الكثيرة.

و قد ثبت في محله ضعف جعل المماثل على طبق الامارة و غاية ما في الباب الطريقية، و معذرية الطرق و الأمارات بالنسبة إلى

الأحكام الواقعية انما هو للمجتهد لا المقلد لان مبني عمله انما هو فتوى المجتهد لا الأمارة التي تبين خطائها، و فتاويه لا يكون معذرا للغير إلا إذا كانت كسائر الأمارات العقلائية قليلة الخطاء كثيرة الإصابة و المفروض ان كل مجتهد يحكم بخطاء مخالفه لا بتقصيره، و معه كيف يمكن حجية فتوى الفقيه.

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 195

الجواب الحقيق عن الاشكال

______________________________

و لكن الذي يمكن ان يقال في دفع الاشكال هو الذي ذكرناه في الأمر الثاني مما تقدم أنفا و حاصله:

معلومية هذا البناء من المتشرعة طول الغيبة و رجوع أيتام آل محمد صلّى اللّه عليه و آله الى فقهائهم العدول مع ما هم عليه من الاختلاف، و هي دليل على رضاء الشارع الأقدس به فالعمل على فتاويهم مع ما هم عليه من الاختلاف الكثير كما انه إذا كان هذا النحو من الاختلاف موجودا في الصدر الأول، و لم يردع عنه، يكشف رضاهم به فالرجوع الكذائي مع ابتنائه على مقدمة خطائية مرضىّ عند الشارع الأقدس.

نعم يبقى الإشكال: في ان حجية فتوى الفقيه على هذا هل هو من باب الامارة و إلغاء احتمال الخلاف كسائر الأمارات، أو من باب الأصول؟.

و لا يبعد ان يقال ان بناء المتشرعة على أخذ الفتوى من باب الكاشفية، و الأمارية و هي التي عليها الطريقة المألوفة و السنة العملية في رجوع جاهل كل صنعة إلى العالم بها. فمقتضى سكوت الشارع و عدم ردع هذه الطريقة في المقام إمضاء لما عليه المتشرعة، مع مقدمة خطائية- و هي عدم علمهم بهذه الاختلاف الكثير.

و بالجملة الشارع الأقدس امضى الطريقة المألوفة، بالسكوت، و عدم الردع بما

هم عليه، بحسب ما هم عليه بحسب اعتقادهم، و لو كان اعتقادهم خطأ، و ليس هو إلا الطريقية و لازم ذلك جعل الشارع، إياها أمارة شرعية مجعولة.

أو يقال ان فتوى الفقيه بمنزلة الأصل في المسئلة الأصولية نظير ما يقال في الخبرين المتعارضين فكما انه يحتمل ان يكون ظاهر أدلة التخيير هو التوسعة للجاهل بالواقع بالأخذ بأحد الخبرين فيكون مفادها تعيين الوظيفة لدى الشك في الواقع فيكون من قبيل الأصل المعول عليه لدى الشك، فلا ينافي ذلك كون أحد الخبرين حجة على الواقع لأن الحجة على الواقع غير الامارة عليه كما انه لو أوجب الاحتياط

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 196

..........

______________________________

في الشبهة البدوية يصير حجة على الواقع و لا يكون طريقا إليه لأن نسبته الى الواقع و مقابله على السواء.

فكذلك نقول في المقام فتكون فتوى الفقيه مع هذه الاختلافات الكثيرة أصل و حجة على الواقع فعلى هذا يشكل حجية فتوى الفقيه بالنسبة إلى لوازمه و ملزوماته العادية.

هذا كله في الموقف الأول في التقليد، و هو جواز التقليد و مشروعيته و قد ظهر لك بحمد اللّه مشروعية التقليد بعرضها العريض بل وجوبه لغير المتمكن من الاجتهاد أو الاحتياط.

بقي الكلام في.

الموقف الثاني

اشارة

و هو ان التقليد هل يكون عبارة عن العمل بقول الغير، أو الالتزام بالعمل بقول الغير، أو غيرهما؟ فنقول.

معنى التقليد لغة

التقليد لغة جعل شخص، أو غيره، ذا قلادة يقال قلدت الفتاة: إذا جعلت القلادة في جيدها، قلدها السيف: إذا جعل حمالته في عنقها، قلد البعير: إذا جعل في عنقه حبلا يقاد به، و منه تقليد الهدى في الحج لان المحرم يجعل البعير مثلا ذا قلادة بتعليق النعل عليه ليعلم أنه هدي فيكفّ عنه، و في الحديث يقلدها بنعل قد صلى فيه، و منه كما في مجمع البحرين في حديث الخلافة: قلدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام: اى ألزمه بها بجعلها في رقبته و ولاه أمرها.

اختلاف العبارات في معنى التقليد الاصطلاحي

و اما اصطلاحا فاختلف عباراتهم فيه.

فقال بعض كما عن النهاية، و المعالم، و شرح المختصر ان التقليد هو العمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 197

..........

______________________________

بقول الغير من غير حجة، و مطالبة دليل، و في رسالة تقليد شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) عن بعضهم نسبته الى علماء الأصول.

و قال أخر: كما عن جامع المقاصد: انه قبول قول الغير. و عن فخر المحققين: اضافة في الأحكام الشرعية من غير دليل على خصوص ذلك الحكم.

و قال ثالث: كما عن الفصول، و الكفاية: انه عبارة عن الأخذ بقول الغير قال في الكفاية: التقليد و هو أخذ قول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا بلا مطالبة دليل على رأيه.

و قال رابع: كما ذهب اليه الماتن هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين و ان لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ.

و قال خامس: انه تعلم الفتوى للعمل.

و قال سادس: انه عبارة عن منابعه قول الغير، و رأيه.

و قال سابع: انه عبارة عن الالتزام و التعلم كليهما.

فهل الاختلاف

في ذلك مجرد الاختلاف في التعبير و ان مرجع جميع التعاريف إلى أمر واحد، و هو تطبيق العمل- الحركات و السكنات- على قول الغير بإرجاع الكل الى العمل فيكون المراد من الأخذ و القبول في مقام العمل، و المراد بالالتزام و التعبد بمقتضاه كما هو ظاهر لفظي الأخذ و القبول، و لذا نسب القول بكون التقليد العمل بقول الغير الى علماء الأصول.

أو ان ذلك اختلاف في المعنى و ان المراد من الأخذ بقول الغير، و قبوله هو الانقياد له، و جعله حكما، في حق نفسه و التوطين على العمل به عند الحاجة.

أو انه لا ذاك، و لا ذلك، بل الاختلاف في بعضها في التعبير، و في بعضها الأخر في المعنى وجوه بل أقوال.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 198

كلمة من سيد مشايخنا في ان اختلاف كلمات الأصحاب ليس في معنى التقليد

______________________________

صرح سيد مشايخنا في المستمسك بان الاختلاف في الجميع في التعبير قال ما نصه:

«هذا الاختلاف و ان كان بدوا ظاهرا في الاختلاف في معنى التقليد، و مفهومه الا ان عدم تعرضهم للخلاف في ذلك، مع تعرضهم لكثير من الجهات غير المهمة يدل، على كون مراد الجميع واحدا و ان اختلافهم بمحض التعبير» «1».

وجوه الاشكال فيما افاده سيد مشايخنا

و لا يخفى ما فيه أولا:

كما في رسالة تقليد شيخنا الأنصاري (قدس سره) لتصريح بعضهم بتحقق التقليد بأخذ الفتوى للعمل عند الحاجة و ان لم يعمل بعد «2».

و ثانيا: كما فيها أيضا أنهم فرعوا على الخلاف في معنى التقليد بعض أحكامه و مسئلة البقاء على تقليد الميت فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بالعمل بفتواه «3» و هكذا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي، فيما إذا كان الثاني مساويا للأول، أو مفضولا فإنه لا يجوز العدول عن الأول الى الثاني بعد الالتزام، و هذا بخلاف ما إذا قلنا ان التقليد هو العمل بقول الغير فإنه لا يجوز البقاء على تقليد الميت، و يجوز العدول عن الحي إلى الحي حينئذ لعدم تحقق التقليد في الفرض.

و ثالثا: بأنه كيف يكون الاختلاف بمجرد التعبير مع تصريح المحقق الخراساني (قدس سره) الذاهب الى كون التقليد هو الأخذ بقول الغير، و رأيه فإنه لا وجه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 11.

(2) رسالة التقليد/ 45.

(3) رسالة التقليد/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 199

..........

______________________________

لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه و الا كان بلا تقليد. و تصريح بعضهم.

بان القول بكون التقليد عنوانا للعمل و منتزعا منه يستلزم الدور في العبادات لأن مشروعية العمل العبادي و صحتها من المقلد- بالكسر- يتوقف على التقليد

لأنه لو لم يقلد لم يتمكن من الإتيان بها بما أنها مأمور بها حتى يقع عبادة، فلو كان التقليد متأخرا عن العمل و منتزعا منه (لعدم تحقق التقليد حسب الفرض الا بالعمل) لزم الدور و ذلك لان العامي إذا لم يقلد لا يتمكن من الإتيان بصلاة الجمعة مثلا بما انها واجبة و مبرئة للذمة فإذا توقف تحقق تقليده على الإتيان بتلك الصلاة لزم الدور فظهر مما ذكرنا ان القول بكون مرجع التعاريف المذكورة للتقليد الى الاختلاف في التعبير لا يمكن المساعدة عليه.

الأقوال الأصيل في معنى التقليد ثلاثة

نعم يمكن إرجاع بعض التعاريف الى بعض وعد الأقوال الأصلية في المسئلة ثلاثة.

الأول: ما ذهب اليه الماتن (قدس سره) من ان التقليد هو الالتزام بالعمل و لعله اليه يرجع القول بكونه عبارة عن قبول قول الغير، أو القول بأنه متابعة قول الغير، و رأيه.

الثاني: ما ذهب اليه صاحبا الفصول و الكفاية من انه عبارة عن الأخذ بقول الغير و رأيه للعمل به في الفرعيات إلخ. و لعله اليه يرجع القول بكونه عبارة عن أخذ الرسالة للعمل بها، أو تعلم الفتوى للعمل بها.

الثالث: ما ذهب اليه جمع من الأساطين و هو كونه عبارة عن نفس العمل مستندا إلى رأي الغير.

إذا عرفت وجود الخلاف في معنى التقليد فلا بد من التنبيه على ان التقليد اى واحد منها كما انه لو لم يكن الخلاف فيه الأمن جهة التعيير لا يهم البحث و التنقيب على انه اى منها فنقول:

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 200

الوجوه التي يستدل بها لكون التقليد عبارة عن الأخذ و الالتزام و تزييفها

______________________________

يظهر من بعضهم، بل صرح بعضهم بعدم كون التقليد عنوانا للعمل متنزعا منه بل عبارة عن الأخذ، أو الالتزام للعمل فيكون سابقا على العمل.

و ما يمكن ان يستدل لمقالهم وجوه.

الوجه الأول: ما عن الفصول و وافقه المحقق الخراساني فقال في الكفاية:

«ان التقليد هو الأخذ بقول الغير و رأيه للعمل الى ان قال و لا يخفى انه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه و الا كان بلا تقليد» «1».

أفيد في بيانه: «بأنه لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل على طبق فتوى الغير فأول عمل يصدر من المكلف يصدر من غير تقليد، لان ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل، مع ان العمل لا بد و ان

يكون مسبوقا بالتقليد، لان المكلف لا بد ان يستند في اعماله إلى الحجة. فكما ان المجتهد يستند الى اجتهاده، و هو أمر سابق على عمله فكذلك العامي لا بد ان يستند الى التقليد، و يلزم ان يكون تقليده سابقا.

عليه» «2».

و بالجملة: العمل مسبوق بالتقليد دائما، و لذا قال بعضهم و منهم الماتن (قدس سره) بان التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل بقول المجتهد، و قال أخر و منهم المحقق الخراساني (قدس سره) انه أخذ قول الغير و رأيه في الفرعيات أو الالتزام به تعبدا بلا مطالبة دليل على رأيه.

و رده المحقق الأصفهاني (قدس سره): «بان التقليد عنوان للعمل استنادا إلى رأي الغير، و لا تقابل بين الاجتهاد، و التقليد حتى يكون سبق الأول على العمل موجبا لسبق الثاني عليه، بل التقابل بين عمل المجتهد و عمل المقلد، فالعمل المستند إلى

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 434.

(2) التنقيح ح 1/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 201

..........

______________________________

ما حصله من المدرك عمل المجتهد، و العمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلد» «1» و بعبارة أخرى كما سنشير اليه: ان التقليد عنوان ينطبق على نفس العمل نظير عنوان التعظيم الذي ينطبق على نفس القيام مثلا، فالتقليد أمر مقارن مع العمل و لا يعتبر فيه السبق زمانا، فاذا عمل المكلف عملا مستندا الى فتوى الغير كان ذلك العمل مقرونا بالتقليد لا محالة و هو كاف في صحته، و لا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل.

و بالجملة لم يرد دليل على لزوم مسبوقية العمل بالتقليد و انما الواجب سبق تحصيل الحجة على العمل، فعلا كان أو تركا، تحصيلا للمؤمن من العقاب.

الوجه الثاني: ما هو مستفاد

من الوجه الأول، كما ان جوابه لائح مما ذكرناه في دفعه، و لا بأس بافراده بالذكر و حاصله.

ان الاجتهاد و التقليد متقابلان، و الاجتهاد هو أخذ الحكم عن المدرك، و التقليد هو أخذه لا عن المدرك، فكما ان الاجتهاد متقدم على العمل فكذلك التقليد ورد بأنه لم يدل دليل على تقابل الاجتهاد، و التقليد بهذا المعنى، نعم هما متقابلان على نحو تقابلهما للاحتياط الذي هو عنوان للعمل قطعا.

و بالجملة كما أشرنا أن التقابل بين عمل المجتهد و عمل المقلد، فالعمل المستند الى ما حصله من المدرك عمل المجتهد، و العمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلد.

الوجه الثالث: ما عن صاحب الفصول من استلزام القول بكون التقليد عبارة عن العمل الدور في العبادات لان وقوع العبادة يتوقف على قصد القربة، و هو يتوقف على العلم بكونها عبادة، فلو توقف العلم بكونها عبادة على وقوعها، كان دورا.

و بعبارة أخرى أفاده شيخنا الأعظم (قدس سره):

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 10.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 202

..........

______________________________

«انه لو كان التقليد هو العمل امتنع ان يقع العمل على جهة الوجوب، أو الندب، إذا كان مما اختلف فيه المجتهدون كغسل الجمعة، بل امتنع ان يقع مشروعا إذا كان مما اختلف في مشروعيته، كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، و صلاة القصر في أربع فراسخ، فان وقوع العمل على صفة الوجوب بل المشروعية لا يتحقق الا بالتقليد، فلو توقف تحقق التقليد على العمل لزم الدور، و تسليم توقفه على الأخذ بالفتوى و منع صدق التقليد كما ترى» «1».

ورده الشيخ (قدس سره) في الرسالة.

«بأن مشروعية العمل، أو وجوبه يتوقف على وقوعه على جهة التقليد لا على سبق التقليد فاذا

فرضنا ان هنا مجتهدين أحدهما يرى وجوب الجمعة، و الأخر يرى وجوب الظهر فالمكلف يتخير بين إيقاع الجمعة وجوبا على جهة التقليد للأول و بين إيقاع الظهر كذلك على جهة التقليد، للثاني.

و كذا الكلام في غسل يوم الجمعة فإنه يتخير بين إيقاعه وجوبا على جهة التقليد لموجبه، و بين إيقاعه ندبا على جهة التقليد لناويه فلا يتوقف العمل على سبق صفة الوجوب له، بل يكفى ان يكون للمكلف أن يأتيه على وجه الوجوب فافهم» «2».

و بعبارة أخرى كما أفيد: «مشروعية العمل لا تتوقف على التقليد بل تتوقف على الاستناد إلى الحجة الدالة على المشروعية كفتوى المجتهد فاذا افتى بوجوب صلاة الجمعة و علم بها المقلد يمكنه إتيان الصلاة بما انها واجبة تعبدا و نفس الصلاة المأتي بها كذلك يصدق عليها عنوان التقليد فلا دور» «3».

فظهر مما تقديم انه: لا محذور في القول بكون التقليد عبارة عن العمل المستند الى المجتهد و لم يستلزم القول به اى محذور- من الدور و غيره- و اللّه العالم

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 45/ 46.

(2) رسالة التقليد/ 45/ 46.

(3) الدروس ج 1/ 37.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 203

..........

______________________________

فحان التنبيه: على المعنى المناسب لمفهوم التقليد و ما هو المستفاد من الأدلة فنقول:

حكم العقل بكون التقليد عبارة عن العمل المستند

المناسب لمعنى التقليد لغة و المستفاد من الأدلة هو القول بكون التقليد عبارة عن العمل، دون القول بكونه الالتزام، أو الأخذ، أو التعلم.

نعم ربما يكون الالتزام و التعلم من مقدمات تحقق التقليد لا التقليد نفسه كما سنشير اليه.

و ذلك لان غاية ما يقتضيه العقل هو ان المكلف العاجز عن الاستنباط لا بد له من تفريغ ذمته بالنسبة الى ما اشتغلت ذمته و ذلك يحصل

بالعمل على طبق فتوى المجتهد دون مجرد الالتزام بفتواه، أو الأخذ بفتواه ضرورة انه بمجرد ذلك لم يؤد الوظيفة، و لم يفرغ ذمته بخلاف ما إذا عمل على طبقه فإنه يكون مؤديا للوظيفة، و مفرغا للذمة.

نعم الالتزام أو التعلم، ربما يحتاج إليهما في تحقق التقليد و هو العمل بفتوى المجتهد.

هذا ما يقضيه حكم العقل في باب الامتثال.

بناء العقلاء على العمل برأى الغير

و كذا سيرة العقلاء في باب التقليد على ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) فقال:

«ان سيرة العقلاء- حفظا لنظام أمورهم- استقرت على العمل على طبق رأى المجتهد، و العارف بشي ء، فالالتزام، أو الأخذ بالفتوى بوجودها العلمي، أو الكتبي، و ان كان من المقدمات لكنه أجنبي عن مقاصد العقلاء.

الأدلة اللفظية على كون التقليد عبارة عن العمل

و كذا مقتضى الأدلة اللفظية من الآيات، و الاخبار- على تقدير دلالتها على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 204

..........

______________________________

التقليد- فكذلك أيضا.

و ذلك لان غاية ما تدل عليه آية النفر- بناء على دلالتها على وجوب التقليد- هي لزوم الحذر عند الانذار و هو عنوان للعمل و هو الأمر القابل لتعلق الوجوب به و هو الذي يقتضيه الخوف عادة، دون الالتزام، أو الأخذ بوجوده العلمي، أو الكتبي و كذا آية السؤال على تقدير الدلالة و ان كانت مسوقة لوجوب القبول بعد الجواب الا ان الواضح، ان المطلوب في العمليات هو القبول عملا، لا جنانا فضلا عن الأخذ بوجوده الكتبي للعمل.

و كذا سائر الأخبار مما دل على جواز الإفتاء، و الاستفتاء، و الإمرة بالرجوع الى رواة الحديث فإنه يلازم القول عملا عرفا لا سائر أنحاء القبول إذ المفروض ان موردها العلميات المطلوب فيها العمل دون عقد القلب المطلوب في باب العقائد» «1».

و بالجملة لا يستفاد من أدلة الباب أكثر من حجية فتوى المجتهد في حق العامي في مقام العمل فهي امارة كسائر الأمارات المعتبرة شرعا التي تنجز الواقع عند الإصابة و معذرا عند عدمها فاللازم على العامي بحكم الشرع و العقل الاستناد الى الفتوى في مقام العمل في أفعاله و تروكه، فتفسير التقليد بالعمل مستندا الى قول المجتهد هو الموافق للادلة دون تفسيره بالالتزام

للعمل أو الأخذ له.

عدم أخذ عنوان التقليد موضوعا للحكم في شي ء من الأدلة إلا في خبر الاحتجاج

فبعد ما عرفت ان المستفاد من أدلة الباب هو لزوم استناد العامي في مقام العمل الى فتوى المجتهد فهو المتبع و مع ذلك لا نحتاج الى تجشّم صدق مفهوم التقليد لعدم ورود عنوان التقليد في شي ء من الأدلة موضوعا للحكم إلا في خبر الاحتجاج المروي عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام فان فيه ذلك بعد توصيف الفقيه الذي يرجع إليه بأوصاف بأنه: من كان من الفقهاء، صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه «2».

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

(2) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 205

..........

______________________________

الا انه وقع الكلام في اعتباره و في دلالته على التقليد الذي نحن بصدد إثباته و هو التقليد في الأحكام الشرعية العملية.

تفسير التقليد بالعمل المستند انسب بمعناه اللغوي و العرفي

و مع ذلك كله نقول: ان المعنى الذي ذكرناه للتقليد انسب بمعناه اللغوي و العرفي من تفسيره بالالتزام و الأخذ.

و ذلك لما عرفت ان التقليد لغة جعل شخص، أو غيره ذا قلادة، و العامي بتقليده مجتهدا و استناده إليه في مقام العمل، كأنه يجعل أعماله قلادة في رقبته، لأنه في عاتقه و عهدته و لا يناسب ذلك تفسير التقليد بالأخذ أو الالتزام.

اما الأخذ فظاهر ضرورة انه لا مناسبة بين أخذ الفتوى للعمل و لم يعمل بعد و بين معناه اللغوي و ذلك واضح إلى النهاية.

إشكال في عدم ملائمة الالتزام لمعنى التقليد و تزييفه

و اما الالتزام فمرجع تقليد المجتهد الى ان العامي بالتزامه بفتوى المجتهد يجعل فتاويه كالقلادة في عنقه فعلى هذا يكون العامي مقلدا- بالفتح- و يصح إطلاق المقلد- بالكسر- على المجتهد، و هو كما ترى خلاف المنساق، و خبر الاحتجاج يصرح بأنه- للعوام ان يقلدوه- كذا أفيد.

و لكن فيه ان مجرد ذلك لا يستلزم إطلاق المقلد- بالكسر- على المجتهد و المقلد- بالفتح- على العامي على العكس مما هو المتعارف.

ضرورة أن العامي هو الذي يلتزم و يجعل فتاوى المجتهد قلادة في عنقه، فالعامى مقلد- بالكسر- من جهة و ان كان مقلدا- بالفتح- من جهة أخرى فكان العامي يزين نفسه و شخصه بالتزامه بالعمل بفتوى المجتهد.

فاذا إطلاق المقلد- بالفتح- على المجتهد لا تخلو عن تسامح.

فظهر ان المناسب لمعنى التقليد لغة هو تفسيره بالعمل فإن العامي كأنه يجعل أعماله قلادة في رقبة المجتهد، و في عاتقه و عهدته.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 206

دلالة بعض الاخبار على ان اعمال العامي في عهدة المفتي و عاتقه

______________________________

و قد أشير الى هذا المعنى في عدة اخبار.

منها: صحيح عبد الرحمن بن ابى الحجاج، قال:

كان أبو عبد اللّه عليه السّلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي، فسئل ربيعة الرأي عن مسئلة فأجابه، فلما سكت قال له الأعرابي، اهو في عنقك فسكت عنه ربيعة، و لم يرد عليه شيئا فأعاد المسئلة عليه، فأجابه بمثل ذلك فقال له الأعرابي:

ا هو في عنقك؟ فسكت ربيعة فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام هو في عنقه قال، أو لم يقل، و كل مفت ضامن «1».

و منها: ما عن دعائم الإسلام، و سئل رجل ربيعة بن ابى عبد الرحمن عن مسئلة فأجابه ربيعة قال له الأعرابي.

ان أنا فعلت ما أمرتني فهو في عنقك، فسكت

ربيعة، فردد ذلك عليه مرارا لا يجيبه، و أبو عبد اللّه جعفر بن محمد عليه السّلام سمعه، فقال يا أعرابي، هو في عنقه قال أو لم يقل «2».

و منها: خبر ابى عبيدة قال:

قال أبو جعفر عليه السّلام من افتى الناس بغير علم، و لا هدى من اللّه، لعنته ملائكة الرحمة، و ملائكة العذاب، و لحقه، وزر من عمل بفتياه «3».

و عن دعائم الإسلام عنه عليه السّلام مثله «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 2.

(2) مستدرك الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 3.

(3) الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 1.

(4) مستدرك الوسائل باب 7 من أبواب آداب القاضي ح/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 207

..........

______________________________

و منها: خبر إسحاق الصيرفي قال:

قلت: لأبي إبراهيم عليه السّلام ان رجلا أحرم فقلم أظفاره، و كانت له إصبع عليلة فترك ظفرها لم يقصه فأفتاه رجل بعد ما أحرم فقصه فأدماه فقال: على الذي افتى شاة «1».

و منها: خبر إسحاق بن عمار قال:

سئلت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل نسي ان يقلم أظفاره عند إحرامه قال يدعها قلت فان رجلا من أصحابنا أفتاه بأن يقلم أظفاره، و يعيد إحرامه، ففعل قال عليه دم يهريقه «2».

و رواه الشيخ بإسناده نحوه و زاد: قلت فإنها طوال قال: و إن كانت (طوالا، ن ل).

و قد أورد شيخنا الشهيد في منية المريد في آداب الفتوى و المفتي و المستفتي ما يقطع المقال فقال:

«ان الفتوى مع كونه واجبا كفائيا ذا أجر كثير لكنه عظيم الخطر معرض للخطاء، و الخطر، و ربما يوجب هلاك نفسه و إهلاك غيره و قد كان أصحاب رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و التابعين يجتنبون عن الإفتاء مهما أمكنهم الى أخر ما ذكره فلاحظ و تأمل» «3».

تأييد لكون التقليد نفس العمل

و مما يؤيد كون التقليد نفس العمل قولهم يحرم على المجتهد تقليد غيره، و يحرم على العامي تقليد غير المجتهد فان متعلق التحريم ليس الا الفعل المنطبق على رأى الغير. لا مجرد العلم برأيه، أو الالتزام و البناء القلبي عليه.

______________________________

(1) الوسائل باب 13 من أبواب بقية كفارة الإحرام ح/ 1.

(2) الوسائل باب 13 من أبواب بقية كفارة الإحرام ح/ 2.

(3) منية المريد/ 289 من الطبعة الحديثة الجيدة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 208

..........

______________________________

كما يؤيد أيضا: تصحيحهم عمل العامي غير الملتفت إذا طابق عمله لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده.

و ذلك لأنه- كما سنذكره ذيل المسئلة السادسة عشر- ان العامي و ان لم يستند إلى الحجة حال العمل، و لكن حيث ان التقليد ليس عنوانا تعبديا و لا قصديا بل ليس الا طريقا الى تطبيق عمله على رأى مجتهد، فاذا طابق عمله لفتوى مجتهده واقعا و انكشف عنده يكفيه ذلك، و ان لم يكن له التزام، و أخذ، بل و لا استناد، فيستفاد ان المهم في المقام هو العمل لا الالتزام، و الأخذ كما لا يخفى.

هذا كله فيما إذا اتحد المجتهد لأنه بانحصار الحجة في رأيه يتحقق بالعمل على طبق فتواه.

و كذا إذا تعدد المجتهدون، و لكن اتفقوا في الرأي- سواء تساويا في الفضيلة أو اختلفوا فيها- لأن الحجة هي المجتهد على نحو صرف الوجود المنطبق على الواحد، و المتعدد، كما هو الشأن في الطرق، و الأمارات بالنسبة إلى المجتهد فيما إذا تعدد خبر الواحد مثلا، و اتفقت في المضمون، و لا

حاجة عند ذلك الى الالتزام بتطبيق العمل على رأى واحد منهم بالخصوص لعدم المرجح.

و بالجملة إذا اتفقت في الفتوى، فالظاهر انه لا دليل على تعيين واحد منهم فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم و أدلة حجية الفتوى كأدلة حجية خبر الواحد بنحو صرف الوجود الصادق على الواحد و المتعدد.

فكما لو تعدد الخبر الدالة على حكم معين كما يكون الجميع حجة على ذلك الحكم، فكذلك يكون البعض حجة عليه، و لا يجب تعين واحد منها معينا، أو مرددا، فكذلك لو تعددت الفتوى، فان الواقع مكشوفا بالحجة.

عدم أخذ التعين للمجتهد في مفهوم التقليد

فبما ذكرنا ظهر ضعف أخذ التعين للمجتهد في مفهوم التقليد خلافا لما في المتن حيث صرح (قدس سره): ان التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين إلخ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 209

..........

______________________________

و اما إذا تعدد المجتهدون و اختلفوا في الفتوى فهل يتوقف التقليد في هذا الحال على الالتزام بالعمل على طبق احدى الفتاوى، أو ينتزع عنوان التقليد عن نفس الالتزام في هذه الصورة لحكم العقل بلزوم الحجة على الامتثال الأحكام الشرعية وجهان بل عن بعضهم: ان الخلاف في ان التقليد هل هو العمل، أو الالتزام انما هو فيما إذا اتحد المجتهد، أو تعددوا و اتفقوا في الفتوى، و اما مع التعدد، و الاختلافى الفتوى فلا ينبغي التردد في انه يجب الالتزام بإحدى الفتويين، أو الفتاوى لان موضوع الحجة لا يتحقق حينئذ إلا بالالتزام و هو مقدمة لتطبيق العمل على طبقها.

و ذلك لأنه بعد ما كانت حجية الفتوى بنحو الطريقية يمتنع ان يكون جميع الفتاوى حجة لديه لاستلزامه التكاذب، و الجمع بين المتنافيين، و لا واحد معين، لأنه ترجيح بلا مرجح، و لا الحكم

بالتساقط، و الرجوع الى غير الفتوى لأنه خلاف السيرة، و الإجماع.

فإذا يتعين ان تكون الحجة ما يختاره المكلف و يلتزم به، فالحجة عند اختلاف الفتوى هو أحدها تخييرا و لا يكاد يحصل التمييز الا بالاختيار، و الالتزام.

و فيه: ان غاية ما يقتضيه الالتزام بإحداهما أو احداها، ليكون حجة تعينيية عليه:

هي عدم وجوب الاحتياط على العامي، و انه إذا استند في عمله إلى إحدى الفتويين أو الفتاوى كان معذورا في مخالفة الواقع إذا تحققت و أين هذا من لزوم الالتزام بالفتوى قبل العمل لتكون الحجية دائرة مداره؟.

و ان أبيت إلا عن لزوم تحقق الالتزام، و الاختيار فنقول: ان وجوب ذلك في المفروض مقدمة لتحصيل الحجة فيكون الالتزام، و الاختيار، مقدمة للتقليد لا انه عينه فتدبر.

هذا كله في حقيقة التقليد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 210

..........

______________________________

توهم ابتناء جواز البقاء على تقليد الميت أو جواز العدول من الحي إلى الحي على كون التقليد هو الالتزام دون العمل و دفعه.

و اما ما قد يتفرع على تفسير التقليد بالالتزام في مسئلة عدم جواز العدول من الحي إلى الحي و جواز البقاء على تقليد الميت.

فقد يتوهم انه لو قلنا بان التقليد عبارة عن الالتزام لجاز البقاء على تقليد الميت فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بالعمل بفتواه و لكن لم يعمل بعد، و هكذا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي فيما إذا كان الثاني مساويا للأول أو مفضولا فإنه لا يجوز العدول عن الأول الى الثاني بعد الالتزام.

و هذا بخلاف ما إذا قلنا بان التقليد هو العمل بقول الغير فإنه لا يجوز البقاء على تقليد الميت في المفروض لعدم تحقق التقليد فيما لم يعمل به،

و يجوز العدول عن الحي حينئذ لعدم تحقق التقليد على الفرض.

و لكنه مدفوع بما سيجي ء ان جواز البقاء، و حرمة العدول، لا يدور مدار كون التقليد هو الالتزام للعمل، بل المتّبع في ذلك هو ما تقتضيه القواعد، و إطلاقات أدلة حجية الفتوى من الآيات، و الاخبار، و السيرة و سيأتي ذكرها في ذيل المسئلة التاسعة، إذ ليس عنوان البقاء، أو العدول بمفهومهما واردين في لسان الأدلة كي يلحظ تحقق مفهوم البقاء، أو العدول في مورده، و عدم تحققهما فيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 211

[مسئلة 9- تقليد الميت ابتداء و استدامة]

اشارة

مسئلة 9- الأقوى جواز البقاء (1) على تقليد الميت (2) و لا يجوز تقليد الميت ابتداء

______________________________

(1) لو أخر ذكر مسئلة البقاء عن مسئلة تقليد الابتدائي كان اولى.

(2) بل وجوبه على الأقوى في المسائل التي عمل بها، إذا كان الميت اعلم، على تفصيل يأتي في مسئلة تقليد الأعلم، و وجوب العدول من الميت على الأقوى إذا كان الحي أعلم. و اما في صورة تساوى الميت مع الحي في الفضيلة فالأحوط الأولى العدول إلى الحي، و لا يخفى ان التقييد في الحقيقة بناء على ما ذكرنا- من ان التقليد عبارة عن تطبيق العمل على فتوى المجتهد- يرجع الى تحقق موضوع البقاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 212

الأقوال في تقليد الميت

______________________________

أقول: اختلفوا في اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في التقليد، و عدمه على أقوال ثالثها التفصيل بين التقليد الابتدائي و الاستمراري فاعتبر في الأول دون الثاني يتفرع على القول باعتبار الحيوة مطلقا عدم جواز تقليد الميت مطلقا، كما انه يتفرع على القول بعدم اعتبارها كذلك جواز تقليد الميت مطلقا، كما انه يتفرع على القول الثالث عدم جواز تقليد الميت ابتداء و جواز بقائه بالمعنى الشامل للوجوب تحقيق الأمر في المسئلة يستدعي البحث أولا في اعتبار الحيوة ابتداء فيمن يرجع إليه في الفتوى، و عدمه، ثم لو تم اعتبار الحيوة في المرجع ابتداء يقع الكلام في اعتبارها بقاء فالكلام يقع في موقفين.

الموقف الأول في اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في التقليد و عدمه ابتداء.

اشارة

قبل الشروع في أدلة المسئلة ينبغي الإشارة إلى بيان مقتضى الأصل فيها ليكون مرجعا عند قصور أدلة الأطراف.

[تمهيد]
تقرير الأصل الاولى في الامارة التي لم تقم دليل على اعتبارها

قرر في محله ان الأصل الاولى في كل امارة غير علمي عدم حجيتها جزما- بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة (من التنجيز، و التعذير، و الإطاعة، و العصيان، و الانقياد، و التجري) عليها- و لا يكاد تتصف بالحجية إلا إذا أحرز التعبد بها، و جعلها طريقا متبعا، ضرورة انه لا تصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 213

..........

______________________________

اصابته، و لا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، و لا تكون مخالفته تجريا، و لا تكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، و ان كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك، إذا وقعت برجاء اصابته، فمع الشك في التعبد بها يقطع بعدم حجيتها، و عدم ترتيب شي ء من الآثار عليه للقطع بانتفاء موضوعه.

و قال المحقق الخراساني (قدس سره) بعد تقرير الأصل بما ذكرنا.

«لعمري هذا واضح لا يحتاج الى مزيد بيان و اقامة برهان» «1».

توصيف الأصل الاولى عند الشك في اعتبار الحيوة

فعلى هذا: لو شككنا في اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى و حجية فتواه فالقدر المتيقن من أدلة مشروعية التقليد هو جواز تقليده حيا فلا يصح تقليد الميت، و لا تكون فتواه حجة للمكلف بينه و بين اللّه تعالى.

تقرير الأصل الاولى بنحو أخر و النقاش فيه

و قد يقرر الأصل بأنه بعد ما ثبت عدم وجوب امتثال الأحكام الشرعية بالعلم الوجداني، أو الاحتياط بل عدم جواز الاحتياط إذا أوجب اختلال النظام، و صحة الاتكال بالغير، و من له الحجة في الجملة- بأدلة مشروعية التقليد- إذا شك في اعتبار الحيوة فيمن له الحجة، فيدور الأمر بين تقليده حيا، و تقليده ميتا.

فلو قلده حيا يعلم بفراغ ذمته عما اشتغلت ذمته به لان فتواه أما حجة تعينية- لاحتمال اشتراط الحيوة فيه- أو حجة تخييرية بينها و بين فتوى الميت- لعدم احتمال اشتراط الموت قطعا- بخلاف ما لو قلده ميتا فإنه لم يعلم بفراغ ذمته عنها بعد احتمال اعتبار الحيوة.

فيدور الأمر بين التعيين، و التخيير، و لا يخفى ان حكم العقل في دوران الأمر بين التعيين، و التخيير، التعيين خصوصا بالنسبة إلى الطرق، و مقام الامتثال حيث يرى ان الاشتغال اليقيني بالتكليف يستلزم الفراغ اليقيني منه.

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 55.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 214

..........

______________________________

فمع تطبيق العمل على الطريق الذي يحتمل تعينه يقطع بفراغ الذمة بخلاف ما لو طبق عمله على الطريق الأخر فإنه مشكوك فيه، و الشك في الحجية في مقام الاحتجاج مساوق للقطع بعدم الحجية.

و لكن أستادنا العلامة الخمينى دام ظله ناقش في التقرير: بأنه لا ينفع للزوم الأخذ بفتوى الحي مطلقا حتى إذا كان الميت اعلم و انما ينفع إذا تساوى الحي و الميت من جميع الجهات

غير جهة الحيوة كما لا يخفى.

و ذلك لأنه إذا كان الميت اعلم من الحي مثلا فبمجرد احتمال اعتبار أمر تعبدي لا يوجب لزوم المراجعة إلى الحي مع مساعدة الاعتبار لتقديم فتوى الأعلم لكونه أحسن استنباطا، و أجود دركا من غيره.

بل ربما يعكس الأمر و يتعين الأخذ بفتوى الأعلم، لأن اعتبار حياة المفتي، لو ثبت فإنما هو بشرط تعبدي، بخلاف اعتبار الأعلمية فإنه لو كانت فإنما هو شرط اعتباري، عقلي.

و الحاصل انه لو كان الميت واجدا لبعض الخصوصيات يخرج المفروض في مثله من دوران الأمر بين التعيين و التخيير، بل يكون من باب التعيينين فكما يحتمل تعيّن المراجعة إلى الحي يحتمل تعيّن المراجعة إلى الأعلم فالأصل لا ينفع في جميع الموارد حتى فيما إذا كان الميت اعلم.

توجيه الأصل بنحو، و دفع ما توهم في المقام

الا ان يقال لتتميم الأصل في جميع الموارد بأنه لم يقل أحد من الفقهاء، و من واضحات فقه الإمامية، عدم تعيّن المراجعة إلى الميت الأعلم ابتداء.

و بالجملة لم يفت أحد بتعيّن تقليد الميت الأعلم.

فإذا ثبت ذلك، فنقول جواز الرجوع الى المجتهد الحي، مما تسالم عليه الأصحاب، من زمن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، الى زماننا هذا طبقة بعد طبقة، فلو احتمل اشتراط الحيوة في المفتي يكون من باب التعيين و التخيير.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 215

..........

______________________________

و توهم: ان ما يحكى عن المحقق القمي (قدس سره) من وجوب العمل بأقوى الظنين يدل على وجوب تقليد الميت الأعلم ابتداء لكون الظن الحاصل من فتواه، أقوى منه، من الحي غير الأعلم.

مدفوع: بان قوله (قدس سره) بذلك، ليس لأجل لزوم تقليد الأعلم بما هو اعلم، بل من حيث ان هذا المحقق يرى انسداد باب العلم و العلمي،

بتوهم اختصاص الخطابات بمن قصد إفهامه فيعمل بكل ما يكون أقوى من غيره، و ان حصل من شي ء لم يكن حجة بخصوصه.

مضافا الى ان الأقربية في فتوى الأعلم مطلقا حتى في صورة مخالفة فتواه للمشهور أو الاحتياط ممنوعة كما لا يخفى.

فتحصل انه لم يظهر من المحقق القمي (قدس سره) وجوب تقليد الميت الأعلم بما هو اعلم «1».

فبعد ما عرفت مقتضى الأصل في المسئلة فلا بد للقول بعدم اعتبار الحيوة في المرجع من التماس دليل عليه، و اما القول الأخر- و هو اعتبار الحيوة فيه- ففي فسحة من ذلك.

نعم ان قام دليل اجتهادي على الاعتبار، فليشكر القائل به على تمام النعمة.

فالأولى تقديم ما تشبث القائل بعدم اعتبار الحيوة و عطف النظر فيه ثم الإشارة الى ما استدل به لاعتبار الحيوة فالكلام يقع في موردين.

المورد الأول فيما يتشبث به القائل بجواز تقليد الميت ابتداء.
اشارة

ذهب مخالفينا الى جواز تقليد الميت ابتداء، و لذا و لمصالح أخر، حصروا

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد، و الاجتهاد تقريرنا لبحث سماحة الأستاد دام ظله مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 216

..........

______________________________

التقليد في الفقهاء الأربعة في عصر علم الهدى المتوفى 436 ق.

وجه حصر مذاهب العامة في أربع

قد يقال: انه لما تكثرت الفروع بسبب كثرة المسلمين، و اختلاطهم، و بلحاظ عدم تمسكهم بأحد الثقلين، الذين أمروا باتخاذهما، و أتباعهما و التمسك بهما، و هو العترة الطاهرة، و ذهابهم يمينا و شمالا، و لم يكن بأيديهم إلا أحاديث رووها عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و لم يكن ذلك بحيث يرفع حوائجهم، و يدفع بها مهماتهم، و لذا مالوا إلّا القليل منهم «1» إلى الرأي و الاستحسان، زاعمين أن الشريعة معقولة المعنى و لها أصول محكمة، فهمت من الكتاب و السنة، فكانوا يبحثون عن علل الأحكام و ربط المسائل بعضها ببعض، و لم يمنعوا عن القياس برأيهم فيما لا يجدون نصا فيه و اشتهروا فأصحاب الرأي، و القياس، فكثرت الآراء بينهم، و اختلفت أنظارهم بقياساتهم، و استحساناتهم، فحصل الهرج و المرج بينهم و حصلت الفتنة بينهم بتكاذب كل فرقة، و جمعية تتبع فقيها فرقة و جمعية اخرى تابعة لفقيه أخر فكلما دخلت امة لعنت أختها، و وقعوا في حيص، و بيص شديد الى ان اجتمعوا في عصر علم الهدى في الأندلس، و ادعوا لإجماع على لزوم متابعة أربعة من فقهائهم، و عدم صحة متابعة غيرهم، بل حكموا بكفر متابعة غيرهم، و من ثمة قلدوا أشخاصا معينين من أموات علمائهم، فحصرت مذاهبهم في الأربعة المشهورة «2».

نظرية علماء الإمامية في تقليد الميت ابتداء

و اما أصحابنا الإمامية (رضوان اللّه عليهم) فقد نسب القول بجواز تقليد الميت ابتداء الى المحقق القمي «3» و صاحب الحدائق بل سائر الأخباريين.

______________________________

(1) و يعبر عنهم بأهل الظاهر بلحاظ افتائهم على النصوص، يقال ان أكثر أهل الحجاز كانوا من أهل الحديث.

(2) معالم الزلفى/ 17. التنقيح ج 1 ص و (6) من المقدمة.

(3) كما يظهر من

جامع الشتات/ 655 من الطبعة الثالثة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 217

..........

______________________________

و لكن المشهور بين أصحابنا عدم جواز تقليد الميت ابتداء، بل في كلمات غير واحد من الأعاظم، دعوى الإجماع عليه، و سنشير عند ذكر أدلة القائلين بعدم جواز تقليد الميت ما ينفع لتحقق الإجماع فارتقب حتى حين.

أدلة جواز تقليد الميت ابتداء
اشارة

ما قيل أو يمكن ان يقال لجواز تقليد الميت أمور.

الأول: السيرة العقلائية.
اشارة

قد يدعى استقرار سيرتهم قديما، و حديثا على رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها، بل في كل ما يجهلونه في أمور معاشهم، و معادهم، و في مختلف العلوم و الموضوعات الخارجية إلى خبراء الفن و العالمين به، و لا يفرقون في ذلك بين كونهم حييين، أو ميتين، و من هنا تريهم لو مرض أحدهم و عرف مرضه، فربما يرجعون في علاجه الى بعض كتب ابن سينا، و محمد بن زكريا الرازي و نظرائهما بل إلى انظار الأقدمين كسقراط، و بقراط، بل ربما يرجحون آرائهم على الآراء المستحدثة في العصر الجديد، و ان كان لإجراء دستوراتهم نحو صعوبة، و مشقة لم يكن في دساتير أطباء الحاضرين.

هذا في أمر العلاج، و كذا بالنسبة إلى غيره من مهام أمورهم.

و بالجملة السيرة العقلائية قديما و حديثا ثابتة على رجوع الجاهل الى العالم من غير فرق في ذلك بين العالم الحي، و العالم الميت بل لا ينبغي الإشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء و حكم العقل بين فتوى الحي و الميت ضرورة طريقية كل منهما الى الواقع بلا فرق بينهما.

هذا حاصل ما يروم به الألسن خصوصا في أبناء عصرنا.

المناقشات في بناء العقلاء

و لكن في النفس من ذلك شي ء حاصله:

هو ان المراد ببناء العقلاء على الرجوع الى الأموات هل هو رجوع الخبراء

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 218

..........

______________________________

منهم إلى أمثالهم، و الاتكاء بارائهم فيما يعلمون به، أو خصوص غير الخبراء منهم، أو الأعم؟.

فإن أريد الأول فهو مسلم فتريهم يراجعون الى أفكار خبراء الفن من أمواتهم و يطالعون أنظارهم بل تريهم يدققون النظر في معتقداتهم خصوصا إذا كان الميت ذا مرتبة عالية في العلم،

أو كان أعلم أقرانه، فربما يحصل لهم بذلك اطمينان في تشخيص المطالب، و الحقائق، و التصديق بها و لكن لا يخفى ان ذلك ليس تقليدا منهم فلا ينفع ذلك لما نحن بصدده.

و ان أريد مراجعة غير الخبراء منهم فذلك غير معلوم فهل تراهم يراجعون في مهام أمورهم و ما يرتبط في علاج أنفسهم، و احبّتهم بمجرد نظر طبيب حاذق ميت مع وجود الخلاف بين حذاق الفن.

مثلا إذا عرض الشخص مرضا ذا أهمية، و اختلف انظار الحذاق في علاجه فهل يكتفى المريض، أو حماته بالعمل على دستور أو نسخة كانت من طبيب حاذق ميت من دون المراجعة الى أحد الحذاق الموجودين، و لا أقل من تأييد نظره، و لا أظن الالتزام به من أحد، و لو فرض انه عمل شخص بالدستور من دون المراجعة الى أحد الأحياء فأوجب هلاك نفسه أو طرفه فهل العقلاء لا يوبّخونه، و لا حماته و لا يلومونه حاشاك ان تنكر ذلك.

نعم في الأمور التي قلما يقع الخلاف فيها بين الخبراء، أو كانت من الأمور غير المهمة فربما يعملون بآراء خبراء أمواتهم، و من المعلوم ان الأحكام الشرعية من مهام الأمور و مما وقع الخلاف فيها كثيرا بحيث قلما تجد مسئلة لم يختلف فيها فقيهان، فوجود بناء العقلاء في مثل الأحكام الشرعية غير ثابت، لو لم نقل ببنائهم على عدم المراجعة إلى الأموات.

و بما ذكرنا يظهر حال ارادة رجوع الخبراء و غيرهم إلى الأموات.

هذا أولا.

و ثانيا: لو سلم بناء العقلاء، منهم فقد أشرنا ان بناء العقلاء بنفسه ليس من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 219

..........

______________________________

الحجج الشرعية و لم تقم آية و لا رواية، على حجية كل

ما بنوا عليه، فلا يكفى ثبوت بنائهم على أمر في الاحتجاج به، ما لم ينضم إليه رضي الشارع به. و لو بعدم الردع الكاشف عن إمضائه.

و لم يثبت من الشارع ما يدل على رضائه بها لو لم نقل بثبوت ما يدل على خلافها و ذلك لعدم تعارف المراجعة إلى فتوى الميت في الصدر الأول، بل كما أفاده أستادنا المحقق الخمينى دام ظله.

«انه لم تكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب الفتوائية متعارفا حتى يقال انهم كانوا يراجعون الكتب، فان الكتب الموجودة في تلك الأزمنة، كانت منحصرة بكتب الأحاديث ثم بعد أزمنة متطاولة صار بنائهم على تدوين كتب متون الاخبار، ككتب الصدوقين و من في طبقتهما، أو قريب العصر بهما، ثم بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعية و الاستدلالية فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداء ممكنا في الصدر الأول، و لا متعارفا أصلا» «1».

و ثالثا: سنذكر قريبا ما يدل على حجية فتوى الفقيه الظاهر في فتوى أحيائهم و هو كاف لردع بناء العقلاء.

و ان أبيت عن ذلك، و رأيت ان غاية ما يقتضيه هو الأمر بالمراجعة إلى الثقات، و الرواة و حجية فتويهم، الظاهر في حياتهم، و لا يكاد يستفاد من ذلك عدم حجية فتوى أمواتهم، و لكن ذلك يكفي في عدم اعتبار البناء، لعدم قيام الإمضاء حسب الفرض.

و رابعا: انه لو كان تقليد الميت عندنا جائزا، لزم حصر التقليد في زمن الغيبة الكبرى في شخص واحد، أو أشخاص معدودة للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الشرعية، و سيجي ء انه في موارد الخلاف يجب تقليد الأعلم لدوران الأمر بين التعيين و التخيير، فيجب الفحص عن اعلم فقهاء الإمامية طول الغيبة إلى زماننا

______________________________

(1) الرسائل/ 158.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 220

..........

______________________________

لانحصار الحجية حسب الفرض في فتواه، و لا يجوز تقليد غيره و مقتضاه حصر الفتوى في شخص واحد، أو أشخاص معدودة- لاختلاف الانظار في تعيين من هو الأعلم- و هذا ضروري البطلان من مذهب الإمامية.

مضافا الى الإجماع المدعى في كلمات جماعة من الأكابر على عدم جواز تقليد الميت مع وجود المجتهد و سيجي ء التعرض له مع وجود الخلاف من المحقق القمي و غيره فارتقب حتى حين.

فتحصل مما ذكرنا عدم تمامية إمضاء بناء العقلاء على التقليد الابتدائي للميت بل ظهر لك مردوعية البناء.

الأمر الثاني إطلاقات الآيات و الاخبار الواردة في حجية فتوى الفقيه

و ذلك لأنها غير مقيّدة بحالة الحيوة فمقتضى إطلاقها عدم الفرق في حجيتها، بين الحيوة و الممات فينتج تخيير العامي في المراجعة، إلى الحي، أو الميت.

و فيه أولا: كما سيجي ء انها بين ما لا دلالة لها على أصل التقليد، و بين ما يدل على أصل التقليد و المراجعة إلى الفقيه فلا إطلاق لها حتى يصح التمسك به.

و ثانيا: انه لو كانت بصدد بيان خصوصيات من يرجع إليه في الفتوى، لا إطلاق لها لأنه لا ينبغي الإشكال في دلالة آية النفر مثلا على تقدير الدلالة على لزوم الحذر عند إنذار المنذر و الفقيه، و آية السؤال على لزوم السؤال من أهل الذكر و دلالة الاخبار على الرجوع الى راوي الحديث، أو الناظر في الحلال و الحرام الى غير ذلك من العناوين الواردة.

و الظاهر ان العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ظاهرة في الفعلية لا الأعم منها و من انقضى عنها.

فاذا مقتضاها: انه من كان متصفا فعلا بالإنذار أو الفقاهة، أو العلم، أو رواية الحديث، الى غير ذلك، هو الذي يصح تقليده، و

لا شك في ان الميت لا يتصف

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 221

..........

______________________________

فعلا بالإنذار أو رواية الحديث، أو بغيرها، من العناوين، و انما كان منذرا أو كان راوي الحديث.

و يؤيدك وضوحا، الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين كزرارة بن أعين و محمد بن مسلم و زكريا بن آدم، و أضرابهم حيث ان ظهورها، في إرادة الإرجاع إلى الحي منهم غير قابل للمناقشة، ضرورة انه لا معنى للإرجاع إلى الميت و الأمر بالسؤال أو الأخذ منه.

الأمر الثالث الاستصحاب
اشارة

و هو عمدة ما يمكن ان يعوّل عليه القائل بجواز تقليد الميت.

و تقرير الاستصحاب من وجوه متقاربة المفاد.

منها: ان فتوى المجتهد الفلاني كالعلامة مثلا في زمن حياته كان جائز التقليد لكل مكلف، عامي فبعد مماته يشك في بقاء الجواز فيستصحب.

و منها: ان فتوى المجتهد الفلاني، كان نافذا زمن حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: ان كل مكلف جاز له المراجعة إلى العلامة في حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: انه كان رأى العلامة حجة على من لم يتمكن من الاجتهاد في حياته فيستصحب بعد مماته.

و منها: ان مؤدى رأى العلامة، و نظره، كان ثابتا في زمن حياته فيشك في ثبوته بعد مماته فيستصحب.

و منها: انه جعل حكم مماثل- على تقدير صحة جعل المماثل- على طبق فتوى العلامة، فيستصحب بعد مماته.

و منها: الاستصحاب التعليقي بأن يقال ان زيدا مثلا لو كان، في زمن العلامة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 222

..........

______________________________

يجب عليه تقليده، و الان يشك في ثبوت هذا التطبيق فيستصحب.

الى غير ذلك من الوجوه، و فيما ذكرناه كفاية.

إشكالات لجريان الاستصحاب
اشارة

أورد على جريان الاستصحاب في المقام بوجوه من الإشكال.

الإشكال الأول: هو ان الحكم المستصحب، اما يكون مأخوذا بنحو القضية الخارجية- أي كل مكلف موجود في زمان العلامة مثلا- أو بنحو القضية الحقيقية- أي كل مكلف عامي.

و على كلا التقديرين لا يتم الاستصحاب، لأنه على الأول يكون أخص من المدعى، لان غاية ما تقتضيه، هي حجيّته بالنسبة الى من أدرك العلامة في حياته إذا شك فيه، بعد مماته فلا يكاد يتم بالنسبة الى من لم يدركه في زمن حياته.

و على الثاني اما يجري الاستصحاب بصورة التنجيز، أو بصورة التعليق.

فعلى الأول فمن لم يدرك زمن العلامة،

لم يتنجز الحكم عليه و لم يثبت الحكم في حقه حتى يستصحب.

و بعبارة أخرى ثبوت الحكم، على نحو القضية الحقيقية التنجيزية، إنما ينفع لكل مكلف عامي صار مصداقا للحكم، و اما من لم يدرك زمن العلامة مثلا فاصل الحكم و الجواز بالنسبة إليه مشكوك فيه، فلم تكن هناك قضية متيقنة، حتى تستصحب.

و اما على الثاني- أي اجراء القضية الحقيقية، بصورة التعليق- فقد قرر في محله: انه لا يجرى الاستصحاب التعليقي في مثل هذه التعليقات غير الشرعية، نعم يجري في التعليقات التي أخذت في لسان الشرع، كما إذا ورد: العصير إذا نشّ و غلا، ينجس، و واضح ان ما نحن فيه، من القسم الأول.

فحاصل الاشكال انه لا يكاد يجرى الاستصحابات بالنسبة الى غير مدركي زمن العلامة- سواء أخذت المستصحب بنحو الخارجية، أو الحقيقة- ضرورة انه على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 223

..........

______________________________

تقدير الأول، لم يكن لنا قضية متيقنة، لأن المتيقن، هو ثبوته للافراد الموجودين في زمن العلامة فالحكم على الإفراد الحادثين بعد موت العلامة مشكوك فيهم.

و كذا ان أخذت بنحو القضية الحقيقية بصورة التنجيز، لأنه لم يكن لنا قضية متيقنة، فإن المعلوم هو ثبوت الحكم لكل مكلف كان في زمن العلامة. و ان أخذت الحقيقية بصورة التعليق فلما ذكرنا في محله، من عدم حجية الاستصحاب التعليقي إلا في التعليق الذي أخذ في لسان الدليل، و واضح انه لم يؤخذ ما نحن فيه في لسان الدليل.

و فيه انه: كما أفاده أستادنا العلامة الخمينى دام ظله ان كلا من القضية الحقيقية، و الخارجية قضية بتّية معتبرة في العلوم، و الحكم فيهما معلق على العنوان فما يتراءى من بعضهم ان الحقيقية قضية تعليقية

عبارة- عن كلما كان موجودا فهو كذا- فإنما هو للتقريب الى الفهم لو لم نقل بأن القائل به لم يعرف حقيقة الأمر.

فالحكم في القضيتين معلق على العنوان لا على الإفراد مثلا قولنا كل نار حارة علق الحكم على عنوان النار لا على إفرادها، نعم عند عدم وجود فرد منه في الخارج، لم يصدق هناك عنوان النار، فاذا وجد فرد منه ينطبق عليه العنوان.

و لأجل تعلق الحكم فيهما على العنوان لم يكذب من قال كل ثلج حار الا كذبا واحدا و اخبارا واحدا لكنه عن أمور متعددة، و الا يلزم ان يكون إخبارات كاذبة بعدد الثلوج.

و معنى انحلال القضية إلى القضايا، هو انه جعل الحكم على عنوان له أفراد كثيرة ينطبق عليه العنوان.

فاذا لا فرق بين القضيتين إلا في ان القيود المأخوذة في الخارجية بحيث لا ينطبق الأعلى الخارج، و في الحقيقية بحيث لا ينحصر في ذلك، و مجرد كثرة القيود للعنوان لا يصيّره جزئيا و ان بلغ من الكثرة ما بلغ.

و بالجملة عالم المفهوم غير عالم الخارج فقد يكون الشي ء بلحاظ المفهوم قابلًا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 224

..........

______________________________

للصدق على الكثيرين، و اما بحسب الخارج فمنحصر في فرد، و لذا لا يكفي إثبات واجب الوجود لإثبات توحيده تعالى بل لا بد من اقامة دليل أخر لوحدة الواجب تعالى كما قرر في محله.

فالحكم فيهما، جعل واحد، لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد آحاد المكلفين نعم الجعل الواحد يكون حجة بحكم العقل و العقلاء لكل من كان مصداقا للعنوان ففي قوله تعالى لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» جعل وجوب الحج على عنوان واحد، و هو من

استطاع اليه سبيلا، و لكنه حجة على كل مكلف مستطيع.

فعلى هذا لو علمنا ان الحج كان واجبا على كل من استطاع اليه سبيلا و لكن شككنا في بقائه من أجل احتمال طرو النسخ مثلا فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المعلق على العنوان لنفس ذلك العنوان فيصير بحكم الاستصحاب حجة على كل من كان مصداقه. و لذا لم يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ، مع ورود هذا الاشكال بعينه عليه، بل على جميع الاستصحابات الحكمية.

و السر فيه ما ذكرنا من ان الحكم على العنوان حجة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحج على عنوان المستطيع جار بلا اشكال، كاستصحاب جواز رجوع كل مقلد الى المجتهد الفلاني «2».

الإشكال الثاني: و هو عمدة الإشكال في جريان الاستصحاب و هو عدم بقاء الموضوع في القضية المشكوكة، أو عدم إحرازه و قد أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) و حاصله بتقرير منا.

انه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع في ظرف الشك عرفا و اتحاد

______________________________

(1) آل عمران: 3/ 97.

(2) الدرر الملتقاط/ مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 225

..........

______________________________

القضية المتيقنة و المشكوكة، كذلك و موضوع القضية، هو رأى المجتهد، و فتواه، و هو أمر قائم بنفس الحي، و بالموت ينعدم الموضوع عرفا لأنهم لا يرون للميت رأيا، و لا إدراكا و لا يتصف الميت بالعلم، و الظن، و يرون ان حشره في المعاد من باب اعادة المعدوم و ان لم يكن كذلك حقيقة لبقاء النفوس مع ملكاتها بالموت، و الموت حقيقة انتقال من نشأة الى نشأة اخرى، و المعاد جمع الأجزاء المتفرقة لا اعادة المعدوم.

فما هو المعتبر في الاستصحاب، و هو وجود الموضوع بنظر العرف منتف،

و بقاء الموضوع حقيقة لم يكن موضوعا للاستصحاب.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع، و معه أيضا لا مجال للاستصحاب لأن إحراز الموضوع شرط في جريانه و لا إشكال في ان مدار الفتوى هو الظن الاجتهادي، و لا إشكال في عدم إحراز الموضوع لو لم نقل بعدم بقائه.

و استشهد (قدس سره) لعدم الجواز فيما إذا زال بجنون، و هرم، أو مرض، أو تبدل الرأي اه «1».

أقول: و قد أتعب المحقق الأصفهاني (قدس سره) نفسه في التعليقة و اثبت التجرد للنفس، و بقاء الرأي له الى غير ذلك من المطالب و لكن لم يأت (قدس سره) بما يدل على بقاء الموضوع عرفا و هو محط البحث و النظر و الا فاستاده المحقق الخراساني (قدس سره) أيضا يقول ببقاء النفوس الناطقة حقيقة.

الجواب الحقيق عن الاشكال

و التحقيق في الجواب ما أفاده أستادنا المحقق الخمينى دام ظله و حاصله:

ان المدرك الوحيد، و الأصل القويم في التقليد، و في رجوع الجاهل الى العالم بناء العقلاء في رجوع الجاهل بكل صنعة أو حرفة إلى العالم بها و اما غير بناء العقلاء فغير تمام لقصور الآيات دلالة، و قصور الروايات بعضها سندا و بعضها دلالة، و ثالثة سندا و دلالة، و ما يكون منها تماما من حيث السند، و الدلالة يكون إرشادا

______________________________

(1) كفاية الأصول ج 2/ 241.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 226

..........

______________________________

الى ما عليه العقلاء، و عدم كاشفية الإجماع، في مثل هذه المسئلة عن حجة معتبرة، و من الواضح ان المجتهد بل كل عالم بصنعة أو حرفة إذا ظن بحكم، أو اعتقد بأمر فهناك أمران:

1- ظن، و إدراك قائم بنفسه كقيام سائر

الأعراض بالنفس كالعفة، و الشجاعة و العدالة، و غيرها.

2- كاشفيته، و اماريته للواقع.

و ظاهر ان رجوع العقلاء الى حذاق الفن ليس لأجل ان الرأي و الإدراك صفة قائمة بنفس الخبير، بل لأجل كاشفيته عن الواقع، و هي غير متقومة بالحيوة بقاء، و لذا تريهم يتبعون آراء خبراء الفن بعد موتهم أيضا، و لا يرون كاشفيته مقصورة بحياتهم.

و بالجملة الوجود الحدوثى للفتوى بنحو الجزم، يكون طريقا الى الواقع و لا ينسلخ ذلك عنه حتى عند تطرق الهرم، و الجنون و نحوهما، ما لم يتجدد الرأي، أو الترديد فهم لا يرون للحيوة أية دخالة في بقاء الرأي، فلو شك فإنما هو بلحاظ اعتبار الشرع الحيوة تعبدا لمصالح يراها كاعتباره العدالة، و سائر الأوصاف في المفتي فالشك حينئذ لم يرجع الى بقاء الموضوع.

فاذا نقول ان قواعد العلامة (قدس سره) مثلا كان يجوز العمل به في حياته، و بعد مماته حيث يحتمل اعتبار الحيوة شرعا فيستصحب، فعلى هذا يكون الموضوع في القضية المتيقنة و المشكوكة واحدا «1».

و بعبارة أخرى كما أفيد:

«ان الرأي و ان انعدم بالموت بنظر العرف الا انه يكفى في استمرار الحجية له حدوثه آنا ما بحيث يكون رأى المجتهد الحي حجة على المكلفين إلى الأبد، و ان مات المجتهد نظير، حرمة الاقتداء بالمحدود فان وقوع الحد عليه في زمان يكفي في

______________________________

(1) الدرر الملتقاط فيما يتعلق بالتقليد و الاجتهاد مخطوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 227

..........

______________________________

عدم جواز الصلاة خلفه ما دام حبا.

هذا حال حجية الآراء عند العقلاء، و من الجائز ان يكون حجية الرأي شرعا في باب الأحكام الشرعية كذلك، فاذا علم بحجية رأي المجتهد، حال حياته، و شك في بقائها

الى ما بعد الموت، أمكن استصحابها، لأنه يكفي في جريان الاستصحاب مجرد اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة، و المشكوكة، و لو لم يكن ذات الموضوع باقية الى زمان الشك فلا يلزم بقاء الرأي إلى زمان العمل به فيكون حال الرأي من هذه الجهة حال الرواية، فإنها حجة و لو بعد موت الراوي» «1».

فتحصل ان استصحاب جواز العمل على طبق رأى المجتهد و فتواه بمعنى حاصل المصدر، و على طبق كتابه الكاشفين عن الحكم الواقعي، أو الوظيفة الظاهرية مما لا مانع منه، هذا بخلاف غير الحيوة من الجنون و غيره من الحالات، لان المتصف بها لا يليق- و لو باعتبار فتواه السابقة- زعامة المسلمين لسقوط رأيه عن الانظار بطرو الجنون و نحوه، لا لأجل زوال رأيه.

الاشكال الثالث: و هو إشكال قوى تعرّضه سماحة العلامة الخمينى دام ظله في مجلس الدرس و تصدى لدفعه مفصلا، نشير إليهما هنا إجمالا، و التفصيل يطلب من غير المقام.

اما الإشكال فحاصله: ان المستصحب لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا ذا حكم شرعي، و ما نحن فيه لم يكن كذلك لأنه بعد قيام فتوى الفقيه الحي بأمر، لا تخلو اما ان يستصحب أماريتها، أو حجيتها العقلائية، أو حجيتها الشرعية، أو مؤدى الفتوى- اى الحكم الواقعي الذي يكون مؤدى الفتوى، أو الحكم المجعول على مؤدى الامارة- نظير جعل الطهارة الظاهرية على عنوان المشكوك فيه.

و لا يصح استصحاب شي ء منها.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 46.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 228

..........

______________________________

اما الأمارية فذكرنا انها لا تزول بالموت، و كذا الحجية العقلائية لعدم الشك في حجيتها عند العقلاء، لان رأى المجتهد عندهم نظير آراء سائر الخبراء امارة يحتجون

بها، حالتي حياته، و بعد مماته، من غير نكير.

مضافا الى ان الأمارية، أو الحجية لم تكن حكما شرعيا، و لا موضوعا، لأي أثر شرعي.

و استصحاب الحجية الشرعية، لا أساس له لأن الحجية من الأمور الانتزاعية التي لا تنالها يد الجعل، و انما ينتزع من تجويز الشارع العمل بخبر الواحد، مثلا، فاذا لم تكن الحجية مجعولة شرعا فما ظنك باستصحابه.

و اما جواز العمل برأيه، أو وجوبه فلا يستفاد من أدلة الاعتبار أكثر من إمضاء ما عليه، بناء العقلاء.

و ما جعل الشارع جواز العمل، أو وجوبه بعنوان الحكم التأسيسي فلم يساعده الاعتبار.

و اما استصحاب الحكم الواقعي فلا شك في بقائه في المقام لأنه ان كان محققا فلا شك في بقائه في الحال أيضا لأن الشك في بقاء الحكم انما هو في صورة احتمال النسخ، أو احتمال شرط غير موجود كحضور المعصوم عليه السّلام في وجوب صلاة الجمعة، أو حدوث مانع غير موجود، و واضح ان الشك فيما نحن فيه، لم يكن في شي ء منها، بل الشك في حجية فتوى الفقيه بعد موته.

و بالجملة لم يكن الشك في بقاء الحكم الواقعي و عدمه، و انما الشك في حجية فتوى الفقيه الميت.

و بهذا يظهر حال استصحاب مؤدى الامارة بعد الشك في بقائه.

و اما استصحاب جعل المؤدى على طبق الامارة فغير تمام في نفسه، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلة على خلافه، لان الظاهر منها إمضاء ما عليه العقلاء و المرتكز لديهم انما هو أمارية رأي كل خبر للواقع، من دون جعل و تأسيس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 229

..........

______________________________

فظهر انه ليس المستصحب في المقام حكما شرعيا و لا موضوعا لذي حكم شرعي، و

غاية ما في الباب هنا حجية رأى الخبير للجاهل، و هو موضوع لحكم عقلي أعني تنجيز الواقع على المكلف بعد عدم رفع الشارع إياه هذا.

و اما جواب الاشكال: فيمكن جريان الاستصحاب بنحو يظهر لك ذلك بعد ذكر مقدمة حاصلها:

ان الاحتجاج بالأوامر و النواهي عند العقلاء بلحاظ كاشفيتها عن ارادة جدية أو كراهية كذلك في موردها، و لذا لو علم في مورد عدم جد المولى لا يجب اتّباع امره، و لا يحرم عليه مخالفة نهيه، و كذا لو علم جد المولى في مورد و لم يكن هناك أمر منه يجب اتّباعه، كما إذا رأى العبد غرق محبوب المولى، و لم يطلع عليه المولى لنوم، أو غيبة، أو نحوهما يجب إنقاذه، و الا يعد مذموما عنده بل عاصيا.

فالملاك كل الملاك ارادة المولى و كراهته، و هما حقيقتا البعث، و الزجر و روحهما و هما الملاك في الإطاعة و العصيان ففي كل مورد احرزا- سواء كان بإنشاء البعث، أو الزجر، أو بالقطع، أو بالملازمة- فيجب اتّباعه.

و لذا قلنا ان الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده، كما ان الأمر بالشي ء يقتضي الأمر بمقدمته، لا بمعنى كشفه عن إنشاء حكم شرعي على ضده، أو مقدمته، بل بكشفه عن روح الحكم، و واقعة، و هو الإرادة، أو الكراهة.

فعلى هذا بعد قيام الامارة، كفتوى الفقيه، على وجوب أمر يصح استكشاف روح الحكم، وجد المولى، فاذا شك في اعتبار الحيوة فيستصحب روح الحكم «1» فظهر انه لا يلزم ان يكون المستصحب موضوعا للحكم الشرعي، أو حكما إنشائيا شرعيا، بل أعم منه و من حقيقة الحكم و روحه.

فاذا ارتكاز العقلاء على العمل بآراء خبرائهم، و من سكوت الشارع و عدم

______________________________

(1) الدرر الملتقاط مخطوط.

الدر

النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 230

..........

______________________________

ردعه يستكشف رضاه به- أعني حقيقة الرضا و روحه- لا إنشاء الرضا منه، فعند فتوى الفقيه بوجوب شي ء يستكشف ارادة الشارع، و هي روح الحكم و حقيقته، فاذا شك في اعتبار الحيوة فيستصحب روح الحكم.

فتحصل مما ذكرنا انه إذا شك في اعتبار الحيوة في حجية فتوى الفقيه فيصح جريان الاستصحاب في حد نفسه.

فاذا تمهد لك ما ذكرنا فحان عطف النظر الى ما استدل به للقول الأخر- و هو عدم جواز تقليد الميت ابتداء- فان تم فبها و الا فيصح القول بجواز تقليد الميت ابتداء

فنقول:

المورد الثاني فيما استدل به لعدم جواز تقليد الميت ابتداء
اشارة

منها: الإجماع، و قد حكى عن جملة من الأعاظم دعوى الإجماع على عدم جواز تقليد الميت، و ان ذلك مما امتازت به الإمامية عن أهل الخلاف، و قد تقدم في صدر هذه المسئلة سر بنائهم على اتّباع أربعة من علمائهم.

و إليك نص بعض عبائرهم.

فعن المحقق الثاني في شرح الألفية: قال لا يجوز الأخذ عن الميت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية.

و عن الشهيد الثاني في المسالك انه قد صرح الأصحاب في كتبهم المختصرة، و المطولة، و في غيرهما باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله، و لم يتحقق إلى الان خلاف ممن يعتد بقوله من أصحابنا.

و قال بمثل ذلك في منية المريد، و قال في محكي الرسالة المنسوبة إليه:

«نحن بعد التتبع الصادق فيما وصل إلينا من كلامهم ما علمنا من أصحابنا السابقين، و علمائنا الصالحين مخالفا في ذلك، فإنهم قد ذكروا في كتبهم الأصولية و الفقهية قاطعين فيه بما ذكرنا: من انه لا يجوز تقليد الميت، و ان قوله يبطل بموته من غير

الدر النضيد في الاجتهاد

و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 231

..........

______________________________

نقل خلاف أجده فيه» «1».

و عن ولده في المعالم نسبته الى ظاهر الأصحاب ثم قال: و العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع الى فتوى الميت مع وجود الحي.

و عن الوحيد البهبهاني في الفوائد: ان الفقهاء أجمعوا على ان الفقيه لو مات لا يكون قوله حجة، و نحوه محكي عن النراقي في المناهج.

و قال الشيخ في الرسالة: «و في رسالة ابن ابى جمهور الأحسائي ما يظهر منه دعوى إجماع الإمامية على انه لا قول للميت، و في كلام بعض مشايخنا المعاصرين دعوى تحقق الإجماع على ذلك الى غير ذلك مما لعله يطلع عليه المتتبع، و قد بلغ اشتهار هذا القول الى ان شاع بين العوام ان قول الميت كالميت، و هذه الاتفاقات المنقولة كافية في المطلب، بعد اعتضادها بالشهرة العظيمة بين الأصحاب حتى ان الشهيد (قدس سره) أنكر من ادعى وجود القائل به فقال: ان بيد أهل العصر فتوى مدونة على حواشي كتبهم ينسبونها الى بعض المتأخرين يقتضي جواز ذلك، ثم أخذ في تزييف ذلك بعد القدح فيها بمخالفتها لفتوى المعروفين من أرباب الكتب و التصانيف من الإمامية إلى أخر ما ذكره» فلاحظ «2».

و قال في موضع أخر منها.

حكى بعض المعاصرين عن شيخه الاحسانى: إجماع الإمامية على انه لا قول للميت، و اشتهر بين الخواص، و العوام: ان قول الميت كالميت «3».

______________________________

(1) حكى انه فرغ من تأليف الرسالة 15 شوال 949 و هي مخطوطة الى اليوم.

(2) رسالة التقليد/ 61.

(3) رسالة التقليد/ 66.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 232

عدم قدح مخالفة المحقق القمي و صاحب الحدائق بل الأخباريين في تحقق الإجماع

______________________________

و قد حكى والدنا العلامة (قدس سره) في الرسالة

عن أستاده المحقق النائيني (قدس سره) انه ادعى إطباق طائفة الأصوليين قديما و حديثا على عدم الجواز الا ما يظهر من المحقق القمي و صاحب الحدائق من الميل الى الجواز و خلافهما لا يقدح في الإجماع الحدسى كما هو مسلك التحقيق «1».

قلت: بل خلاف الأخباريين غير قادح أيضا في تسالم الأصحاب على عدم مشروعية تقليد الميت ابتداء و ذلك.

اما عدم قدح مخالفة المحقق القمي فلانة (قدس سره) بعد ان رأى اختصاص الخطابات بمن قصد إفهامه ذهب الى انسداد بابى العلم و العلمي في الأحكام، و رأى ان الامتثال الجزمى و الاحتياط متعذر على المكلفين، و اعتقد ان العقل يتنزّل عند ذلك الى امتثال الأحكام ظنا، لأنه المقدور في حقهم، و لا يرى العقل اى فرق بين العمل بالظن الحاصل من فتوى الحي أو الميت.

و لا يخفى فساده مبني و بناء يطلب تفصيله من مبحث الانسداد و لكن إجمال فساد المبنى: هو انه تقرر في محله حجية الظواهر بالنسبة الى غير من قصد إفهامه أيضا لو قلنا بان المشافهين مخصوصون بالافهام.

و اما إجمال فساد البناء فلان غاية ما تقتضيه انسداد بابى العلم و العلمي هو اعتبار الظن على خصوص المجتهد من اى طريق حصل لأنه الحاصل لديه من الأدلة و اما العامي فلا، لعدم حصول الظن بالحكم الواقعي بمجرد فتوى الميت مع ما يرى من مخالفة الأحياء معه بل الأموات معه في المسئلة خصوصا إذا كان في الأحياء من هو اعلم منه.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 64، و من أراد أكثر مما ذكرنا فليراجع تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري قدس.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 233

..........

______________________________

و لو حصل له الظن فلا دليل على حجيته

إلّا إذا قامت مقدمات الانسداد في حقه أيضا.

و بالجملة الاختلاف في الفتوى بين العلماء مما لا يخفى على أحد و معه لا تحصل للعامي اى ظن بان ما افتى به الميت مطابق للواقع، و لو حصل لا يكون حجة في حقه.

فالصحيح بناء على الانسداد هو القول بأن العامي يجب عليه العمل على فتوى المشهور في المسئلة لأنه الذي يفيد الظن في حقه لا العمل بفتوى الميت فتدبر.

و اما عدم قدح مخالفة الأخباريين فلان خلافهم انما هو لزعمهم الفاسد من إنكار مشروعية التقليد بالكلية، و ان رجوع العامي إلى الفقيه انما هو من باب الرجوع الى روات الحديث، و ان الجائز من الفتوى لا يفارق النقل بالمعنى.

كلام من السيد الجزائري لعدم اشتراط الحيوة و دفعها

و قد حكى عن السيد الجزائري (ره) في مقام الاستدلال على عدم اشتراط الحيوة في منبع الحيوة:

«ان كتب الفقه شرح لكتب الحديث و من فوائدها تقريب معاني الاخبار الى إفهام الناس، لأن فيها العام و الخاص و المجمل و المبين الى غير ذلك، و ليس كل أحد يقدر على بيان هذه الأمور من مفادها، فالمجتهدون بذلوا جهدهم في بيان ما يحتاج الى البيان و ترتيبه على أحسن النظام، و الاختلاف مستند الى اختلاف الاخبار، أو فهم معانيها من الألفاظ المحتملة حتى لو نقلت تلك الاخبار لكانت موجبة للاختلاف، كما ترى الاختلاف الوارد بين المحدثين مع ان عملهم مقصور على الاخبار المنقولة. و بالجملة فلا فرق بين التصنيف في الفقه و التأليف في الحديث» «1».

فإذا الأخباريون يرون ان المفتي ينقل الرواية بالمعنى لا انه يفتي حقيقة حسب

______________________________

(1) تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 234

..........

______________________________

رأيه، و واضح ان حجية الرواية،

و جواز العمل بها لا يتوقفان على حياة الراوي بوجه فيصح الاحتجاج بها و يجوز العمل بها حيا كان المحدث أو ميتا.

و بالجملة التعبد برأى الفقيه بلحاظ كونه عالما بالأخبار ناظرا فيها و قد جمع متعارضاتها و خصص عموماتها و قيد مطلقاتها، و واضح انه لا يعتبر في الراوي شي ء منها و قد ورد ان رب حامل فقه و ليس بفقيه، و كأنه قد خفي على السيد الجزائري (ره) مخالفة طريقة المجتهدين لطريقة الأخباريين مع ان مخالفتهما كالنار على المنار.

و الحاصل ان الرجوع الى الفقيه من باب رجوع الجاهل الى العالم و الخيبر لا من باب رجوع العامي إلى راوي الحديث.

هذا أولا و ثانيا: لو سلم كون الرجوع الى المجتهد من باب الرجوع الى راوي الحديث لا يصح ما بنوا عليه من جواز تقليد الميت لأنه بعد وجود الخلاف بين الفقهاء، أحيائهم، و أمواتهم يكون وزان فتواهم وزان الأخبار المتعارضة فلا بد من الأخذ بذي المزية من الفتاوى، و على فرض التكافوء، فمقتضى الأصل الاولى كما قرر في محله التساقط إلا إذا قام الدليل على التخيير، فالقول بجواز تقليد الميت مطلقا غير وجيه.

نعم ان لم يكن ترجيح في الأخذ بفتوى الأحياء و كان الميت مساويا للحي و قلنا بشمول أدلة التخيير لمثل المقام يجوز تقليد الميت، و لكن دون إثباته خرط القتاد.

فتلخص مما ذكرنا: ان مخالفة المحقق القمي و الأخباريين ليست مخالفة فيما هو محل الكلام بل مبتنية على أساس غير وثيق، و لا نعلم ان محقق القمي (قدس سره) لو كان بانيا على الانفتاح، و كذا الأخباريين لو كانوا بانيين على ان الرجوع الى المجتهد من باب الى الرجوع الى الخبير، و أهل الاطلاع،

كانوا يجوزون تقليد الميت، فدعوى الإجماع ممن عرفت قريب جدا.

و ان أبيت عما ذكرنا، و رأيت ان المحقق القمي، و الأخباريين مخالفون في المسئلة فنقول كما أشير، لا يضر خلافهم على مسلك المتأخرين في حجية الإجماع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 235

..........

______________________________

و هو الحدس بوجود حجة معتبرة في البين هذا.

تقرير لكشف الإجماع عن حجة معتبرة

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 235

فيقع الكلام بعد في حجية الإجماع فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): «انه بعد التتبع و اعتراف بعض الأعاظم بأنه بعد الفحص الأكيد، لم نطلع على الخلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل و الأواسط يفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متفق عليه بينهم في الحجية و لا أقل من الأصل السالم عن معارضة ما توهم دليلا على الجواز، من الآيات، و الاخبار، و ذلك فان عثورهم على تلك الاخبار، و الآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها و مصيرهم الى ما تقتضيه الأصول و الضوابط، من المنع مما يقتصر بعدم انقطاع حكم الأصل فتطرق الوهن في دلالتها على جواز تقليد الميت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد» «1».

و ان شئت قلت ان بناء العقلاء في الرجوع الى الخبراء، منهم المجتهدون و ان كان على عدم اعتبار الحيوة فيهم، و مع ذلك ترى إجماع الفرقة على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى مع ما هم عليه من التقوى، و التورع في الدين و عدم افتائهم بغير العلم، و ذلك يكشف عن حجة معتبرة لديهم.

الإشكال في كاشفية الإجماع و توجيهه

و لكن مع ذلك كله يشكل الاستدلال بالإجماع في هذه المسئلة و لا يكون كاشفا تعبديا عن قول المعصوم في عرض سائر الوجوه، لاحتمال ان يكون ذلك منهم لبعض الأدلة الاعتبارية و اللفظية، أو ان ذلك مقتضى الأصل، فلا يكون الإجماع دليلا في المسئلة في عرض سائر الأدلة فلا بد من ملاحظتها فتدبر.

الا ان يقال ان عدم جواز

تقليد الميت عدّ من خصائص الإمامية قبال ما عليه العامة من تقليدهم اشخاص معينين من الأموات، بل ربما ادعى انه من ضروريات المذهب و بديهياته مع تطرق الإشكال في سائر أدلة اعتبار الحيوة حتى الأصل منها

______________________________

(1) تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 236

..........

______________________________

كما سنشير اليه، فلا يبعد دعوى اعتبار هذا الإجماع من بين الإجماعات و استكشافه قطعا عن حجة معتبرة متفق عليها بين القدماء فتدبر و اغتنم.

بيان ظواهر الآيات و الاخبار على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى

و مما يستدل لعدم جواز تقليد الميت ابتداء ظواهر الأدلة الدالة على حجية فتوى الفقيه، فإنها واضحة الدلالة على اعتبار الحيوة في جواز الرجوع اليه.

و ذلك لظهور قوله تعالى وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ «1» لو تمت دلالته على حجية فتوى الفقيه في إرادة إنذار المنذر الحي، إذ لا معنى لانذار الميت بوجه و كذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ «2» ظاهر في كون المسئول متصفا بهذا الوصف فعلا خصوصا بعد إيجاب السؤال، فإنه، و ان لم يكن للسؤال مدخلية في حجية قول أهل الذكر و نظره، الا ان المفروض في الآية إمكان الرجوع اليه و السؤال عنه، و واضح ان الميت لا يطلق عليه أهل الذكر بوجه.

و كذا الأخبار الواردة في بيان مشروعية أصل التقليد منطوقا، و مفهوما: مثل ما دل على اتّباع الفقهاء، و ما دل على ان للعوام تقليد الفقهاء العلماء، و ما دل على المنع عن الإفتاء بغير العلم المستلزم لجواز الفتوى بالعلم، و ما دل على إظهار الإمام عليه السّلام حبّه لان يرى في أصحابه من يفتي بالحرام، و الحلال، و ما دل على الإرجاع إلى أشخاص معينين الى غير ذلك،

فأن الظاهر منها خصوصا ما دل على الأمر بالإرجاع إلى أشخاص معينين، هو إرادة الأحياء منهم ضرورة انه لا معنى للإرجاع إلى الأموات.

و بالجملة وجوب الحذر في آية النفر مترتب على الانذار و لا إنذار من الميت و المسئول في آية السؤال هو أهل الذكر و لا يصدق هذا العنوان على الميت، كما لا يعقل سؤاله.

______________________________

(1) التوبة: 9/ 122.

(2) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 237

..........

______________________________

و كذا قوله عليه السّلام: من كان صائنا لنفسه حافظا لدينه مطيعا لأمر مولاه إلخ لأن الميت غير متصف بما ذكر في الخبر، فان لفظة كان ظاهرة في الاتصاف بالأوصاف فعلا لا الاتصاف بها في الأزمنة السابقة.

و قوله (جعلني اللّه من كل مكروه فداه) في التوقيع المبارك و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه، بناء على ان يكون المراد بالحوادث الواقعة المسائل الفرعية التي لم يكن حكمها معلوما عموما أو خصوصا فيما روى عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و تسمية الشبهات الحكمية بالحوادث الواقعة بلحاظ عدم معلومية حكمها فكأنها حادثة حدثت فتأمل، فإنه يدل على الرجوع الى رواة أحاديثهم لا الى رواياتهم عنهم عليهم السّلام و واضح ان الميت لا يكون راويا للحديث فعلا.

و قوله عليه السّلام لأبان: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإنه يدل دلالة واضحة على ان يكون في شيعته فقهاء احياء مثل ابان للإفتاء بين الناس.

و قوله عليه السّلام: انظروا الى رجل منكم روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا.

و قوله عليه السّلام: اصمدا على كل مسن في حبّنا.

الى غير ذلك من الاخبار فإنها

ظاهرة في اعتبار الحيوة فيهم لان الميت و العظام الرميم، لا يصدق عليه راوي الحديث و الناظر في الحلال و الحرام، و المسن في حبهم، و كثير القدم في أمرهم.

فتحصل ان المستفاد من الآيات، و الاخبار، هو جواز الرجوع الى نفس الفقيه، و العالم لا الى فتواه حتى يتوهم حجيتها بعد مماته أيضا، و واضح انه لا يكفي في تحقق عنوان الفقيه، أو العالم، سابقا في جواز الرجوع اليه فعلا.

بخلاف الرجوع الى الروايات لان الظاهر من قوله عليه السّلام لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا «1» و غيره هو ان المرجع نفس الرواية لا الراوي

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 41.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 238

..........

______________________________

فالرواية حجة، و لو بعد موت الراوي فتدبر.

و بما ذكرنا من ظواهر الأدلة يرفع اليد عن بناء العقلاء المستدل به لجواز تقليد من يرجع إليه في الأحكام، مطلقا حيا كان أو ميتا بالنسبة إلى الرجوع الابتدائي و ربما يناقش فيما ذكرنا: بأن غاية ما يستفاد من الآيات و الاخبار، هي ظهورها في اشتراط الحيوة فيمن يرجع اليه، و هي غير قابلة للإنكار، الا انها ليست بذات مفهوم حتى لتدلنا على حصر الحجية في فتوى الحي ممن يرجع اليه، و عدم حجية فتوى أمواتهم، و معه يمكن ان تكون فتوى الميت حجة كفتوى الحي، غاية الأمر ان الأدلة المتقدمة غير دالة على الجواز لا انها تدل على عدم الجواز، و بينهما بون بعيد و بالجملة الأدلة ساكتة عن حجية فتوى غير الحي لا انها نافية لها فيصح الاستدلال لتقليد الميت ببناء العقلاء.

و لكن عرفت منا: انه لم

يقم اى دليل من آية، أو رواية، أو عقل على اعتبار بناء العقلاء بما هو بناء ما لم يحرز رضي الشارع به، و المفروض عدم إحراز رضي الشارع به على بنائهم في التقليد الابتدائي فلا يتم الاستدلال بمجرد بناء العقلاء.

أضف الى ذلك ظهور بعض ما ذكرنا في حصر الحجية في المتصف، بالأوصاف المأخوذة فيها، كقوله عليه السّلام من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

بل لعل دعوى استفادة حصر الحجية من مجموع الأدلة المتقدمة في المتصف بها في الرجوع الابتدائي غير مجازفة فتدبر.

وجه أخر لاعتبار الحيوة في مرجع الفتوى

و مما: يستدل لعدم جواز تقليد الميت: انه لو لم يتم الإجماع على اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى، و لم يتم ظواهر الأدلة على اعتبار الحيوة فيه، و لكن لا ينبغي الإشكال في إيجاب الشك في اعتبار قول الميت في محيط الشرع، في مذهب الإمامية، و قد تقرر في محله، انه لو دار الأمر بين التعيين و التخيير، خصوصا في الطريق، فالعقل في مقام

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 239

..........

______________________________

تفريغ الذمة، يحكم بالأخذ بما يحتمل تعيّنه.

و بالجملة لو كان هناك طريقان أحدهما موصل قطعا، و الأخر احتمالا، و دار الأمر بين الأخذ بأحدهما فالعقل يحكم بسلوك ما هو المقطوع منهما.

و يؤيد ما ذكرنا: ما يقال ان تقليد الأحياء رمز حياة المذهب و تحركه في جميع شئونه كما لا يخفى.

و قد يظهر من بعضهم ان عدم جواز تقليد الميت بلحاظ ان كثيرا ما يكون الأحياء اعلم من الأموات لتلاحق الأفكار جيلا بعد جيل.

و لكن فيه انه: كما ترى، ضرورة ان كثيرا ما يكون الأحياء عيال على أفكار السلف و رهين افكارهم

كما هو واضح لمن تدبر.

نعم ربما يكون الخلف ذات قوة، و ذكاء، و دراية لا يكون في السلف.

مضافا الى ان في لزوم تقليد الأعلم على إطلاقه كلام سيجي ء.

فهذا الوجه مضافا الى انه أخص من المدعى لا يلائم توجيه لزوم تقليد الأحياء هذا كله في الموقف الأول و هو اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى ابتداء و قد عرفت عدم جواز تقليد الميت ابتداء اما.

الموقف الثاني ففي اشتراط الحيوة في مرجع الفتوى بقاء و عدمه. الأقوال العشرة في البقاء على تقليد الميت

اشارة

اختلفوا في اعتبار الحيوة في البقاء على تقليد الميت.

فمنهم من اعتبرها بقاء كما اعتبرها ابتداء فذهب الى عدم جواز تقليد الميت مطلقا «1».

و منهم من لم يعتبرها بقاء فجوز البقاء على تقليد الميت مطلقا «2».

______________________________

(1) كالعلامة النائيني (قدس سره).

(2) كالعلامة الماتن (قدس سره).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 240

..........

______________________________

و فصل ثالث بين ما إذا كان الميت اعلم و بين غيره فقال بوجوب البقاء في الأول، و وجوب العدول إلى الحي إذا كان الحي أعلم، و التخيير إذا كانا متساويين و إن كان العدول اولى و أحوط «1».

و قال رابع: بأن الأقوى الرجوع الى الحي في جميع المسائل، إلا فيما يعلمه فعلا من فتاوى الميت التي توافق الاحتياط فيعمل بها، و لا يلزم الفحص عنها مع عدم العلم فعلا «2».

و قال خامس: بجواز البقاء في خصوص المسائل التي عمل بها «3».

و قال سادس: بأنه ان أخذ الفتوى من الميت في زمان حياته و لم يعمل به حتى مات فلا يبعد كون العمل بتلك الفتاوى داخلا في تقليد الميت ابتداء، فالأحوط في هذه الصورة الرجوع الى الحي، نعم لو عمل ببعض فتاويه بانيا على الرجوع إليه في كل مسئلة يحتاج إليها فالأقوى جواز البقاء مطلقا «4».

و قال سابع: بتعيّن

البقاء إلا إذا كان الحي أعلم من الميت و لم يكن قول الميت مطابقا للأعلم من الأموات «5».

و قال ثامن: بجواز البقاء على تقليد الميت بعد تحققه بالعمل ببعض المسائل مطلقا، و لو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر و يجوز الرجوع الى الحي الأعلم و الرجوع أحوط «6».

و قال تاسع: بجواز البقاء، و ان لم يعمل بعد، نعم لا بد من تعلم فتواه و عدم

______________________________

(1) كالعلامة الميلاني (قدس سره).

(2) كالعلامة الحاج الآقا حسين القمي (قدس سره).

(3) كاستادنا العلامة البروجردي (قدس سره).

(4) كالعلامة الحائري (قدس سره).

(5) كالعلامة السيد أحمد الخوانسارى (دام ظله).

(6) كاستادنا العلامة الخمينى (دام ظله).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 241

..........

______________________________

نسيانه فلو لم يتعلم فتاواه، أو تعلمه و لكن طرء عليه النسيان يلزم عليه الرجوع الى الحي «1».

و قال عاشر: بالبقاء على رأى الميت إذا تعلم فتواه، أو التزم بالعمل، و ان لم يعمل بفتواه حال حياته «2».

تلك عشرة كاملة الى غير ذلك من الأقوال التي لا يهم ذكرها، و فيما ذكرناها كفاية، بل فوقها، و من أرادها فليطلبها من مظانها.

استظهار من الشيخ في اعتبار الحيوة و النقاش فيه

و كيف كان: استظهر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) على ما في رسالة التقليد، و في التقريرات من كلمات الأكثر و معاقد إجماعاتهم و موارد استدلالهم على عدم جواز تقليد الميت: عدم الفرق بين تقليد الميت ابتداء، و البقاء على تقليده.

و لكن يناقش: بأنه استظهار يخصه (قدس سره) و لم يثبت الإجماع على المنع مطلقا، و القدر المتيقن منه، هو المنع عن تقليد الميت ابتداء، و قد عرفت بعض الكلام فيه في التقليد الابتدائي.

كلمة من المحقق النائيني في موقف الحيوة

و ربما يوجه لعدم جواز البقاء بان وزان الحيوة في المرجع، وزان سائر الشرائط المعتبرة فيمن يرجع إليه في الفتوى كالإيمان، و العدالة، و العقل و غيرها، فكما انها تعتبر فيه ابتداء و استدامة فكذلك الحيوة، و لم يقل أحد بجواز تقليد من كان مؤمنا ثم انحرف، أو من كان عادلا، فصار فاسقا، أو من كان عاقلا فطرء عليه الجنون، و كذا غيرها.

فكما انهم يخرجون عن صلاحية الاستناد إليهم، و العمل بفتاواهم السابقة بطرو هذه الحالات عليهم فكذلك بطرو الموت.

______________________________

(1) كالعلامة الخوئي (دام ظله).

(2) كاستادنا العلامة الگلپايگاني (دام ظله).

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 242

..........

______________________________

و قد نسب هذا الوجه، والدنا العلامة (قدس سره) في الرسالة إلى شيخه المحقق النائيني (قدس سره).

و لكن رده: فيها بالفرق بين الحيوة و سائر الشرائط بلحاظ ان اعتبار سائر الشرائط لما كان بدليل لفظي فمقتضى الإطلاق اعتبارها ابتداء و استدامة، بخلاف شرطية الحياة فإنه و ان أقيم على اعتبارها بعض الأدلة اللفظية، الا انه لا يخلو عن مناقشة و الدليل الوحيد على اعتبار الحيوة الإجماع و هو دليل لبى يقتصر فيه على القدر المتيقن، و هو التقليد الابتدائي اه «1».

و لكن

فيه أولا: كما سنشير اليه ان الأمر في اعتبار سائر الشرائط أيضا لم يكن بالدليل اللفظي، بل بالإجماع و نحوه.

و ثانيا: انه ذكرنا لاعتبار الحيوة في مرجع الفتوى وجها غير الإجماع فلاحظ

توجيه للفرق بين الحيوة و سائر الشرائط بقاء و دفعه

و ربما يوجه لاعتبار الايمان، و العدالة، و العقل و نحوها في المرجع بقاء لأجل ان المتصف بها لا يليق- و لو باعتبار فتواه السابقة- لزعامة المسلمين لسقوطه عن الانظار بطرو حالة الجنون، و نحوه، لا لأجل زوال رأيه، و هذا بخلاف الموت فإنه لا يوجب نقصا على الإنسان بل كمالا للنفس لتجردها من عالم المادة، و لوازمها و وصولها الى عالم المجردات، و كمالاتها اه «2».

و لكن فيه: انه بالموت و ان كان ينتقل الإنسان إلى نشأة أخرى الا انه فيما هو المهم في المقام يشترك مع تلك الشرائط لعدم صلوح الميت لزعامة المسلمين، و لو بلحاظ فتواه السابقة فوزان الحيوة وزان سائر الشرائط حدوثا و بقاء فتدبر.

فلم يتحصل مما ذكرنا دليل و حجة على عدم جواز البقاء على تقليد الميت نعم مقتضى الأصل كما ذكرنا، و ان كان عدم الحجية الا انه يستدل للجواز بأمور.

و ليعلم ان موضوع البحث هنا ما إذا لم يعلم مخالفة الميت للحي، و اما إذا

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 8.

(2) الدروس ج 1/ 47.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 243

..........

______________________________

علم مخالفتهما تفصيلا، أو إجمالا فسيجي ء الإشارة إليه تحت عنوان الإيقاظ فارتقب حتى حين.

أدلة جواز البقاء على تقليد الميت
اشارة

و كيف كان ما قيل أو يمكن ان يقال لجواز البقاء على تقليد الميت أمور.

الأمر الأول إطلاق الأدلة اللفظية

قد عرفت ظهور الأدلة اللفظية من الآيات، و الاخبار، على اعتبار الحيوة فيمن يرجع إليه في الفتوى، و مقتضى إطلاقها شمولها لمن راجع الى المجتهد حال حياته بتعلم فتواه، أو بأخذ رسالته بانيا على العمل بها، أو نحو ذلك مما يصدق عليه عرفا الرجوع الى أهل الذكر، أو راوي الحديث، و الناظر في الحلال، و الحرام، الى غير ذلك من العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ثم مات المجتهد فعمل بفتواه جريا على رجوعه السابق.

و السر في ذلك عدم اعتبار العمل في صدق الرجوع و غيره من العناوين، فإذا سئل عن أهل الذكر، فأجاب مسئوله ثم مات فعمل بجوابه جريا على سؤاله يصدق عليه السؤال عن أهل الذكر، و كذا لو أخذ نظر راوي الحديث فمات فعمل بفتياه، يصدق عليه المراجعة إلى راو الحديث.

و بالجملة من سئل عن أهل الذكر، أو أخذ فتوى راو الحديث فعمل بقولهما بعد موتهما كان ذلك جريا على سؤاله السابق و أخذه، و ليس رجوعا، و أخذا ابتدائيا كي يمنع عنه فيعمه إطلاق الأدلة.

و بعبارة أوضح، ظاهر الأدلة يقتضي ان يكون السؤال عن أهل الذكر، أو راوي الحديث، أو غيرهما من العناوين و لا يكاد يتحقق، الاحال الحيوة، و لا تقييد فيها على تحقق العنوان حال العمل، فمن سئل و أخذ حال حياتهما كما هو المفروض

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 244

..........

______________________________

فمقتضى الإطلاق صحة العمل بقولهما، و ان كان بعد الممات و نتيجة ذلك جواز البقاء على تقليد الميت.

الأمر الثاني بناء العقلاء

و لعله عمدة ما يستدل به، لجواز البقاء و حاصله بناء العقلاء في مختلف العلوم و الحرف، و الموضوعات الخارجية، على الرجوع الى آراء خبراء الفن

من دون ملاحظة الحيوة، و لا يرون اى فرق بين حيهم و ميتهم كما تقدمت الإشارة اليه، و لذا تريهم إذا راجع المريض طبيبا حاذقا، و أخذ منه العلاج، ثم مات الطبيب من ساعته، قبل ان يعمل المريض بقوله لم يترك العقلاء العمل على طبق علاجه هذا و قد تقدم عدم كفاية مجرد البناء منهم ما لم ينضم إليه رضي الشارع، و لو بعدم الردع، و بلحاظ عدم معهودية التقليد الابتدائي للميت في الشريعة، لا يمكن استكشاف رضي الشارع به، و قد ذكرنا ما يصح الاستدلال لعدم جوازه.

و اما البقاء على آراء الخبراء بعد موتهم فلم يردع عنه بل مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية، كما تقدم في الأمر الأول إمضاء ما هم عليه، من جواز البقاء على آراء الخبراء بل وجوبه في بعض الموارد، كما إذا كان الميت اعلم مثلا، و كانت فتواه موافقة للمشهور كما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثالث السيرة المستمرة

ربما يتمسك لجواز البقاء بالسيرة المستمرة، في زمان أئمة أهل البيت عليهم السّلام على بقائهم على تقليد من أخذوا منه بعد موته لأنه لم يسمع الى الان عدول أهالي عصر الأئمة عليهم السّلام عمن يرجع إليه في الفتوى بعد موته، مع انه لو كان لذاع، و شاع لكثرة الدواعي على انتشار مثل هذه القضايا، و كثرة ابتلائهم، و قد صرح الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) كما تقدم بأنه كان في زمان أئمتنا عليهم السّلام: الزرارية، و اليونسية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 245

..........

______________________________

و نحوهم، و قد أمروا (صلوات اللّه عليهم) بالرجوع الى بعض أصحابهم، كما أمروا بالرجوع إلى زرارة، و يونس بن عبد الرحمن، و يحيى بن

زكريا و نحوهم و الظاهر ان المراد الرجوع في الفتوى دون الرواية اه «1».

و بالجملة مع شرع الإفتاء و التقليد في عصر الأئمة عليهم السّلام لم يسمع من أحد منهم العدول عمن يأخذون عنه الفتوى بعد موته، و لو كان، لنقل إلينا لتوفر الدواعي، على انتشار هذا النحو من الأمور.

و لكن يشكل التشبث بها: لإثبات مشروعية التقليد الدارج بيننا، و هو التعبد بنظر الفقيه، مع عدم حصول الاطمئنان به، بل الظن بمطابقة الرأي للواقع لان فتاوى الأصحاب على أنحاء.

أحدها: ما يعلم كونه مأخوذا من الرواية المنقولة فيؤخذ بها كما يؤخذ بالرواية، و يصنع بها كما يصنع بتلك، كما حكى غير واحد ذلك في فتاوى على بن بابويه، و لذا اشتهر أن الفقهاء كانوا يراجعون برسالته عند إعواز النصوص.

ثانيها: ما يكون من قبيل الرواية المنقولة بالمعنى مع اطمينان السامع، أو القاري، بعدم وجود المعارض له، و عدم صدوره تقية لحسن ظنه بمن أخذ منه، يطمأن بكون فتواه صادرة عن المعصوم من غير حاجة الى شي ء آخر.

ثالثها: ما يفيد القطع للسامع، و القاري خصوصا إذا كان ممن لا يلتفت الى الاحتمالات كغالب العوام، و النسوان.

رابعها: ما يكون بغير الأنحاء المذكورة فان لم تكن فتواه من قبيل الرواية المنقولة بالمعنى، و لا مأخوذة من الرواية، و لم يحصل للسامع، و القارئ، اطمئنان و لا ظن بالواقع كفتاوى أصحابنا في الأعصار المتأخرة.

و غاية ما يمكن ان يقال إثبات السيرة على الأخذ بالنحوين الأولين فلا تنفع لإثبات النحوين الأخيرين و لو تنزلنا عن ذلك فيمكن إلحاق النحو الثالث بهما،

______________________________

(1) الحق المبين في تصويب المجتهدين و تخطئة الأخباريين/ 61.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 246

..........

______________________________

و اما

إلحاق الوجه الأخير الذي نحن بصدد إثباته فغير وجيه.

الأمر الرابع الاستحسان العقلي

ربما يستدل لجواز البقاء على تقليد الميت، بل وجوبه بوجه عقلي، فإنه لو كان العدول من الميت إلى الحي جائزا، أو واجبا لزم تحمل القضية الواحدة لتقليدين، و اللازم باطل، فالملزوم مثله، بيان الملازمة واضح.

و لكن فيه أولا: انه انما يلزم لو أريد بالقضية الواحدة، الوحدة الشخصية و هي غير مراد قطعا، لان المراد بالوحدة في القضايا المبتلى بها الوحدة النوعية التي لها مصاديق شخصية.

و ثانيا: نمنع إطلاق اللازم، على ما هو الحق عندنا من القول بالتخطئة، و ان فتوى الفقيه كسائر الأمارات قد تصيب الواقع، و قد تخطى، خلافا لما عليه بعض الإمامية، من الالتزام بالمصلحة السلوكية التي يتدارك بها ما يفوت من المصلحة الواقعية، فالباب باب المعذرية و المنجزية، فلا مانع من تحمل الواقعة للتقليدين لو اقتضته الدليل.

الأمر الخامس العسر و الحرج

ربما يستدل لجواز البقاء بأنه لا بد في التقليد من معرفة فتوى المجتهد ليطابق عمله فتواه، و واضح ان تعلم الفتاوى على غالب الناس ليس امرا سهلا بل فيه صعوبة و لا بد لهم في ذلك من مراقبة أكيدة، و عناية مخصوصة، فإذا وجب العدول إلى الحي بموت المجتهد فحيث ان اختلاف فتاوى المجتهدين كثيرة فلا بد له من تحمل مثل المشقة التي صرفه في معرفة فتاوى الفقيه المتوفى، في معرفة فتوى الفقيه الحي، بل ربما يكون ذلك أشق عليه بعد ما حفظ فتاوى المتوفى، و ربما يوجب اشتباه فتوى أحدهما بالآخر، فيقع المقلد في حيرة و ضلالة، فلو فرض موت الفقيه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 247

..........

______________________________

الثاني، و وجب العدول الى الثالث يكون الأمر عليه أصعب كما لا يخفى و هكذا.

و بالجملة لو لم يجز البقاء على تقليد

الميت و وجب عليه العدول إلى الحي يلزم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة في تعلم الفتاوى لغالب الناس بعد تخالف آراء الفقهاء و تضارب الفتاوى.

أضف الى ذلك ان اختلاف فتوى الحي و الميت ربما يوجب قضاء اعمال اتى بها المقلد في سنين متمادية، و واضح انه حرج شديد.

و فيه: انه بعد معرفة فتاوى الفقيه المتوفى و لا يكون معرفة موارد خلاف فتوى الحي، مع الميت بحيث يوجب عسرا شديدا و حيرة كما لا يخفى، بل يمكن تحصيله في مدة قليلة، مع انه لا تكون فتاوى الحي كثيرة الخلاف مع الميت، بل ربما يرجع اختلافهما من حيث إيجاب أحدهما الاحتياط، و عدم إيجاب الأخر إياه، و المقلد بحسب العادة غالبا يأتي بما هو موافق للاحتياط.

و اما استلزام العدول إلى الحي، قضاء ما اتى على رأى المتوفى ففيه ان موارد استلزام اختلاف الفتاوى قضاء الأعمال السابقة قليلة جدا كما لا يخفى بعد إمكان تصحيحها بمثل قاعدة لا تعاد في الصلاة و الإجماع فيها، و في غيرها، و لو كانت كثيرة لا يكون بحيث يصعب قضائها، و لو استلزم الحرج الشديد أحيانا فيتقدر بقدره، فيجب عليه قضاء الأعمال المتقدمة ما لم يستلزم الحرج الشديد، و عند الاستلزام يرفع اليد عن القضاء، لا عن عدم العدول إلى الحي. فتدبر.

و بالجملة المحذور يتقدر بقدره فغاية ما يقتضيه نفى العسر و الحرج عدم وجوب قضاء ما اتى به على تقليد المتوفى، لا عدم لزوم القضاء فضلا عن عدم العدول إلى الحي فتدبر.

الأمر السادس الاستصحاب
اشارة

قد تقدم تمامية الاستدلال لجواز البقاء على تقليد الميت بإطلاق الأدلة اللفظية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 248

..........

______________________________

و بناء العقلاء، و معهما

لا تصل النوبة إلى الاستصحاب لما تقرر في محله ان الأصل دليل حيث لا دليل اجتهادي، فلا موقف لإجراء الاستصحاب و ان كان موافقا لنطاق الدليل الاجتهادي.

و لكن حيث انه يمكن ان لا يقع ما ذكرناه مورد قبول بعض رواد العلم فينبغي التعرض لجريان الاستصحاب و ما وقع فيه من النقض و الإبرام تتميما للقاعدة فأقول و أجمل.

تقريبان للاستصحاب و الفرق بينهما

ان تقريب الاستصحاب تارة من ناحية حجية فتوى الفقيه بعد موته بان يقال لا إشكال في حجية فتوى الفقيه الجامع للشرائط و صحة الاستناد إليها، و جواز الأخذ بها و العمل بها حال حياته و بعد الموت يشك في بقاء حجيتها، و صحة الاستناد إليها، و جواز الأخذ بها فيستصحب.

و اخرى من جهة جواز تقليده بعد موته بان يقال لا إشكال في ان المكلف يصح له العمل بفتوى الفقيه و الاستناد إليها في مقام العمل حال حياته، و بعد مماته يشك في ذلك فيستصحب.

و الفرق بين التقريبين بعد اشتراكهما في تجويز البقاء على تقليد الميت، هو ان نطاق الاستصحاب على التقريب الأول يعم التقليد الابتدائي الا ان الدليل قام على عدم جواز التقليد الابتدائي، بخلاف التقريب الثاني بأنه يختص بمرحلة البقاء

الإشكال في التقريبين من جهتين أو جهات

أشكل على كلا التقديرين تارة بأن المستصحب لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا ذا حكم شرعي و الحجية ليست شيئا منهما لأنها أمر انتزاعي من الحكم المجعول في مورده.

و اخرى: بأن حجية فتوى المجتهد في باب التقليد متقوم بالحيوة و بعد الموت يقطع بارتفاع الموضوع، و لو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من الشك في بقاء الموضوع،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 249

..........

______________________________

و معه لا مجال للاستصحاب و قد أوضح ذلك والدنا العلامة في الرسالة.

موضوعات الأحكام على أنحاء ثلاث

«ان ما يؤخذ في موضوعات الأحكام يتصور على أنحاء ثلاثة.

الأول: ان يكون لمجرد الإشارة الى ما هو موضوع للحكم واقعا من غير ان يكون له دخل في الحكم لا في مرحلة الحدوث و لا في مرحلة البقاء كقولك اعمل بما في الطومار.

الثاني: ما له دخل في مرحلة الحدوث و لكن يشك في دخالته في مرحلة البقاء كتغير الماء بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة، و لا فرق في ذلك- بين ان يؤدى بالجملة الوصفية كما إذا قيل الماء المتغير ينجس بالتغير، أو بالجملة الشرطية كما إذا قيل الماء إذا تغير ينجس- قضاء لمناسبة الحكم و الموضوع حيث ان العرف يرى ان النجاسة بالقياس الى الماء من قبيل الاعراض و ان محلها هو الجسم المائع السيّال، فيعلم ان التغير من حالات الموضوع لا من مقوماته.

و بعبارة اخرى انه واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض فعند زوال التغير بنفسه، أو بعلاج يشك في نجاسته، و طهارته، فيحكم بنجاسته تعويلا على الاستصحاب لتحقق أركانه.

الثالث: ان يكون له دخل في الحكم حدوثا، و بقاء كقوله: قلد المجتهد العادل، و أعط الفقير الزكاة، فإنه يعلم بمناسبة الحكم و

الموضوع ان وصف الاجتهاد أو العدالة أو الفقر من مقومات الموضوع لوجوب التقليد، و إعطاء الزكاة و عند زوال الوصف، في هذا القسم، كالاجتهاد و العدالة في المثال الأول، و الفقر في المثال الثاني، لا مجال للاستصحاب للقطع بانتفاء الموضوع.

إذا عرفت ذلك فنقول: ان وصف الحيوة بالنسبة إلى حجية الفتوى ان كان كوصف التغير بالنسبة إلى النجاسة في كونها من حالات الموضوع صح استصحاب بقاء حجية فتوى المجتهد بعد موته، و اما ان كان كوصف الفقر، و الاجتهاد من مقومات الموضوع، و ذا مدخلية في حجية فتوى المجتهد حدوثا و بقاء فلا مجال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 250

..........

______________________________

لاستصحاب بقاء حجية فتواه بعد موته لارتفاع الموضوع.

و الظاهر كونه من قبيل الثاني و لا أقل من الشك في كونه من قبيل الأول، و على كلا التقديرين، لا مجال للاستصحاب للعلم بارتفاع الموضوع على تقدير، و الشك في بقائه على تقدير آخر. اه «1».

و قد يقرر ذلك بان موضوع الحجية هو الرأي و قد علمنا بزواله، و لذا ترى انه إذا تبدل رأى المجتهد لا تكون فتواه الأولى حجة، و كذا إذا مرض، أو هرم بحيث عرض له النسيان أو طرء عليه الجنون.

صحة جريان الاستصحاب

و لكن الذي يقتضيه دقيق النظر جسما استفدناه من بحث أستادنا العلامة الخمينى دام ظله جريان الاستصحاب و عدم تمامية الإشكال.

أما الإشكال الأول فلان الحجية حكم وضعي مجعول لأنها عبارة عن صلوح الشي ء للاحتجاج لما تقرر في محله ان كل مقرر، و قانون، من مقنن نافذ رأيه في المجتمع يطلق عليه الحكم سواء كان تكليفيا، أو غير تكليفي، فإن كان تكليفيا يطلق عليه الحكم التكليفي، و الا يكون

وضعيا، فالأحكام الوضعية عبارة عن جميع المقررات الشرعية ما عدى الأحكام التكليفية، و هي قد تكون مجعولة اصلية، و قد تكون مجعولة بتبع التكليف به، أو بتبع اشتراط التكليف به بمعنى انتزاعه منه.

و الأول كالجزئية للمكلف به أو الشرطية أو المانعية له.

و الثاني كالاستطاعة في الحج حيث تنتزع من اشتراط تكليف الحج به.

و الحجية من الأحكام الوضعية و معناها صلوح شي ء و لو إمضاء للاحتجاج كما ان السببية مجعولة و معناها اعتبار شي ء موضوعا للاعتبار.

و خلط باب التشريع بالتكوين أوجب توهم كون الحجية و السببية، و الشرطية و غيرها من الأحكام الانتزاعية غير القابلة للجعل لا أصلا و لا تبعا.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 77.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 251

..........

______________________________

فرأوا أن السببية التكوينيّة مثلا غير قابلة للجعل لا تكوينا، و لا تشريعا، لا أصالة و لا تبعا، و الذي يقبل الجعل ذات السبب، و وجوده العيني، و اما السببية فهي من لوازم ذاته، و كذا الأمر في الحجية، مع ان السببية في الأمور التشريعية، و الاعتبارية بمعنى أخر غير السببية التكوينيّة، لأنها عبارة عن جعل شي ء موضوعا للاعتبار، فالشارع الأقدس جعل قول الزوج: هي طالق مثلا مع الشرائط المقررة في قانونه موضوعا لرفع علقة الزوجية، و يكون قوله عليه السّلام ذلك سببا لفسخ الزوجية من دون رشح، و إفاضة، و خصوصية، كما هو الشأن في السببية التكوينيّة.

فكم أورث خلط التشريع بالتكوين إشكالات و تبعات مذكورة في محالها فلاحظ فبعد ما تمهد لك ما ذكرنا يظهر لك حال الحجية فإنها عبارة عن جعل شي ء و لو إمضاء موضوعا لاحتجاج.

فاذا تحقق كون الحجية من المجعولات الشرعية فيصح ان يقال ان فتوى الفقيه الحي

كانت حجة في حياته قابلة لاحتجاج بها و بعد موته يشك في حجيتها فيستصحب.

و كذا يقال يجوز للعامي تقليد الفقيه حال حياته و بعد موته يشك في ذلك فيستصحب الجواز.

و ان أبيت عن استصحاب الحجية فنقول كما أشرنا إليه في الموقف الأول ان جواز استصحاب روح الحكم الثابت حال حياته فلعله لا اشكال فيه.

و لو نوقش في ذلك فيصح استصحاب الحكم الشرعي، في موردها الذي انتزعت منه، و هو اما وجوب العمل أو جواز العمل على طبق فتوى هذا الفقيه، في زمن حياته فيستصحب بعد موته.

هذا كله بالنسبة إلى الإشكال الأول.

و اما إشكال تقوم الرأي بالحيوة ففيه ان أخذ موضوعات الأحكام، و ان كان على أنحاء ثلاث الا ان الظاهر ان أخذ موضوع الحكم في المقام من قبيل القسم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 252

..........

______________________________

الثاني لأن الرأي له بقاء عرفا نظير اخبار المخبر فكما ان اخباره لا ينعدم بموته كذا رأى الفقيه لا ينعدم بموته، فيكون وزان موضوعية الرأي للحجية، نظير التغير للماء حيث يكون لحدوثه مدخليّة في مرحلة الثبوت، و نظير عدم جواز الصلاة خلف المحدود في زمان على بعض الأقوال، و عدم قبول شهادة من رمى المحصنة بالزنا الى غير ذلك من الأمثلة.

و تنظير المقام بتبدل الرأي في غير محله: إذ تبدل الرأي يكون نظير ما إذا أخبر المخبر بخبر ثم قال بعد ذلك انى أخطأت في خبري فدليل الحجية من أول الأمر قاصر لا يشمل صورة الاخبار خطأ و اشتباها و هكذا قضية تبدل الرأي فتدبر.

و لا يقاس المقام بالهرم الموجب للنسيان، أو الجنون الطاري، لأنهما يعدان نقصا في المجتهد بخلاف الموت فإنه كمال، و انتقال

من نشأة الى نشأة أعلى و ارفع.

مضافا الى انه لو لم يكن هناك اتفاق و ارتكاز لقلنا بجواز تقليد من طرء عليه الهرم الكذائي أو الجنون.

فظهر انه لا موقف للإشكال في جريان الاستصحاب من هاتين الجهتين.

الإشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية

و لكن قد يناقش في جريان الاستصحاب في المقام من ناحية أخرى، و هي عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية سوى استصحاب عدم النسخ، لان الشك في بقاء الحكم في غير استصحاب عدم النسخ معارض دائما باستصحاب عدم الجعل ففي المقام الشك في بقاء الحجية الفعلية لفتوى الميت المقتضى لتوسعة نطاق حجية فتواه بعد الموت، معارض باستصحاب عدم جعل الحجية على رأيه و فتواه في هذا الحال.

و بالجملة الشك في بقاء الحجية، و ان كان ناشيا من جهة سعة المجعول و ضيقه، الا انه معارض باستصحاب عدم جعل الحجية على رأيه، و فتواه، في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 253

..........

______________________________

هذا الحال.

و بعبارة أوضح استصحاب بقاء الحجية، و ان كان مقتضيا لسعة دائرة الحكم الفعلي، و استدامته لبعد حياته، الا ان الأصل المعارض له، و هو استصحاب عدم جعل الحجية ينتج ضيقه.

و هكذا الكلام في الماء المتغير، فإنه إذا تغير الماء بملاقات النجس يصير نجسا فاذا زال تغيره من قبل نفسه أو بعلاج إذا شككنا في بقاء نجاسته فمرجع الشك و ان كان الى ان المجعول هل كان وسيعا حتى يشمل ما بعد التغير، و زواله أو كان ضيقا مختصا بحال التغير فتستصحب النجاسة الى بعد زوال التغير، و لكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم جعل النجاسة لهذا الموضوع في هذا الحال

استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي

و لكن يمكن ان يقال: ان استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي لأن الشك في جعل الحجية لرأي الميت و عدمه- الذي هو الموضوع لاستصحاب عدم الجعل- ناش عن سعة المجعول و عدمه فإذا جرى الأصل في المجعول و استصحبنا الحجية الى ما بعد الموت فلا

يبقى الشك في الجعل أصلا، لأن الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب.

لا دليل على تقدم الأصل السببي على المسببي مطلقا

و لكن يناقش بأنه لا وجه لتقدم الأصل السببي على المسببي إلا إذا كان المسبب من آثار الشرعية للسبب كالثوب المغسول بالماء المشكوك نجاسته، و طهارته، بجريان الاستصحاب في الماء المشكوك، فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشك عن نجاسة الثوب المغسول به، فإن أثر طهارة الماء شرعا طهارة الثوب المغسول به، و اما المقام فليس كذلك لأن السببية و المسببية عقليان.

تصحيح تقديم استصحاب الحجية على استصحاب عدم الجعل

الا انه يمكن ان يقال ان الحجية أمر مجعول كما أشرنا فباستصحاب الحجية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 254

..........

______________________________

يرتفع الشك شرعا، و مقتضاه ارتفاع الشك في عدم الجعل.

و بالجملة باستصحاب الحجية يرتفع الشك في عدم جعل الحجية، كما يرتفع الشك في طهارة الثوب شرعا باستصحاب طهارة الماء فتدبر.

كلمة في عدم جريان استصحاب عدم الجعل و الاشكال فيها

و ربما أيد ذلك بما عن بعض المحققين من ان استصحاب عدم الجعل لا يجري في حد نفسه، إذ لا يترتب على استصحاب عدم الجعل، حكم فعلى يقتضي الحركة و السكون، على طبقه، ضرورة انه من آثار الأحكام الفعلية، فلا مجال لمعارضته مع استصحاب بقاء المجعول، الأبناء على القول بالأصل المثبت.

و لكن لا يخفى أولا: ان ما افاده من عدم ترتب الأثر على استصحاب الجعل غير وجيه لأن أثر كل شي ء بحسبه، فاستصحاب الجعل عند الشك في النسخ كما يجرى، و يكون مقتضاه التحرّك، و الانبعاث فكذا يجرى استصحاب عدم الجعل، و يكون مقتضاه الترخيص، و الإباحة فتدبر.

و ثانيا: ما أشرنا إليه من ان استصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت من أثار الشرعية لاستصحاب حجية فتواه فليس أثرا عقليا له حتى يكون مثبتا.

فتحصل بما ذكرنا بطوله: انه لا يبعد جريان استصحاب حجية فتوى الفقيه بعد موته، و اشكال عدم بقاء الموضوع، أو معارضة استصحاب الحجية باستصحاب عدم الجعل غير وجيه.

و لكن بعد اللّتيا و اللّتي لا يكاد ينفع هذا الاستصحاب، و لا تصل النوبة إلى إثبات حجية رأى الميت بالأصل بعد ما عرفت من تمامية الدليل الاجتهادي من إطلاق الأدلة اللفظية، و بناء العقلاء.

عدم إطلاق الأدلة لجواز البقاء في صورة العلم باختلاف الفتوى

و ليعلم ان ما ذكرنا كله فيما إذا لم يعلم مخالفة فتوى الميت لفتوى من يجوز تقليده من الأحياء تفصيلا، أو إجمالا- سواء علم بتوافقهما في الفتوى، أو احتمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 255

..........

______________________________

توافقهما- و قد عرفت تمامية دلالة بعضها، و عدم تمامية دلالة الأخر.

و اما إذا علم المخالفة بينهما كذلك، فلا يصح الاستدلال لجواز البقاء على تقليد الميت، بإطلاق الأدلة اللفظية، لسقوطهما عن

الحجية في هذا الحال لعدم إمكان شمولها لكلا المتعارضين، للتكاذب، و لا لأحدهما لعدم المرجح.

حكم بناء العقلاء و حكم العقل في صورة اختلاف انظار الخبراء

فلا بد من الرجوع الى ما استقرت عليه بناء العقلاء عند معارضة انظار الخبراء و إذا شك في بناء العقلاء فيرجع الى حكم العقل، و يختلف ذلك باختلاف صور المسئلة.

و ذلك لأنه اما يعلم اعلمية الميت من الحي، أو بالعكس، أو يعلم تساويهما، أو يحتمل ذلك، أو يحتمل اعلمية كلا منهما من الأخر.

فإن علم اعلمية الميت فيجب البقاء على تقليد الميت إذا لم تكن فتوى الحي مطابقة للاحتياط و ذلك لأمرين.

الأول: قيام السيرة العقلائية على العمل بقول الأعلم في موارد المعارضة مع غير الأعلم من غير فرق بين ان يكون الأعلم حيا، أو ميتا، و لا فرق في ذلك بين ما إذا علم، و عمل بفتوى الميت أم لا، و لم يثبت ردع من الشارع إلا في التقليد الابتدائي الثاني: حكم العقل بالتعيين في موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و محتمل التعيين انما هو تقليد الأعلم، و دعوى الإجماع على عدم وجوب البقاء على تقليد الميت غير ثابتة.

نعم إذا كانت فتوى الحي مطابقة للاحتياط فلا يجب تقليد الميت بل يجوز له العمل بفتوى الحي من باب الاحتياط لا التقليد.

و ان أحرز اعلمية الحي فيحرم عليه البقاء، بل يجب عليه العدول إذا لم تكن فتوى الميت موافقة للاحتياط للوجهين المتقدمين.

نعم إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط فيجوز العمل بها احتياطا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 256

..........

______________________________

و ان أحرز تساويهما، أو احتمل ذلك، أو احتمل اعلمية كل منهما من الأخر، فالذي استقر عليه بناء العقلاء في تلك الموارد هو الاحتياط مهما أمكن ذلك، و

إذا لم يمكن ذلك كما في دوران الأمر بين المحذورين فبنائهم على التخيير.

و ان أبيت عن ذلك، و شككت في ثبوت البناء فيرجع الى مقتضى حكم العقل، و هو أيضا الاحتياط لا البراءة لتنجز الأحكام الواقعية إجمالا فلا بد من الاحتياط مهما أمكن، و ان لم يمكنه الاحتياط فمقتضى الأصل هو التخيير العقلي.

هذا إذا لم يكن إجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي مع التمكن من التقليد، و ان كانت ثمة دعوى الإجماع فيتخير بين البقاء على تقليد الميت و العدول إلى الحي في هذه الموارد و اللّه العالم بأحكامه.

ينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول في انه لا فرق في جواز البقاء على تقليد الميت

عند عدم العلم بمخالفة فتواه للحي بين كون الميت اعلم من الحي، أو الحي أعلم، فلا يجب البقاء في الصورة الأولى كما لا يجب العدول في الصورة الثانية، و ان كان اولى كما نشير إليه إن شاء اللّه ان الأعلمية ليست من شرائط التقليد، و اعتبار من اعتبره انما هو في صورة اختلاف الفتوى.

بل على المذهب المختار في التقليد من كون التقليد عبارة عن العمل المستند بقول الغير، أو الاستناد بقول الغير في مقام العمل لا يكون لإثبات جواز البقاء على تقليد الميت فائدة مهمة لأن الميت و الحي حسب الفرض متوافقان في الرأي، لأن العمل الموافق لرأي الميت موافق لرأي الحي، كانت رأى الميت حجة أم لا.

نعم على القول بكون التقليد عبارة عن الالتزام بالعمل برأى الغير تكون لمسئلة جواز البقاء مع اتفاق الفتوى فائدة، لدوران الصحة مدار الاستناد، و عدمه، كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 257

الأمر الثاني في عدم دخالة العمل في جواز البقاء على تقليد الميت.

______________________________

قد يقال: ان جواز البقاء على تقليد الميت انما هو في خصوص المسائل التي عمل بها قبل فوت المجتهد بل قد يخص ذلك بما إذا كانت المسائل التي عمل بها موافقة للاحتياط.

و قد يبتني- و هم الكثير منهم- جواز البقاء، و عدمه على كون التقليد عبارة عن العمل برأى الغير، أو الالتزام برأيه.

فعلى الأول فلا بد في البقاء من العمل برأيه لعدم تحقق عنوان البقاء على تقليده إلا في المسائل التي عمل بها برأيه.

و على الثاني فلا يتوقف عنوان البقاء على العمل، بل يكفى مجرد الأخذ، و الالتزام للعمل في تحققه، و ان لم يعمل بعد.

و قد يقال: انه إذا أخذ الفتوى زمن حياته و لكن لم يعمل به

حتى مات فلا يبعد ان يكون العمل بتلك الفتوى داخل في تقليد الميت ابتداء فالأحوط في هذه الصورة، الرجوع الى الحي نعم لو عمل ببعض فتياه بانيا على الرجوع إليه في كل مسئلة يحتاج إليها، فالأقوى جواز البقاء مطلقا و لو بالنسبة إلى المسائل التي لم يعمل بها.

و لكن قد يقال انه إذا تعلم فتواه، و لم يطرء عليه النسيان قبل موته، يجوز له البقاء، و ان لم يعمل بفتياه أصلا، فلو لم يتعلم فتواه، أو تعلمها و لكن طرء عليه النسيان يجب عليه الرجوع الى الحي.

و لكن الذي يقتضيه النظر، هو عدم توقف جواز البقاء و عدمه على كون التقليد العمل بفتوى الغير، أو الالتزام برأيه، فيصح القول بالبقاء، و ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل برأى الغير، لعدم أخذ عنوان البقاء على التقليد في لسان شي ء من الأدلة حتى يراعى اعتبار ذلك، لما أشرنا ان دليل الجواز لا يخلو عن أحد هذه الأمور

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 258

..........

______________________________

1- اما إطلاق الأدلة.

2- أو بناء العقلاء.

3- أو الاستصحاب.

و ليس في شي ء منها عنوان العمل فضلا عن البقاء عليه.

و ذلك اما إطلاق الأدلة فقد تقدم ان مقتضاه اعتبار الرجوع الى المجتهد في زمن حياته، و واضح ان الرجوع يتحقق بمجرد تعلم الفتوى للعمل و ان لم يعمل بعد فمن تعلم الفتوى منه حال حياته، و لكن لم يعمل بها الى ان مات يصدق عليه الرجوع الى الحي و لعله واضح.

و اما بناء العقلاء فواضح لما أشرنا ان بنائهم على الرجوع الى آراء خبرائهم و لو كانوا ميتين خرجنا عنه في التقليد الابتدائي للردع، أو لعدم إحراز الرضى.

و اما

الاستصحاب فلان مقتضاه حجية الرأي، أو جواز البقاء أو نحو ذلك، عمل بها أم لم يعمل، ضرورة ان حجية فتواه، أو جواز العمل برأيه قبل موته غير مشروط بالعمل فلو شك في اعتباره بعد موته فيستصحب ذلك.

الأمر الثالث في عدم اعتبار تذكر الفتوى و عدم نسيانه في جواز البقاء.

فبعد ما عرفت عدم اعتبار العمل في جواز البقاء يقع الكلام في اشتراط تذكر الفتوى لجواز البقاء فذهب بعض الأساطين دام ظله الى اعتبار الذكر في البقاء فإذا نسي الفتوى بعد ما أخذها و تعلمها ينعدم أخذه السابق، و رجوعه الى الميت قبل موته فاذا تذكرها يكون رجوعا جديدا، و لا يكون فرق بين الرجوع اليه و بين الرجوع الى غيره من المجتهدين الأموات فيعمه عدم جواز تقليد الميت ابتداء اه «1» و لكن في النفس فيما أفاده شي ء و ذلك لأنه كما لم يعتبر في جواز البقاء على تقليد الميت العمل على طبقه فكذلك لا يعتبر تذكرها، و لعلهما يرتضعان من ثدي

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 112.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 259

..........

______________________________

واحد، فكما عرفت، و أشار دام ظله عدم أخذ عنوان البقاء على التقليد و العمل في لسان شي ء من أدلة جواز البقاء من إطلاق الأدلة و بناء العقلاء، و الاستصحاب، فكذلك لم يؤخذ ذكر الفتاوى في شي ء منها، فمن تعلم فتوى الفقيه للعمل يصدق عليه الرجوع الى الفقيه، حال حياته، طرء عليه النسيان أم لا، و من نسي الفتوى ثم تذكرها لا يصدق عليه الرجوع الابتدائي و لعله واضح، فاذا لم يصدق عليه الرجوع الابتدائي يظهر صحة الاستدلال لجواز البقاء ببناء العقلاء بل بالاستصحاب كما لا يخفى.

فتحصل مما ذكرنا كله ان جواز البقاء على تقليد الميت غير مشروط بالعمل بآراء

المجتهد حال حياته عمل ببعض فتاويه أم لم يعمل، و لا ببقاء الذكر، فمن تعلم فتوى الفقيه للعمل بها يجوز له البقاء على رأيه، و ان لم يعمل بفتواه أصلا بل و ان تذكرها بعد نسيانها.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 261

[مسئلة 10- العدول عن تقليد الحي]

اشارة

مسئلة 10- إذا عدل عن الميت إلى الحي (1) فلا يجوز له العدول الى الميت (2).

مسئلة 11- لا يجوز العدول عن الحي (3) إلى الحي إلا إذا كان الثاني اعلم (4).

______________________________

(1) ان أخر قدس ذكر هذه المسئلة عن مسئلة العدول عن الحي إلى الحي كان اولى.

(2) ان كان الحي أعلم، أو كان مساويا للميت، و ان كان الميت اعلم فالأظهر وجوب العود الى الميت على تفصيل يأتي في مسئلة تقليد الأعلم

(3) فيما إذا اختلفا في الفتوى بالنسبة إلى المسائل التي عمل بها، و اما في غيرها فالأحوط الاولى عدم العدول.

(4) فالأقوى حينئذ العدول الى الثاني على تفصيل يأتي.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 262

..........

______________________________

أقول: المسئلتان ترتضعان من ثدي واحد فيما هو المهم في المقال، و ان اختلفتا في بعض الوجوه، فالأولى البحث أولا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي، ثم تذييلها بمسئلة العدول من الحي إلى الميت فنقول.

الأقوال في العدول عن الحي إلى الحي

اشارة

اختلفوا في مسئلة العدول عن الحي إلى الحي على أقوال:

فعن النهاية، و وافقها المحقق، و الشهيد، الثانيان، و في الجعفرية، و المقاصد العلية، و المحقق الأصفهاني في الرسالة (قدس اللّه أسرارهم): الجواز.

و عن التهذيب، و شرحه، و الذكرى، و المحقق القمي في جامع الشتات، و العلامة الأنصاري في رسالة التقليد، بعد العمل برأى الأول (قدس اللّه أسرارهم):

عدم الجواز.

و ذهب الماتن (قدس سره) الى عدم جواز العدول- سواء كانا متساويين، أو كان الأول أعلم- إلا إذا كان الثاني اعلم.

و عن العلامة الحائري (قدس سره) التفصيل بين العدول في واقعة شخصية بعد الأخذ و العمل به كما لو صلى بلا سورة بفتوى أحدهما فأراد تكرار الصلاة في السورة، بفتوى الأخر، و بين

العدول في الوقائع المستقبلة التي لم يعمل، أو العدول قبل هذا الالتزام و الأخذ، فذهب الى عدم الجواز في الأول مطلقا، و عدم الجواز في الأخيرين، ان قلنا بان التقليد هو الالتزام، و الأخذ، و الجواز ان قلنا بأنه نفس العمل مستندا الى الفتوى.

و ذهب بعضهم إلى الأخذ بأحوط القولين ان كانا متساويين، أو كان الثاني اعلم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 263

..........

______________________________

الى غير ذلك من الأقوال:

و كيف كان يستدل لجواز العدول بوجهين.
الوجه الأول: إطلاق ما دل على جواز التقليد
اشارة

فإنه يشمل فتوى المجتهد الثاني بعد الأخذ بفتوى المجتهد الأول.

و بالجملة لم يقيد ما دل على حجية فتوى المجتهد، و جواز الأخذ بها بما إذا أخذ بفتوى غيره، فمقتضى الإطلاق حجية فتوى المجتهد و ان كان العامي، أخذ بفتوى غيره.

قلت: لا يتم الاستدلال بالإطلاق في جميع صور المسئلة لان المعدول عنه، و المعدول اليه، اما يكونا متساويين في الفضيلة، أو يكون المعدول عنه أعلم، أو بالعكس، و على اى تقدير، اما يكونا متفقين في الفتوى، أو مختلفين فيها.

فمع إحراز اتفاقهما في الفتوى، أو عدم إحراز مخالفتهما في الفتوى، فحيث لا يجب تقليد الأعلم عند ذاك لما سنشير اليه- من ان وجوب تقليد الأعلم مخصوص بما إذا أحرز المخالفة بينه و بين غيره- فلا مانع من الاعتماد على فتوى كل من المجتهدين عملا بإطلاق أدلة الحجية، فإن مقتضاه حجية صرف الوجود من الفتوى، الصادق على الواحد، و المتعدد.

و اما مع إحراز تخالفهما في الفتوى فمع اعلمية من قلده لا يجوز العدول عنه الى المجتهد الثاني، و لو عدل يكون واقعا في غير محله فيلزم عليه الرجوع الى المجتهد الأول، لحكم العقل و العقلاء بلزوم تقليد الأعلم، عند الاختلاف في الفتوى كما انه إذا

كان المجتهد الثاني، اعلم، يجب العدول اليه للوجه المتقدم.

و اما مع تساويهما في الفضيلة، و لعل محل الكلام في التمسك بالإطلاق هو هذه الصورة، فنقول كما قرر في محله، ان إطلاق دليل الحجية لا يشمل المتعارضين المتكافئين، لاستلزامه الجمع بين المتنافيين، و لا أحدهما المعين، لكونه ترجيحا بلا مرجح فيتساقط الدليلان عن الحجية، و لذا يقال ان الأصل الأولي في الأمارتين المتعارضتين التساقط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 264

ثبوت التخيير في الأمارتين المتعارضتين مطلقا

______________________________

و لكن مقتضى ما ورد في الخبرين المتكافئين، هو التخيير بينهما و عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) الإجماع على ثبوت التخيير بين الفتويين المتعارضتين.

و بعبارة أخرى الإجماع على إلحاق الفتويين المتعارضتين بالخبرين المتعارضين و ربما يدعى وجود السيرة المتشرعة في زمن الأئمة المعصومين عليهم السّلام على الرجوع الى المفتين و الرواة، و لو مع العلم الإجمالي بمخالفة بعضهم مع بعض.

بل صرح أستادنا العلامة الخمينى دام ظله بتسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين، و عدم وجوب الاحتياط، أو الأخذ بأحوط القولين «1»

لا يستفاد التخيير الاستمراري مما دل على التخيير

و لكن موضوع الأمر بالتخيير في اخبار التخيير، و الإجماع، هو صرف وجود التخيير فبعد الأخذ بأحد الخبرين، أو الفتويين يسقط الأمر، فلا موقف لبقاء التخيير فلا يجوز طرح أحد الخبرين بعد الأخذ به، و الأخذ بالآخر، و لا يجوز كما لا يصح العدول من أحدهما إلى الأخر.

و بالجملة موضوع الأمر بالتخيير، المتحيّر، و من تعارض لديه الخبرين، أو الفتويين، و بعد الأخذ بأحدهما يخرج عن التحيّر، و عمن تعارض لديه الخبران أو الفتويان.

و الحاصل انه لا يكاد يستفاد من الاخبار التخيير، و الإجماع: التخيير الاستمراري، و غاية ما يستفاد، هو التخيير الابتدائي فلا يجوز العدول من أحد الفقيهين المتساويين الى الأخر.

و لا يخفى ان هذا واضح ان قلنا بان التقليد عبارة عن الالتزام بقول الغير و عقد القلب عليه.

و اما ان قلنا بان التقليد عبارة عن الأخذ العملي، و العمل بأحدهما من باب

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 15.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 265

..........

______________________________

التسليم فعن العلامة الحائري قدس انه يستفاد من الأدلة جواز العدول.

و لكن فيه انه انما يتم إذا كان لدليل التخيير

إطلاق، و الا فان لم يكن له إطلاق أو كان الدليل لبيا، فلا يستفاد منه جواز العدول، و غايته، و القدر المتيقن منه هو الأخذ بما هو المتيقن منه، و هو التخيير الابتدائي، و قد أشرنا ان التخيير في الفتويين المتعارضتين مما عليه تسالم الأصحاب، و هو دليل لبى فلا يكاد يستفاد منه الا التخيير الابتدائي فبعد الأخذ بأحدهما، و العمل به لا دليل على بقاء التخيير.

الوجه الثاني: استصحاب الحجية التخييرية لفتوى من يريد العدول اليه.

و ذلك لان المكلف قبل الأخذ بفتوى أحد المجتهدين المتساويين كان مخيرا في الأخذ بأيهما شاء، و بعد الرجوع الى أحدهما يشك في بقاء حجية فتوى الأخر على حجيتها التخييرية، أو سقوطها عن الحجية و مقتضى الاستصحاب ان المكلف مخير بين البقاء على ما قلده و العدول منه الى المجتهد الأخر.

نوقش فيه أولا: بأنه كما قرر في محله انه يعتبر فى جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة، و المشكوكة، و لا يتحقق ذلك الا ببقاء الموضوع، و لم يحرز بقائه في المقام للشك في ان موضوع الحكم بالتخيير هل هو من لم يقم عنده حجة فعلية، أو هو من تعارض عنده الفتويان، فان كان الموضوع الأول فالظاهر ارتفاعه بالأخذ بإحدى الفتويين، و هو ظاهر، و ان قلنا بالثاني فواضح انه باق بالأخذ بفتوى أحدهما، و حيث انه لم يحرز ما هو الموضوع فلا يكاد يجرى الاستصحاب و السر في ذلك هو ان مستند التخيير في الأخذ بفتوى أحد المجتهدين المتساويين دليل لبى اما الإجماع، أو السيرة، أو تسالم الأصحاب فلا إطلاق له حتى يستظهر منه بقاء الموضوع «1».

و ثانيا: بأنه مع الغض عما ذكرنا يكون استصحاب الحجية التخييرية معارض باستصحاب الحجية الفعلية للفتوى المختارة لأن فتواه صارت حجة فعلية

بالالتزام بالعمل بها، و لا يعقل اجتماع الحجية الفعلية مع بقاء الطرف الأخر على الحجية التخييرية

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 120.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 266

..........

______________________________

و عن شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة في رد المعارضة: بأن استصحاب الحجية التخييرية حاكم على استصحاب الحجية الفعلية.

و لكن رد بأن الملازمة بين بقاء الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الثاني، و عدم الحجية الفعلية التعينية لفتوى المجتهد الأول، و ان كانت ثابتة الا انها عقلية لا شرعية، من باب ان وجود أحد الضدين ملازم لعدم الأخر عقلا للتضاد بين الحجية التخييرية لفتوى المجتهد الثاني مع الحجية الفعلية لفتوى الأول فليس عدم الحجية الفعلية من الآثار الشرعية لبقاء الحجية التخييرية حتى يكون استصحاب الثاني حاكما على الأول كما في استصحاب طهارة الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الماء المغسول به «1».

فتحصل مما ذكرنا: عدم تمامية ما استدل به لجواز العدول مطلقا فحان التعرض لما استدل به لعدم جواز العدول.

أدلة عدم جواز العدول يستدل لعدم جواز العدول بوجوه
الوجه الأول: ما حكاه المحقق القمي في القوانين

عن الموافق، و المخالف الإجماع على عدم جواز العدول، «2» و في بعض الحواشي عليه استفاضة نقل الإجماع على ذلك في لسان جماعة.

و فيه أولا: انه لا يلائم دعوى الإجماع مع ما أشرنا من ذهاب جمع من المحققين الى الجواز كالمحقق الأول، و العلامة، و المحقق، و الشهيد الثانيين، و واضح ان هؤلاء الأعاظم ممن يعتنى بخلافهم فالإجماع غير متحقق.

و ثانيا: كما قيل: انه لا سبيل الى استكشاف الاتفاق لان المسئلة لم تكن معنونة في كلام القدماء و انما هي حادثة من زمن المحقق، و العلامة.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 65.

(2) القوانين ج 2/ 264.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 267

..........

______________________________

و ثالثا: انه

إجماع منقول بخبر الواحد و قد تقرر في محله عدم حجيته فتأمل و رابعا: انه على فرض تحقق الإجماع منهم لا يكاد ينفع لما تقرر ان حجية الإجماع لاستكشافه رأى المعصوم عليه السّلام و لا يكاد يستكشف في مسئلة يعلم، أو يظن ان يكون مدرك المجمعين هو الوجه، أو الوجوه التي يستدل بها لعدم الجواز.

الوجه الثاني: ان القول بجواز العدول يستلزم العلم الإجمالي بالمخالفة القطعية في بعض الموارد

بل العلم التفصيلي في العملين المترتبين إذا قلد في أحدهما مجتهدا ثم عدل الى مجتهد أخر في الثاني.

و ذلك لان من قلد من يفتي بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ غير مريد للرجوع من يومه فقصر صلاته فاذا عدل عنه الى فتوى فقيه يفتي بوجوب التمام في المفروض فأتم صلاته فذلك منه يستلزم العلم الإجمالي ببطلان احدى الصلاتين- المقصورة، أو التامة.

فإذا وقع ذلك في العملين المترتبين بان قلد أحد الفقيهين، في أحدهما ثم عدل إلى الأخر في الثاني يعلم تفصيلا ببطلان الثاني.

و ذلك في المثال المفروض إذا قلد من يفتي بقصر الصلاة فصلى الظهر مثلا قصرا فاذا عدل عنه في صلاة العصر فقلد من يفتي بوجوب التمام، فيعلم فساد صلاة العصر تفصيلا، اما لاحتمال فساد الظهر فالعصر المترتب عليه لم يقع موقعه، أو لاحتمال فساد العصر في نفسه.

هذا حال العدول في بعض الموارد و بعدم القول بالفصل يعم سائر الموارد.

قلت: يمكن انتقاض ذلك بموارد وجوب العدول كما إذا فرض في المفروض انه كان المجتهد الثاني اعلم، أو ان المجتهد الأول مات، أو جن عليه، أو طرء عليه الفسق، الى غير ذلك من الأمور المعتبرة في مرجع الفتوى، أو عدل المجتهد عن فتواه بعد ما عمل المكلف على طبقها فان العدول في هذه الموارد واجب بلا اشكال فما يتفصى به

هناك عن الاشكال يتفصى به في المقام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 268

..........

______________________________

و حل الإشكال في جميع موارد العدول هو ان مقتضى القاعدة الأولية على القول بالطريقية كما هو الحق عند أصحابنا الإمامية هي إعادة الأعمال التي اتى بها على طبق فتوى السابقة، لأنه بالفتوى الثانية يستكشف عدم مطابقتها، و غايتها انه كان معذورا فيما اتى به على طبقها قبل كشف الخلاف.

نعم لو قام دليل عام على صحة ما اتى به، كما ادعى الإجماع على ذلك في الجملة، و سنشير إليه في ذيل مسئلة (53) فتنقلب القاعدة الأولية الى عدم الإعادة في الوقت، و عدم القضاء في خارجه من غير فرق بين كون العدول موجبا للعلم الإجمالي بل التفصيلي بالبطلان أم لا يستلزم شيئا منهما، لكفاية صحة الأعمال تعبدا في ترتب الأعمال اللاحقة المترتبة على صحتها فارتقب حتى حين.

اما لو نوقش في الإجماع، و لم يقم دليل عام على الاجتزاء بالأعمال السابقة فلا بد من ملاحظة دليل كل مورد بخصوصه، فان دل على الاجتزاء، فنقول بالكفاية و الا فلا.

و قد ورد في باب الصلاة صحيحة زرارة «1» نطاقها عدم إعادة الصلاة الا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، الركوع، و السجود.

فعلى مسلك المشهور من اختصاص لا تعاد بالناسي، فلا تنفع المقام، لأن الإخلال فيه لم يكن عن نسيان، بل كان عن عمد و التفات، مستندا إلى رأي المجتهد الأول.

نعم ان قلنا بشمول لا تعاد لموارد الجهل عن قصور- كما لا يبعد- إذا اتى بالعمل متقربا اليه تعالى، كما قرر في محله، و القدر المتيقن الخارج عن دليل لا تعاد صونا لدليل الجزئية، أو الشرطية، عن اللغوية هو خروج ترك

الاجزاء و الشرائط عمدا عن نطاق لا تعاد فيعم صورتي النسيان و الجهل القصورى.

______________________________

(1) و هي ما رواه زرارة عن ابى جعفر (ع) قال: لا تعاد الصلاة الأمن خمسة:

الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود. أوردها في الوسائل في أبواب متعددة بمناسبات، أورد تمامها في الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ح/ 14.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 269

..........

______________________________

فالقاعدة الثانوية في الصلاة تقتضي عدم الإعادة فضلا عن القضاء فيما إذا كان النقص فيها بسبب التقليد الأول في غير الخمسة المستثناة، و الإعادة في الخمسة المستثناة.

أما الإعادة في الخمسة فواضحة، و اما عدم الإعادة في غير الخمسة ففيما إذا كان عمله السابق مستندا الى فتوى المجتهد الأول فلوضوح ان المفروض من أظهر موارد الجهل القصورى.

هذا إذا كان في الوقت.

و اما القضاء فحيث انه بأمر جديد كما قرر في محله، و موضوعه، عنوان الفوت فان كان مستند فتوى الذي يريد العدول اليه امارة فحيث ان لوازم الامارة حجة فيثبت بذلك عنوان الفوت فيجب عليه القضاء.

و اما ان كان مستند فتواه غير الامارة، كما إذا شك في الإتيان و عدمه، كاستصحاب عدم الإتيان بالواجب و لا يكاد يثبت بذلك عنوان الفوت فلا يجب القضاء هذا.

و لا يخفى ان لا تعاد لا تكاد تنفع مسئلة القصر و التمام بل لا بد فيها من الإعادة في الوقت، فضلا عن القضاء خارجه إذا عدل الى من يفتي بوجوب التمام لان النقص في الركعتين، فيكون داخلا في الخمسة المستثناة.

فظهر مما ذكرنا ان غاية ما يقتضيه هذا الوجه هو لزوم الاحتياط و تكرار العمل الذي اتى به حسب فتوى المجتهد الأول لا عدم جواز العدول.

الوجه الثالث: و هو قريب من الوجه السابق و مقتبس منه أشار إليه المحقق الأصفهاني:

«و

هو ان العدول يستلزم أحد الأمرين على سبيل منع الخلو، و لا يمكن المساعدة على شي ء منهما، اما التبعيض في المسئلة الكلية، أو نقض آثار الأعمال السابقة إذا قلد المجتهد الثاني في المسئلة الكلية» «1».

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 270

..........

______________________________

و ذلك لان أحد المجتهدين في الفرض المتقدم إذا أفتى بوجوب القصر مثلا و الأخر بوجوب التمام فيه، فاذا قلد المكلف أحدهما فقصر صلاته، ثم عدل إلى الأخر، و أتم فيها، فاما نلتزم بصحة كلتا الصلاتين، حيث قلد أحد المجتهدين في واقعة من تلك المسئلة، و قلد الأخر في الوقائع المستقبلة منها و هو معنى التبعيض في المسئلة الكلية.

أو نلتزم ببطلان ما صلاه أولا فيجب عليه اعادة ما صلاه قصرا، و الالتزام بكل منها كما ترى.

و فيه: انه قد أشرنا ان هذا الوجه مقتبس من الوجه المتقدم فجوابه يظهر مما ذكرناه في دفعه، و حاصله:

ان مورد الفتوى دائما هو المسئلة الكلية دون كل جزئي من جزئياته، فلا يلزم من العدول، التبعيض في المسئلة الكلية.

نعم يلزم من العدول نقض آثار الوقائع المتقدمة، و لا مناص من الالتزام به لمخالفتها لما هو الحجة فعلا على المكلف، و قد أشرنا ان القاعدة الأولية تقتضي عدم الاجزاء، الا ان يقوم دليل على الاجزاء.

و بالجملة أحد الأمرين، و هو التبعيض في المسئلة الكلية غير لازم، و الأمر الأخر و هو بعض آثار الوقائع المتقدمة، و ان كان لازما، الا انه ليس في الالتزام به اى محذور كما هو الشأن في موارد العدول الواجب كما أشرنا.

الوجه الرابع: الاستصحاب.

تقريبه ان فتوى المجتهد الأول بأخذها، و الالتزام بالعمل بها صارت حجة فعلية في حقه

فان شك في كون الأخذ، و الالتزام علة لحجية فتواه حدوثا، و بقاء حتى يتعين البقاء على فتواه، أو انه علة لحجية فتواه حدوثا حتى لا يتعين عليه البقاء فمع الشك في ذلك يستصحب حجية فتواه الفعلية و نتيجة ذلك عدم جواز العدول الى المجتهد الأخر لأنه لا معنى لحكمين فعليين لشخص واحد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 271

..........

______________________________

و فيه: انه أشرنا في ذيل الوجه الثاني لجواز العدول بعض الكلام في عدم استقامة جريان هذا الاستصحاب للشك في بقاء الموضوع المعتبر إحرازه في جريان الاستصحاب، و معارضته باستصحاب الحجية التخييرية الثابتة قبل الأخذ بفتوى أحدهما

الوجه الخامس: قاعدة الاشتغال

هذا الوجه عمدة مستند القائل بعدم جواز العدول.

يمكن تقريبه على كل من مذهبي الطريقية، أو السببية و الموضوعية، في الطرق و الأمارات.

اما تقريب الاشتغال على القول بكون حجية الطرق و الأمارات من باب الطريقية، كما هو الحق من مذهب الإمامية فهو انه بعد تنجز أحكام الشريعة بالعلم الإجمالي يستقل العقل تحصيلا للمؤمن من العقاب بلزوم امتثالها، أو إتيان ما جعله الشارع مبرءا للذمة تعبدا.

و لا إشكال في مفروض المقام في حجية فتوى المجتهد الأول الذي أخذ فتواه و الشك انما هو في كونها حجة تعيينية في حق المكلف، أو تخييرية فالعمل بفتواه مبرء للذمة بخلاف العمل بفتوى المجتهد الثاني فإنه مشكوك فيه فيكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و قد تقرر في محله ان العقل يحكم بلزوم الأخذ بمحتمل التعيين و هو في المقام ليس الا فتوى المجتهد الأول.

و اما تقريب الاشتغال على القول بكون حجيتها من باب السببيّة و الموضوعيّة فلان الفتويين المتعارضتين تدخلان في باب التزاحم،

و العقل يحكم في المتزاحمين كإنقاذ الغريقين بالجمع بينهما مهما أمكن، فان لم يقدر على الجمع بينهما فالواجب الأخذ بما هو أهم ان كان معلوما، أو ما هو محتمل الأهميّة، و الا فالتخيير.

ففي المقام حيث ان الفتويين متعارضتان لا يتمكن من امتثالهما معا فالواجب الأخذ بأحدهما، و حيث ان فتوى المجتهد الأول محتمل الأهمية فيتعين الأخذ بها.

و بعبارة أخرى المكلف في الحكمين المتعارضين لما لم يتمكن من امتثالهما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 272

..........

______________________________

معا لم يمكن التحفظ على إطلاق خطابيهما، و حيث انه متمكن من امتثال أحدهما فلا موجب لكلا الخطابين على سبيل الإطلاق، بل لزم التحفظ على إطلاق الخطاب في أحدهما إذا كان مهما، أو محتمل الأهمية، أو لزوم تقييد إطلاق كل منهما بعدم الإتيان بالآخر لو لم يكن أحدهما كذلك.

و في المقام حيث ان فتوى المجتهد الأول محتمل الأهمية فيؤخذ بإطلاقه و يقيد بذلك إطلاق فتوى المجتهد الثاني.

فظهر مما تقدم عدم تمامية ما استدل به لجواز العدول و لم تخلو الوجوه التي استدل بها لعدم جواز العدول عن إشكال إلا هذا الوجه فقاعدة الاشتغال تقتضي عدم جواز العدول فالأحوط الأقوى هو عدم جواز العدول من مجتهد حي إلى مجتهد مساو له في الفضيلة.

هذا كله في جواز العدول من حي إلى حي.

حكم العدول عن الحي إلى الميت له صور يختلف الحكم بحسبها

اشارة

بقي الكلام فيما إذا عدل عن الميت إلى الحي فهل له العدول الى الميت أم لا؟.

فنقول لا يخفى انه لا يصح الاتكال و الاستناد بآراء المجتهد بعد موته للشك في حجيتها بعد ما عرفت من اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى فلا بد من المراجعة الى من تكون فتواه حجة في حقه من الأحياء، فهو اما يكون

مساويا للميت من حيث الفضيلة، أو يكون اعلم منه، أو بالعكس.

فان كان الميت اعلم و قلنا بوجوب تقليد الميت عند العلم بالمخالفة بينهما، كما سيمرّ بك، و جوزنا تقليد الميت فكان الواجب عليه البقاء على تقليد الميت فعدوله إلى الحي بلا وجه و غير واقع محله فعليه العدول الى الميت الأعلم.

و ان كان الحي اعلم فيجب تقليده و لا يجوز العدول منه الى الميت.

و ان كانا متساويين فقد تقدم آنفا ان الأحوط الأقوى عدم جواز العدول من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 273

..........

______________________________

أحد المجتهدين المتساويين الى الأخر إذا كانا حيين فما ظنك فيما إذا كان المعدول اليه ميتا.

و قد تقدم عدم تمامية الوجوه التي استدل بها لعدم جواز العدول من أحد المجتهدين المتساويين الحيين الى الأخر سوى قاعدة الاشتغال.

وجهان لعدم جواز العدول عن الحي إلى الميت
اشارة

و لكن ربما يوجه عدم جواز العدول من الحي إلى الميت في المفروض بوجهين.

الوجه الأول: ما في المستمسك من انه من التقليد الابتدائي الذي قام الإجماع على المنع عنه «1».

و ربما يوجه ذلك بأنه ان قلنا بان التقليد هو الالتزام كما ذهب اليه الماتن (قدس سره) فظاهر لان المكلف بعد رفع اليد عن الالتزام بقول الميت و الالتزام بقول الحي يكون مقلدا له فيكون رجوعه الى الميت بعد ذلك تقليدا ابتدائيا.

و اما ان قلنا بان التقليد هو العمل المستند بفتوى الغير و قلنا بكفاية الرجوع في جواز البقاء فلان مجرد الالتزام بفتوى الحي من دون ان يعمل على طبقه لا يوجب صدق العدول فلا يضر ببقائه و تقليده السابق فلا يكون رجوعه اليه تقليدا ابتدائيا.

الا ان يقال بكفاية الالتزام بفتوى الحي في صدق العدول الى الميت و لا يعتبر في تحقق التقليد في صدق مفهوم العدول فيكون الرجوع الى الميت رجوعا ابتدائيا لرفع اليد عن التزامه السابق.

الوجه الثاني: ان حجية فتوى الميت بعد العدول منه الى الحي مشكوكة و الأصل عدمها.

و لكن الذي يقتضيه النظر عدم تمامية الوجهين:

اما الوجه الأول: فواضح لان التقليد الابتدائي عبارة عما إذا لم يراجع

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى/ ج 1/ 24.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 274

..........

______________________________

و لم يسئل عن حكم المسئلة قبل موت المجتهد، أو لم يعمل برأيه قبل موته بناء على اعتبار العمل في جواز البقاء و المفروض خلافه لأنه كان مقلدا له بأي معنى فرض ثم رجع منه الى الحي فلم يكن عدوله الى الميت تقليدا ابتدائيا، و لعله واضح.

و اما الوجه الثاني: فلان مقتضى الأصل في المفروض بناء على جريانه هو استصحاب الحجية كما لا يخفى.

الا ان يرجع الى أصل الاشتغال من باب دوران الامر بين التعيين و التخيير و هو الذي ذهبنا إليه في عدم جواز العدول من الحي إلى الحي فتدبر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 275

[مسئلة 12- تقليد الأعلم]

اشارة

مسئلة 12- يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط (1) و يجب الفحص عنه (2)

______________________________

(1) بل على الأقوى فيما إذا علم بوجود الأعلم خارجا- و لو إجمالا- أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم، و علم مخالفة فتواه مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و كانت فتوى الأعلم، أو محتمل الأعلمية موافقة للاحتياط بالنسبة إلى فتوى غير الأعلم، فإذا لم يعلم بوجود الأعلم، أو لم يعلم مخالفته معه على تقدير وجوده، أو على تقدير مخالفته تكون فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط فلا يجب تقليد الأعلم، و الظن بالأعلمية أو بالمخالفة، ان كان معتدا به فملحق بالعلم، و الا فملحق بالاحتمال.

(2) في إطلاقه منع، و انما يجب الفحص إذ أعلم، أو قامت الحجة على وجود الأعلم، و لو إجمالا، أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم و علم مخالفة فتواه مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و عدم موافقة فتوى غيره للاحتياط بالإضافة إليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 276

..........

______________________________

أقول: توضيح المرام في هذه المسئلة يستدعي البحث عن جهات.

الجهة الأولى تصويران لاعتبار الأعلمية

اشارة

ان اعتبار الأعلمية، و تقديم الأعلم على غيره يتصور على نحوين.

الأول: ان يراد انحصار الحجية في كل عصر و زمان بشخص واحد و هو الأعلم.

الثاني: ان يراد ترجيحه على غيره عند التعارض.

و بعبارة أخرى عند تعدد الفقهاء و اختلافهم في الفضيلة هل لا تكون فتوى المفضول حجة أصلا بحيث يكون ترجيح نظر الفاضل عليه من باب ترجيح الحجة على غير الحجة، أو يكون لفتواه حجية ذاتية، و لكن يرجح نظر الفاضل عليه نظير تقديم أحد الخبرين المتعارضين حيث انه من باب ترجيح أقوى الحجتين على الأخرى.

و لا يخفى ان اعتبار الأعلمية على

النحو الأول يرتضع من ثدي الإمامة، و من فروعها بلحاظ ان الفقيه واسطة بين الامام المعصوم عليه السّلام، و بين الأمة الإسلامية، كما ان الامام عليه السّلام واسطة بين النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و بينهم و قد نصب الامام عليه السّلام الفقيه مقام نفسه كما نصب النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله الامام بعده.

فكما ان الحجة في كل عصر منحصرة بإمام معصوم واحد فليكن الأمر في المفتين، و المجتهدين كذلك، فتكون الحجة من بينهم منحصرة بشخص واحد منهم و هو أعلمهم و رأى غيره ليس بحجة، فتكون الأعلمية من مقومات الحجية.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 277

..........

______________________________

فعلى هذا لا يكون رأى غير الأعلم حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى نفسه فلا يجوز للمجتهد المفضول اتباع نظر نفسه، بل يجب عليه اتباع نظر الأعلم، كما هو الشأن في مجتهدى عصر الامام عليه السّلام حيث يجب عليه اتباع نظره عليه السّلام و لا يجوز مخالفته باتباع نفس نظره.

و بالجملة لا يجوز لأحد و لو كان مجتهدا التخطي عن رأي الأعلم.

لا يمكن ارادة المعنى الأول في مرجع الفتوى

و الذي يقتضيه النظر و التأمل هو عدم إمكان المساعدة على ارادة هذا المعنى لعدم دلالة دليل من آية، أو رواية، أو عقل، على ذلك، و يبعد جدا ان يكون ذلك مراد الأصحاب بل المعلوم خلافه.

و كم فرق بين الامام المعصوم عليه السّلام و المجتهد لان المجتهد المخالف للأعلم يرى خطأ الأعلم و هو بمكان من الإمكان بخلاف المخالف نظره للإمام عليه السّلام- لو فرض- فإنه يقطع بخطاء نفسه واقعا، و كيف يعقل تكليف من يرى خطأ غيره. و لو كان اعلم، و يؤمر باتباعه و لعله واضح إلى

النهاية.

تقريب كون المراد بالأعلمية المعنى الثاني

و من القريب جدا بل من المعلوم من أصول المخطئة ان يكون مرادهم باعتبار الأعلمية اعتبارها من حيث المرجحية، و هو الحق لأن رأي كل منهما أمارة إلى الحكم الواقعي المجعول غاية الأمر يرجح رأى الأعلم على غيره حال المعارضة.

يشهد لذلك بأنه لو لم يكن لرأي المفضول أمارية و كاشفية لم يكن للمراجعة اليه، عند فقد نظر الفاضل، وجه، و يكون المراجعة اليه، و المراجعة إلى الجاهل سيان، مع ان الوجدان و العقل اصدقا شاهد على خلافه.

فلرأى كل منهما كاشفية و طريقية و حجية، غاية الأمر لا يكون رأى المفضول مع رأى الفاضل حجية فعلية بل حجية شأنية، و الحجة الفعلية انما هي رأي الفاضل فيكون وزان تقديم الأعلمية وزان تقديم أحد الخبرين على الأخر فكما يؤخذ بذي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 278

..........

______________________________

المزية منهما، و يقدم على الأخر الفاقد لها فكذلك يؤخذ برأى الفاضل و يقدم على رأى المفضول.

فعلى هذا يكون لكل من نظري الفاضل، و المفضول كاشفية ذاتية غاية الأمر تكون رأى الفاضل حجة فعلية و رأى المفضول عند ذلك حجة شأنية، و لذا يرجع اليه عند فقد الفاضل، أو خروجه عن صلاحية التقليد، و لا يرون لرأيه عند ذلك الا ما كان لرأي الفاضل من الكاشفية.

و بما ذكرنا يندفع ما ربما يتوهم ان وزان فتوى المفضول عند المعارضة مع فتوى الفاضل وزان الأصل مع الامارة فكما لا مورد للأصل عند الامارة فكذلك لا يكون لرأي المفضول حجية شأنية عند ذلك.

توضيح الدفع: ان كاشفية فتوى كل من الفاضل، و المفضول كشفا ناقصا مما هو ذاتي لهما، و لا معنى لإعطاء الكاشفية لما لم تكن واجدة لها

بخلاف الأصل فإنه وظيفة شرعت عند فقد الدليل الاجتهادي، و الامارة.

الجهة الثانية في الأقوال في لزوم تقليد الأعلم و عدمه

اختلفوا في لزوم تقليد الأعلم، و عدمه على أقوال.

حكى القول بوجوب تقليد الأعلم عن جملة من كتب الأصحاب. كالمعارج و الإرشاد، و النهاية، و التهذيب، و الدروس، و القواعد، و الذكرى، و الجعفرية، و جامع المقاصد، و تمهيد القواعد، و المعالم، و الزبدة، و حاشية المولى صالح على المعالم.

و قال شيخنا العلامة الأنصاري المشهور على تعين العمل بقول الأعلم، بل لم يحك الخلاف فيه عن معروف «1».

بل عن النهاية انه كلام من وصل إلينا كلامه، و عن المحقق الثاني التصريح

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 76.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 279

..........

______________________________

بدعوى الإجماع عليه، و عن ظاهر علم الهدى في الذريعة كونه من مسلمات الشيعة، و عن منية الشهيد الثاني انه لا يعلم في ذلك خلافا.

و لكن عن جماعة ممن تأخر عن الشهيد الثاني التخيير بين الفاضل، و المفضول وفاقا للحاجبى، و العضدي، و القاضي، و جماعة من العامة، و حكى استظهاره من صاحب الفصول.

لم استحضر مقالة هؤلاء القائلين بوجوب تقليد الأعلم حتى يعلم أنهم قائلون بذلك مطلقا، أو في خصوص ما إذا علم تفصيلا اختلاف فتوى الفاضل و الأفضل، أو بالأعم مما علم تفصيلا أو إجمالا.

ثم انه لم يعلم ان القائلين بالوجوب في صورة اختلاف الفتوى تفصيلا أو أو إجمالا هل يوجبونه مطلقا حتى فيما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة للاحتياط، أو مخالفة للمشهور أو للأعلم منهما من الأموات و الأحياء أو خصوص ما إذا كانت فتوى الأعلم موافقة للاحتياط، أو للمشهور، أو للأعلم منهما.

و كيف كان حدثت، في الأدوار المتأخرة و فيما قارب عصرنا بل في عصرنا هذا أقوال

عديدة و إليك الإشارة إلى عمد الأقوال في المسئلة.

فمنهم: من ذهب الى وجوب تقليد الأعلم مطلقا.

و منهم: من أوجبه عند العلم بمخالفة فتواه لفتوى غيره تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها.

و منهم: من احتاط لزوما تقليد الأعلم مطلقا مع الإمكان و أوجب الفحص عنه و منهم: من احتاط فيما إذا علم بوجود الأعلم، و مخالفته مع غيره فيما هو محل الابتلاء، و عدم موافقة غيره للاحتياط.

و منهم: من ذهب الى التخيير بين الأعلم و غيره.

الى غير ذلك من الأقوال التي يجدها المتتبع.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 280

الجهة الثالثة فيما يقتضيه عقل العامي في نفسه- من غير تقليد في المسئلة- و ان وظيفته هل هي الرجوع الى الأعلم أو مخير بين الرجوع اليه و الرجوع الى غير الأعلم.

اشارة

______________________________

قد أشرنا عند قول الماتن في المسئلة الاولى: يجب على كل مكلف إلخ:

أن مسئلة التقليد، و رجوع الجاهل الى العالم أمر فطري لا سبيل للتقليد فيها، و نقول هنا أيضا ان من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، و ان بلغ من العلم ما بلغ فأول ما يدركه عقله بعد لزوم المراجعة إلى العالم، و الفقيه و ما يلزمه فطرته السلمية عن التشكيكات المدرسى هو الرجوع الى الأعلم، و يرى بحسب فطرته ان آراء الأعلم أقرب الى الواقع من غيره، بل يرى نفسه في خطر عظيم إذا لم يؤد وظيفته على طبق آراء الأعلم، و لعمر الحق انه واضح لا سترة فيه بل جار في جميع أموره المهمة: دنيوية كانت أم أخروية.

و ان كنت مع ذلك في شك مما ذكرنا فاختبر عقلاء قومك و ملتك الذين لم يشب أذهانهم بالتشكيكات المدرسية فترى بنائهم العملي على ما ذكرنا، بل ينادونك، و يناجونك بما اوعزناه فتدبر:

و لتوضيح المقال بنحو لا يشوبه شك نشير الى ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) و وافقه بعض الأساطين دام

ظله.

بيان من المحقق الأصفهاني في حكم عقل العامي بلزوم تقليد الأعلم

و هو انه لو التفت من لم يبلغ درجة الاجتهاد الى تنجز الأحكام الشرعية عليه بالعلم الإجمالي، و انه ليس بمطلق العنان في أفعاله و تروكه قبال تلك الأحكام، و بعد عدم وجوب الاحتياط، أو عدم جوازه، لا طريق له الى امتثالها لا بآراء المجتهدين و لو بملاحظة بناء العقلاء على الرجوع الى أهل الخبرة فيستقل عقله بلزوم تقليد الأعلم خصوصا عند العلم بمخالفة فتوى الأعلم مع غيره لدوران الأمر عند ذلك بين التعيين و التخيير في الحجية، و العقل يستقل بلزوم ترجيح محتمل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 281

..........

______________________________

التعيين «1».

فتحصل ان عقل غير البالغ درجة الاجتهاد يستقل بلزوم المراجعة الى من يقطع بحجية رأيه و هو الأعلم عند دوران الأمر بين فتواه و فتوى غيره المعارضة لرأيه- سواء استند في مشروعية التقليد الى عقله الارتكازي، أو بناء العقلاء، أو دليل الانسداد- و اما الرجوع الى غيره فمشكوك فيه فلا يغني من الحق شيئا، و ليس كل ذلك تقليدا، و الا لزم الدور و هو ظاهر.

و لا يخفى انه بعد المراجعة إلى الأعلم ان كانت فتواه جواز تقليد غير الأعلم فيصح له تقليده عند ذلك، و كم فرق بين الحالتين كما لا يخفى على اللبيب.

الجهة الرابعة فيما يقتضيه وظيفة المجتهد حسبما يتظهره من الأدلة العقلية و النقلية في الإفتاء بلزوم تقليد الأعلم أو جواز تقليد غيره.

اشارة

قبل ذكر أدلة كل من القائلين بلزوم تقليد الأعلم، أو جواز تقليد غيره نشير الى ما تقضيه القاعدة، و الأصل الاولى في المسئلة لو لم يتم شي ء من أدلة الطرفين.

و حيث ان باب التقليد و أخذ الفتوى من المجتهد عند أصحابنا الإمامية ليس من باب السببية، و لم يحدث بأداء نظر المجتهد الى وجوب شي ء، أو حرمته مثلا مصلحة ملزمة، أو مفسدة كذلك في

المؤدى، بل غاية ما هناك هي ان آراء المجتهد طرق إلى الأحكام الواقعية، كما هو الشأن في سائر الطرق، و الأمارات المعتبرة، و ليس لها الا التنجيز في صورة الإصابة، و التعذير عند المخالفة.

فعلى هذا لا يهمنا تقرير الأصل على السببية فنقتصر على تقريره على الطريقية فنقول:

ان الأصل قد يقرر تارة بنحو ينتج عدم لزوم تقليد الأعلم، بل يكون مقتضاه التخيير بين الأخذ بفتوى الأعلم، و بين فتوى غيره.

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 33- التنقيح ج 1/ 134.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 282

..........

______________________________

و اخرى بنحو ينتج لزوم الأخذ بفتوى الأعلم فالكلام يقع في موردين.

المورد الأول في تقرير الأصل بنحو لا يوجب الأخذ بفتوى الأعلم و ذلك بتقربين.

التقريب الأول: هو انه إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة لا ثالث لهما يحكم العقل بعد عدم وجوب الاحتياط، أو عدم جوازه بتخيير العامي في الأخذ بفتوى أيهما شاء فبعد الأخذ، و العمل بفتوى أحدهما لو صار الأخر اعلم يشك في بقاء التخيير و عدمه، فيستصحب، و بالقول بعدم الفصل يتم التخيير في غير المفروض و حكم العقل في دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و ان كان بالتعيين- و هو الأخذ بفتوى الأعلم في المفروض- الا انه إذا لم يكن هناك دليل على التخيير، و استصحاب التخيير كما ذكرنا حاكم عليه.

و فيه أولا: ان حكم العقل بالتخيير انما هو بمناط تساويهما في الفضيلة، و لذا لو كانت لأحدهما مزية، أو محتمل المزية لا يكاد يحكم العقل بالتخيير، و هو واضح.

و غاية ما يستفاد من قانون الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع هو استكشاف الحكم الشرعي على العنوان الذي حكم به العقل لا أزيد.

نعم يحتمل طرو ملاك للتخيير في الشرع عند زوال ملاك

العقل، و لكن لا دليل على إثباته، لأن استصحاب شخص الحكم السابق لا يجري لأن الحكم الشرعي المنكشف انما هو على عنوان المتساويين، و قد زال.

و استصحاب الكلى- و هو الجامع بينهما- غير مفيد لما ذكرنا من ان استصحاب الكلى القسم الثالث و ان كان جاريا في نفسه الا انه لا بد و ان يكون حكما شرعيا، أو موضوعا لذي حكم شرعي، و من الواضح ان الجامع بين الحكمين لم يكن حكما شرعيا و لا موضوعا لحكم شرعي بل أمر انتزاعي اختراعى، و الحكم المنكشف شرعا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 283

..........

______________________________

هو حكم واحد لعنوان المتساويين.

و بما ذكرنا يظهر ان استصحاب الكلي إذا لم يكن حكما شرعيا، و لا موضوعا لذلك لا يكاد يجرى، سواء كان من استصحاب القسم الأول، أو الثاني، أو الثالث و ثانيا: لو سلم جريان هذا الاستصحاب لأمكن ان يقال من طرف المقابل بنحو أخر ينتج عدم التخيير.

و ذلك لأنه عند انحصار المجتهد في شخص واحد، يجب تقليده متعينا و لم يجز له تقليد غيره فبعد ان ترقى و صار غير المجتهد، مجتهدا، و مساويا لآخر في الفضيلة يشك في كون المقلد مخيرا عند ذلك أم لا، لاحتمال تعيّن فتوى المجتهد السابق في حقه فيستصحب لزوم المراجعة على المجتهد السابق، و يتم في غيره بالقول بعدم الفصل.

و ثالثا: انه لا معنى، و لا وجه للتمسك في المسئلة العقلية بالقول بعدم الفصل و لعله واضح.

التقريب الثاني: هو انه لو انحصر المجتهد- العياذ باللّه- في الخارج بشخص واحد يتعين على العامي تقليده، فلو وجد مجتهد أخر فصار اعلم من المجتهد الذي تعين على العامي تقليده، فيشك في

بقاء وجوب المراجعة إليه فيستصحب بقاء التعين و لا يجب تقليد الأعلم و يتم في غير الفرض بالقول بعدم الفصل.

يظهر النظر: في هذا التقريب مما ذكرناه في تضعيف التقريب المتقدم من تبدل الموضوع، لان وجوب المراجعة اليه كان بملاك انحصار المجتهد به، و قد وجد مجتهد أخر أعلم منه فالموضوع غير باق فلا معنى لاستصحاب تعيّن البقاء على ما كان بعد وجود مجتهد آخر اعلم منه، مع انه كما أشرنا لا وجه للتمسك في المسئلة العقلية بمثل القول بعدم الفصل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 284

المورد الثاني في تقرير الأصل بنحو ينتج لزوم الأخذ بفتوى الأعلم و ذلك أيضا بتقريبين.

______________________________

التقريب الأول: هو انه لا ينبغي الإشكال في ان جميع الناس مكلفون بالأحكام الواقعية، فلا بد من امتثالها بنحو يعلم تفصيلا فراغ العهدة عنها أو يظن بالظن الاطمئناني كذلك- الذي هو كالعلم- بل هو العلم عرفا، أو العلم إجمالا بالاحتياط و لا يجوز التنزل، و الاكتفاء بغيرها في مقام الامتثال الا مع قيام الدليل عليه.

و حيث قام الإجماع، و الضرورة على عدم لزوم الامتثال التفصيلي بقسميه، بل الإجمالي أيضا حفظا للنظام، بل يصح ان يقال بعدم الجواز لاستلزامه اختلال النظام كما لا يخفى، مع ما نشاهده من معهودية مراجعة الجاهل الى العالم المتلقاة يدا عن يد، و خلفا عن سلف الى عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و بعد المعهودية في عصرهم، و عدم الردع منهم، يستكشف رضاهم به، فلو شككنا في اعتبار الأعلمية في ذلك، بلحاظ انه قد يقال ان القدماء الى زمان الشهيد (قدس سره) قائلون بوجوب تقليد الأعلم، و القول بالتخيير بينه، و بين غير الأعلم وليدة الأعصار المتأخرة.

فاذا القدر المتيقن من الخروج عن حرمة العمل بالظن هو العمل بفتوى الأعلم و

اما فتوى غيره فمشكوك فيه، فقاعدة الاشتغال تقضى بلزوم الفراغ اليقيني عما اشتغلت ذمته كذلك، و ذلك لا يكون الا بالعمل بفتوى الأعلم.

التقريب الثاني: هو ان المكلف بعد ما اشتغلت ذمته بالتكليف لا بد و ان يأتي بعمل يصلح للاحتجاج به على مولاه، و بعد عدم وجوب الامتثال التفصيلي، و الإجمالي بل بطلانهما يدور امره بين كون فتوى الأعلم هو الحجة متعينا أو انه أحد فردي الحجة مخيرا، و القول الأخر فتوى المفضول، فالاحتجاج بفتوى الأعلم معلوم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 285

..........

______________________________

و يقيني بخلاف الاحتجاج بفتوى المفضول، فإنه مشكوك فيه، و كلما دار الأمر بين التعيين، و التخيير في مقام الإطاعة، و الامتثال، و سقوط التكليف الثابت فالعقل يحكم بالأخذ بما يحتمل التعيين، خصوصا بالنسبة إلى الطريق هذا.

فتحصل مما ذكرنا انه لو وصلت النوبة إلى الشك في اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى فمقتضى الأصل لزوم الأخذ و العمل بفتوى الأعلم.

الجهة الخامسة في ذكر أدلة الطرفين

اشارة

و الكلام يقع في موردين.

المورد الأول في ذكر ما استدل، أو يمكن ان يستدل به لجواز الرجوع الى المفضول مع وجود الأفضل.
اشارة

و ذلك من وجوه.

الوجه الأول: الآيات المباركات.
منها قوله تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ «1».

تقريب الدلالة هو ان اختلاف أهل الذكر، و العلماء في الفهم و الفتوى كثير شائع، و تساويهم من حيث الفهم، و العلم، و اتفاقهم في الآراء قليل نادر، و المسئول في الآية الشريفة، إما جميع أهل العلم، أو الواحد المعين منهم، أو الواحد غير المعين، و ارادة الأول مقطوع البطلان، و هو أوضح من ان يخفى، و لم يفهم العرف بل و لا أحد هذا المعنى من الآية، و اما الثاني، أو الثالث، فغير مراد كما لا يخفى، فاذا المراد بالاية الشريفة السؤال عمن شاءوا من أهل العلم و الذكر، فإطلاق الآية تقتضي بجواز الرجوع الى كل من كان من أهل الذكر، سواء كان غيره

______________________________

(1) الأنبياء: 21/ 7- النحل: 16/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 286

..........

______________________________

أفضل منه، أولا، كانا مختلفين في الفتوى أم لا.

و فيه: انه بعد الغض عن بعض المناقشات في الآية الشريفة:- من اختصاص أهل الذكر ببني إسرائيل بلحاظ سياق الآيات، فلا يعم غيرهم، أو اختصاصه بأئمة أهل البيت عليهم السّلام بلحاظ الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت فلا يشمل غيرهم، أو بلحاظ ان موردها النبوة، و هي أصل من أصول الدين بل من أساسها و لا بد فيها من العلم و المعرفة فلا تدل على المراجعة إلى الفقيه في الفروع الفقهية- فغاية ما يستفاد منها- كما أشرنا في الاستدلال بها لمشروعية التقليد- هي ان للجاهلين المراجعة الى أهل العلم و المعرفة، و العمل على طبق آرائهم، نظير ما يقال: ان المريض لا بد له و ان يرجع الى الطبيب، و لا إطلاق لها بالنسبة

إلى صورة اختلاف أهل النظر فضلا عما إذا تعارض نظر الأفضل مع الفاضل.

و بالجملة الآية الشريفة بصدد إفهام المعنى العرفي الارتكازي، و هو رجوع الجاهل بكل حرفة، أو صنعة إلى العالم بها، فليس لها إطلاق يشمل صورتي المخالفة في الفتوى، و الفضيلة أيضا.

و منها آية النفر

تقدم ذكر الآية الشريفة، و تقريب دلالتها، و ما يتعلق بها عند بيان مشروعية التقليد/ 148 و حاصله:

انها تدل على وجوب التحذر العملي عند إنذار المنذر مطلقا سواء حصل له العلم بإنذار المنذر أم لا، و سواء كان هناك من هو اعلم منه أم لا.

و لكن أشرنا: ان الظاهر من الآية الشريفة هو التحذر النفساني من إنذار المنذر و تخويفهم عباد اللّه عن الجحيم، و نيرانها، و حيّاتها، و عقاربها، و لا يكاد يحصل الانذار بمجرد الفتوى و الاخبار، و قد أيدنا المقال بما افاده سيد مشايخنا (قدس سره) في حقائق الأصول فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 287

..........

______________________________

و بما ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال للمدعي بايتى الكتمان و الشهادة «1» فلا يهم ذكره، و من أراد فليلاحظ المفصلات.

الوجه الثاني: الروايات
اشارة

فمنها: مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاث محل الاستشهاد قول ابى عبد اللّه عليه السّلام.

من كان منكم ممن روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فانى قد جعلته عليكم حاكما الرواية «2».

فقد دلت على نفوذ حكم من كان راويا لأحاديثهم و ناظرا في حلالهم، و حرامهم و عارفا بأحكامهم و مقتضى إطلاقها نفوذ حكمه و ان كان هناك من هو أفضل منه و في ذيل المقبولة قيّد إطلاق الصدر في صورة اختلاف الحكمين، بترجيح ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و عدم الالتفات الى ما حكم به الأخر ففي غير صورة الاختلاف في الحكم يكون إطلاق الصدر محكما فيستفاد منه عدم اعتبار الأعلمية في نفوذ الحكم.

و مورد المقبولة و ان كان القضاء، و فصل الخصومة، الا ان

الحكم و القضاء تارة يكون في الموضوعات، و اخرى في الأحكام و هي كثيرة فللمقبولة إطلاق يشمل اعتبار الحكم في الشبهات الحكمية بل يمكن ان يقال ان ظاهر قوله عليه السّلام حكم بحكمنا

______________________________

(1) المراد باية الكتمان قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ، وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. البقرة:

2/ 159.

و المراد باية الشهادة قوله تعالى وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ البقرة: 2/ 140، و قوله عز من قائل وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ، وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. البقرة: 2/ 182.

(2) أو رد صدرها في الوسائل في باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

و ذيلها في باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 288

..........

______________________________

إلخ. ظاهر في الشبهات الحكمية، و الشبهات الحكمية هي التي تكون أمرها، و رفع الشبهة عنها بيد الحاكم، فدلت على نفوذ حكم الحاكم فيما يرجع اليه و لو في الشبهات الحكمية التي استنبطها.

و لازم نفوذ حكم الحاكم نفوذ فتواه المستندة لحكمه ضرورة انه لا معنى لاعتبار الحكم دون مستند الحكم.

فبعد حجية فتوى الحاكم في باب القضاء يمكن تعميم حجية فتواه في غير باب القضاء اما بتنقيح المناط، و إلغاء خصوصية باب القضاء أو الأولوية القطعية.

و ذلك بدعوى ان العرف لا يرى خصوصية باب القضاء في نفوذ فتواه نظير إلغاء خصوصية الرجولية في قوله عليه السّلام: الرجل يشك بين الثلاث و الأربع مثلا و تعميم حكم الشك لكل من الرجل و المرية.

بل يمكن ان يقال: ان فتوى الحاكم

لو كانت حجة فيما يرتبط بحقوق الناس فاعتباره فيما يرجع الى حقوق اللّه اولى.

و لك ان تستفيد التعميم من قوله عليه السّلام فاذا حكم بحكمنا إلخ فإن الظاهر منه ان مقتضى حكمهم، و فتويهم بلحاظ كونهم عارفين بأحكامهم، و ناظرين في حلالهم و حرامهم فجعل نظرهم، و رأيهم طريقا الى حكمهم فيعم اعتبار فتويهم في غير باب القضاء.

أضف الى ذلك انه بمناسبة ذيل المقبولة حيث أنفذ حكم الأعلم عند الاختلاف في الحكم، يمكن ان يستفاد ان لقوله عليه السّلام في الصدر: من كان منكم إلخ إطلاق يشمل نفوذ حكم من كان كذلك و ان كان هناك من هو اعلم منه.

هذا غاية التقريب في المقبولة لعدم اعتبار الأعلمية في نفوذ الحكم و الفتوى و لكن ناقش بعض الأساطين دام ظله بضعف السند بلحاظ ان عمر بن حنظلة لم يرد في حقه توثيق، و لا مدح، و ان سميت روايته هذه بالمقبولة، و كأنها مما تلقته

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 289

..........

______________________________

الأصحاب بالقبول، و ان لم يثبت هذا أيضا «1».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 289

و لكن في النفس فيما افاده نظر فعن شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في شرح الدراية: ان عمر بن حنظلة و ان لم ينص الأصحاب فيه بجرح و لا تعديل و لكن امره عندي سهل لأني حققت توثيقه من محل أخر و ان كانوا قد أهملوه «2».

و في وجيزة شيخنا العلامة المجلسي (قدس سره): انه ممدوح و قد

وثقه الشهيد الثاني «3».

و قد ترجمه العلامة المامقاني (قدس سره) مفصلا، و ذكر بعض روايات تدل على وثاقة الرجل و مؤيدات لذلك الى ان قال الأقوى وثاقة الرجل «4».

و ذكر العلامة التستري دامت بركاته روايات يمكن إثبات وثاقة الرجل الى ان قال. و قبول الأصحاب روايته ثم قال: و مستند خيار الرؤية منحصر بروايته، و قد روى في كيفية الترجيح بين الخبرين المتعارضين وجوها لم يروها غيره «5».

و لا يخفى انه يكفى في اعتبار الرواية تلقى الأصحاب إياها بالقبول، و اشتهارها عندهم بالمقبولة.

أضف الى ذلك وقوع صفوان بن يحيى في سندها، و هو من أصحاب الإجماع مع انه قد عرفت منا عدم الاحتياج إلى ملاحظة سند رواية واقعة في مثل الكتب الأربعة و قد رواها المشايخ الثلاثة في الكافي، و الفقيه و التهذيب.

فالرواية من حيث السند لا غبار عليها كما عليه الأصحاب هذا ما يتعلق بسند المقبولة.

و اما دلالتها فلا ينبغي الإشكال في دلالة المقبولة على نفوذ حكم الحاكم في

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 143.

(2) تنقيح المقال ج 2/ 342.

(3) الوجيزة/ 78.

(4) تنقيح المقال ج 1/ 342.

(5) قاموس الرجال ج 7/ 183/ 184.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 290

..........

______________________________

كل من الشبهات الموضوعية، و الحكمية و مقتضاها كما ذكر حجية فتواه المستندة للحكم، و لكن التعميم لحجية فتوى الفقيه بأحد الأنحاء المذكورة مشكل، و تخرص بالغيب لعدم العلم بملاكات الأحكام لغير علام الغيوب، و من خصّهم بمعرفتها مع ما ترى من الاختلاف في المتشابهات، و الجمع بين المتخالفات ا لا ترى؟! ان الصلح مثلا يشبه بالبيع، مع ان اختلافهما في الأحكام كثير، و الربا مثل البيع، و قد أحل اللّه البيع

و حرم الربا الى غير ذلك.

نعم يمكن إلغاء الخصوصية، و تنقيح المناط بل إثبات الأولوية في بعض الموارد الا ان المقام ليس منها.

و ذلك لان مورد إلغاء الخصوصية و تنقيح المناط هو ما إذا القى أمر إلى العرف و العقلاء، فاذا فهموا منه ان المذكور من باب ذكر المثال، و انه أحد مصاديق الحكم كقول زرارة: أصاب ثوبي دم رعاف، حيث يفهم العرف و العقلاء منه انه لا خصوصية لدم رعاف زرارة، و لا لثوبه، بل و لا الثوب. في ترتب الحكم و انما أخذ مثالا لموضوع ملاقي الدم فينسحب الحكم المعلق في ظاهر الخبر على اصابة دم رعاف زرارة بثوبه: إلى اصابة الدم بل النجس الرطب بكل شي ء.

و كالمثال المذكور في الاستدلال لإلغاء الخصوصية، قوله عليه السّلام: الرجل إذا شك إلخ فإنه إذا عرض على العرف فلا يفهم منه خصوصية، للرجولية في أحكام الشك بل يرى ان الموضوع لها كل مكلف، الى غير ذلك من الأمثلة.

فإذا احتمل دخالة خصوصية معتدة بها في مورد لترتب الحكم عليه فلا يصح إلغاء الخصوصية و التعدي منه الى الفاقد لها، و ما نحن فيه من هذا القبيل ضرورة أن للقضاء، و الحكومة خصوصية لم تكن في الإفتاء لأنها لفصل الخصومة، و إطفاء النائرة، و اراحة الرعية، و قلما يمكن التصالح، و الاحتياط أو الحكم بالتخير فيها بل ربما يوجب ذلك امتداد الخصومة و بل اشتداد نائرة الخلاف، فاذا اعتبر حكم فقيه في مورد القضاء فلا يكاد يمكن انسحابه في باب الإفتاء التي لم توجد تلك الخصوصية فيه الا بدليل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 291

..........

______________________________

و بما ذكرنا تعرف حديث الأولوية، لأن الأولوية القطعية

انما هي في مورد إذا القى الى العرف يفهمه ذلك من دون فكر، و روية، كحرمة ضرب الوالدين من حرمة (الاف) لهما المستفادة من قوله تعالى فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ «1».

و أنت خبير بان المقام ليس منها لما أشرنا من الخصوصية في باب الحكومة و القضاء لم تكن في باب الإفتاء، لأنه كما أشرنا لا بد من فصل الخصومة، و إطفاء النائرة، فلا بد و ان يكون شخص، أو أشخاص لرفع الخصومة، و قد عين لذلك راوي أحاديثهم. و الناظر في حلالهم، و حرامهم، و العارف بأحكامهم، و لو اعتبرت الأعلمية في القاضي- خصوصا الأعلمية المطلقة، بالنسبة الى جميع البلدان، و الأصقاع- لأوجب بقاء المنازعات، و الهرج و المرج، لان فقيها واحدا لا يقدر على حل اختلافات بلدة واحدة فضلا عن جميع البلدان و هو واضح إلى النهاية.

و اما الإفتاء فهو عبارة عن استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها فللفقيه الواحد استنباط كثير من الأحكام، بل للأوحدي منهم استنباط جل الأحكام لو لا كلها، و انتشار آرائه و فتاويه في البلدان، و اصقاع العالم، و يصح للأمة الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم العمل بفتاويه من دون اى مشقة و اشكال، فالغاء خصوصية باب القضاء فضلا عن إثبات أولوية باب الفتوى بالنسبة الى باب القضاء دون إثباته خرط القتاد.

و اما حديث استفادة الإطلاق من قوله عليه السّلام: فاذا حكم بحكمنا إلخ في باب الحكومة و ان كان بدوا لا يخلو عن وجه، الا انه بقرينة إنفاذ حكم الأعلم عند الاختلاف يشكل استفادة الإطلاق من الصدر. و لو فرض استفادة الإطلاق فإنما هو في باب القضاء، و الحكومة، فلا يكاد يسرى الى باب الفتوى.

و الإنصاف عدم صحة التمسك

بمثل المقبولة رأسا لمسئلة التقليد، فكما لا يصح التمسك لصدرها لجواز تقليد المفضول فكذلك لا يصح التمسك ببعض فقرأت

______________________________

(1) الاسراء: 17/ 23.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 292

..........

______________________________

ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفة فتواه مع غيره.

و منها: روايتا ابى خديجة ففي إحديهما.

قال بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام الى أصحابنا فقال: قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شي ء «1» من الأخذ و العطاء، ان تحاكوا الى أحد من هؤلاء الفساق اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فانى قد جعلته عليكم قاضيا و إياكم ان يخاصم بعضكم بعضا الى السلطان الجائر «2».

و قريب منها روايته الثانية قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (قضائنا ن خ) فاجعلوه بينكم فأنى قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه «3».

تقريب الاستدلال بهما يظهر مما ذكرناه في تقريب المقبولة: كما ان جوابه يظهر مما ذكرناه في دفعه فلاحظ.

و منها التوقيع المبارك الذي رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين و الشيخ في كتاب الغيبة، و الطبرسي في الاحتجاج، عن إسحاق بن يعقوب قال:

سئلت محمد بن عثمان العمرى ان يوصل لي كتابا قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت علىّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام: اما ما سئلت عنه أرشدك اللّه و ثبتك الى ان قال و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم

______________________________

(1) اى تدافع في الخصومة.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات

القاضي ح/ 5.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 293

..........

______________________________

حجتي عليكم و انا حجة اللّه. «1»

تقريب الدلالة هو ان المراد بالحوادث الواقعة في التوقيع المبارك بمناسبة الحكم و الموضوع الأمور و الحوادث المرتبطة بالدين، فالحوادث الواقعة: اما خصوص الأحكام المشتبهة التي تحدث و لا يعلم حكمها، بقرينة إرجاعها الى الإمام أو الأعم منها و من الموضوعات المشتبهة بدعوى مرجعية الإمام عليه السّلام في جميع الأمور المشكلة فله الحكم في الموضوعات أيضا.

و الظاهر من إرجاع الأمر إلى رواة الأحاديث بقرينة قوله عليه السّلام: فإنهم حجتي هو رفع حكم الواقعة إليهم ليحلّوا لهم العقدة، و المشكلة بارائهم، و أنظارهم لا مجرد روايتهم، و قد أشرنا ان رواة الحديث كانوا من أهل الفتوى، و الرأي لا مجرد نقلة الحديث.

نعم كانوا يلقون فتويهم، و آرائهم بصورة الحديث، و الرواية كما هو الظاهر من كتب الصدوقين.

يدلك على حجية آرائهم، قوله عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم، فإنه لا معنى محصل لحجية رواة الحديث بما هم رواة الا بلحاظ حجية آرائهم و فتاويهم.

أضف الى ذلك قوله عليه السّلام: انا حجة اللّه عقيب قوله: فإنهم حجتي عليكم فإنه يدل بوضوح بأنه كما تكون نفسه المقدسة حجة اللّه يجب المراجعة إليه في معرفة الحلال و الحرام بارائه المقدسة فكذلك تكون رواة أحاديثهم حجج من قبله فيجب المراجعة إليهم في معرفة الأحكام الصادرة من قبلهم فرواة الحديث مراجع فيما يكون فيه الامام عليه السّلام مرجعا فيستفاد حجية آرائهم و فتاويهم.

و إياك ان تتوهم من الأمر بالمراجعة إلى رواة الحديث بصيغة الجمع إرجاع أمر كل مسئلة واحدة الى جميع الرواة أو خصوص الأعلم منهم لان الظاهر المترائى منه هو استفادة مرجعية كل

راو لأحاديثهم، و مقتضى إطلاقه جواز المراجعة اليه و أخذ

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 294

..........

______________________________

رأيه للعمل كان هناك من يكون اعلم منه أم لا، خالفه في الفتوى أم لا.

المناقشة في سند التوقيع و دفعها

نوقش أولا: بضعف السند لعدم الاطلاع على حال إسحاق بن يعقوب، و لم ينقل منه في الفقه شي ء الا هذا التوقيع، و التوقيع منقول من قبله، و مجرد ذكر هذا التوقيع في جوامعهم لا يكشف عن وثاقته، لأنهم قد ينقلون أحاديث في جوامعهم و لم يعملوا بها.

قلت: الإنصاف ان المناقشة في سنده غير وجيه، لان الظاهر ان إسحاق بن يعقوب هذا هو أخ محمد بن يعقوب الكليني كما صرح بذلك العلامة التستري «1» و قد صرح بذلك في أخر التوقيع برواية إكمال الدين بقوله عليه السّلام: السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب الكليني «2».

و إليك الإشارة الى بعض ما قيل في جلالة الرجل ففي جامع الرواة بعد ذكر التوقيع عن رجال الأمين الأسترآبادي: و قد يستفاد مما تضمنه علو رتبة الرجل فتدبر «3» و يظهر من العلامة الأنصاري في شرائط المتعاقدين، و المحقق النائيني (قدس سرهما) جلالة الرجل فلاحظ «4»، و في تنقيح المقال بعد نقل التوقيع: يستفاد من توقيعه عليه السّلام هذا جلالة الرجل و علو رتبته، و كونه هو الراوي غير ضائر بعد تسالم المشايخ على نقله «5» الى غير ذلك من العبارات.

أضف الى ذلك ان آثار الصحة لائحة من التوقيع المبارك لمن لاحظه و تدبر فيه مع انه يمكن ان يقال انه كيف يروي الكليني مع جلالة شأنه عن شخص مجهول الحال لا يعلم حاله مع ادعاء

الرجل إرسال كتابه إلى الناحية المقدسة بواسطة

______________________________

(1) قاموس الرجال ج 1/ 506.

(2) إكمال الدين طبع الكمپاني/ 262.

(3) جامع الرواة ج 1/ 89.

(4) منية الطالب ج 1/ 330.

(5) تنقيح المقال ج 1/ 122.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 295

..........

______________________________

أحد نواب الناحية، مع ادعائه أن التوقيع كان بخط الصاحب عليه السّلام و لو كان مجهولا عنده فيبعد حكايته عنه بلا إيماء و لا إشارة الى عدم الاطمئنان بالواقعة.

ضع نفسك مقام الكليني فهل تحكي مثل هذه الواقعة مع عدم اطمينانك لنقل الواقعة، و لو كنت شاكا و مترددا لنقله، لما أشرت إليه؟! حاشاك.

ثم انه كيف يروى الصدوق الخبير الرجالي المولود بدعاء الصاحب عليه السّلام عن الكليني هذه المهمة في إكمال الدين، ثم شيخ الطائفة في كتاب الغيبة، ثم الطبرسي في الاحتجاج مع عدم اشارة من هؤلاء الأجلاء الى حاله.

و بالجملة من أمعن النظر فيما ذكرنا بعين الإنصاف يطمئن بكون إسحاق بن يعقوب من الثقات و ان كان اسمه غير موجود في التراجم و كم له من نظير.

و ثانيا: ان صدر التوقيع، و متن السؤال غير مذكور و لم يعلم المراد بالحوادث الواقعة، و من المحتمل ان يكون المراد حوادث خصوص باب القضاء اى حجية حكمهم في الشبهات الموضوعية، أو الأعم منها، و الشبهات الحكمية، و كان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى، و مع احتمال ذلك يشكل استفادة العموم منه.

و دعوى ان احتمال ذلك مدفوع بالأصل مدفوعة لأنه فرق بين احتمال وجود القرينة و بين قرينية أمر موجود، و الأول مدفوع بالأصل دون الثاني فتدبر.

و ثالثا: لو سلم التعميم لكن لا يستفاد منه إطلاق يشمل صورة معارضة فتواه للأعلم أيضا ضرورة ان

العقلاء لا يرون ان نظر كل من الفاضل، و المفضول في صورة المعارضة امارة للواقع ليكون الجاهل مخيرا في الأخذ بأيهما شاء بل بنائهم على سقوطهما عن الحجية أو حجية نظر الأعلم فقط.

و رابعا: انه قد يقال لعل المراد برواة الحديث حيث لم يذكر السؤال رواة بلد السائل و عصره، فاستفادة التعميم لا بد و ان يكون بإلغاء الخصوصية. و إلغاء خصوصية بلد السائل، و ان كانت غير بعيدة. و اما المعاصرية فانى لكم بذلك؟! مع وجود الفرق الواضح، و هو الاختلاف في الفتوى كثيرا في هذه الأعصار دون الصدر الأول

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 296

..........

______________________________

كذا أفاد أستادنا العلامة الخمينى دام ظله في الدورة الأخيرة، و لكن الإنصاف انه غير فارق فيمكن استفادة التعميم فتدبر.

و منها: رواية مذكورة في تفسير الإمام العسكري عليه السّلام و الرواية طويلة الذيل روى شطر منها في الوسائل عن احتجاج الطبرسي «1» و القطعة المستشهد بها قوله عليه السّلام.

و اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

تقريب الدلالة هو ان ظاهرها يدل على ان من كان واجدا للصفات الموجودة و المذكورة في الرواية يصح المراجعة اليه و إطلاقها يقتضي الجواز لصورتي مخالفة فتوى غير الأعلم مع الأعلم.

أضف الى ذلك ان اختلاف المراتب و اختلاف الفتاوى كثيرة و الاتفاق فيهما قليل فاختصاص الرواية بصورة تساوى الفضيلة، و الاتفاق في الفتوى حمل لها على الفرد النادر.

المناقشة في سند التفسير و دفعها

نوقش أولا: بضعف السند لأنه لم يثبت اعتبار سند التفسير، و قال بعض المشايخ ان هذا التفسير مشتمل على أمور يعلم بعدم صدورها عن الامام عليه السّلام و لعل

منها هذه الفقرة، و قد أفرط العلامة التستري في النقاش عليه و ذكر مواقع النظر فيه «2» فلا يصح عنده ان يثبت حكما شرعيا برواية انفرد التفسير به نعم جعلها تأييدا له.

و ثانيا: تضعيف الدلالة لأن صدرها في بيان تقليد عوام اليهود من علمائهم في أصول الدين فان موردها نبوة نبينا محمد و امامة على صلوات اللّه عليهما، و التقليد في أصول الدين خصوصا فيما هو الأساس منها باطل و إخراج المورد مستهجن فلا يصح الاستدلال بها للمقام هذا.

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

(2) الاخبار الدخيلة ج 1/ 152.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 297

..........

______________________________

و الذي تحصل هنا بعد المراجعة الى ما افاده العلمان شيخنا النوري في خاتمة المستدرك، و شيخنا التهرانى في الذريعة مضافا الى ما افاده شيخنا الحر العاملي في خاتمة الوسائل عدم تمامية الإيرادات الواردة و من لاحظها بعين الإنصاف يطمأن باعتبار سنده.

نعم حيث ان اختلاف نسخ التفسير كثيرة فيشكل إثبات حكم شرعي على النسخة الموجودة بأيدينا إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتبارها، و السّر في ذلك عدم قراءة المشايخ و السلف الصالح عليها، كما هو الشأن في غير الكتب الأربعة و ما ضاهاها و قد كان سماحة أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) يناقش في الاستناد الى اخبار غير الكتب الأربعة و نحوها مما لم يكن متداولا بين المشايخ و رواة الأحاديث قراءة و إملاء و كتابة.

و كيف كان حيث استند بالرواية في مواضع من هذه الرسالة، و نوقش فيها بضعف السند تارة و بضعف الدلالة اخرى أحببت إيراد ما قيل أو يمكن ان يقال فيها سندا و دلالة عند تعرض الماتن

لنفس الرواية في ذيل مسئلة 22 في اعتبار شرائط من يرجع اليه و التعرض لدفعها فارتقب حتى حين.

هذا بالنسبة الى ما نوقش فيها من حيث السند و الدلالة من بعض الجهات.

نعم يتوجه اشكال عليها بالنسبة إلى التمسك بها لتقليد المفضول مع وجود الأفضل و هو انما هو بصدد بيان تسوية عوامنا مع عوام اليهود من جهة و التفرقة من جهة أخرى و لم تكن بصدد بيان المراجعة إلى الفقيه حتى يتمسك بإطلاقها لحال وجود الأفضل أو مخالفته له في الرأي.

و بالجملة ان الرواية بصدد بيان حكم آخر و هو تسوية عوامنا مع عوام اليهود من جهة و التفرقة من جهة أخرى فلا إطلاق لها لحال وجود الأفضل فضلا عن صورة العلم بمخالفة رأيه لرأي الأفضل.

و منها: رواية أحمد بن ماهويه قال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 298

..........

______________________________

كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السّلام- اسئله عمن آخذ معالم ديني و كتب أخوه أيضا بذلك فكتب إليهما فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبّنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه «1».

قد أشرنا من ذي قبل وجه دلالته على مشروعية التقليد و مقتضى إطلاقه جواز الاعتماد على كل مسن من الفقهاء سواء كان هناك من يكون اعلم منه أم لا كان مخالفا له في الفتوى أم لا.

نوقش فيها مضافا الى ضعف السند

أولا:

بأن ظاهرها مثل ما ورد في حق يونس بن عبد الرحمن حيث سئل الراوي أ يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني، و ما ورد في حق غيره: يدل على معهودية المراجعة إلى الفقيه الثقة و السؤال انما هو عن تعيين المصداق و

تشخيص الثقة فلم يكن له إطلاق يشمل صورتي المعارضة و الاختلاف.

و ثانيا: ان الخبر جواب عن سؤال أحمد و أخيه و استفادة التعميم لا بد و ان يكون بإلغاء الخصوصية و هو مشكل مع وجود الاختلاف الكثير في الفتوى في أمثال زماننا و قلة الاختلاف في الصدر الأول.

و لكن عرفت عند البحث عن التوقيع الشريف انه غير فارق.

و ثالثا: ان استفادة الإرجاع إلى الفقيه في الفتوى من الخبر مشكل كما لا يخفى.

و لكن لا يخفى ما فيه.

و منها: الخبر المشهور عند الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال:

أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم.

ذكر الاستدلال به في تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره).

تقريب الدلالة انه بعد إلغاء خصوصية الصحابية يستفاد منه ان من كان في رتبتهم

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 299

..........

______________________________

أو كان له منزلة من العلم من حيث العلم و الفضيلة يصح المراجعة اليه و اتباعه في آرائه و مع وجود الاختلاف من حيث الفضيلة بين أصحابه صلّى اللّه عليه و آله يستفاد منه صحة المراجعة الى كل من كان بتلك المثابة و ان لم يكن اعلم.

و فيه أولا: انه لم يرد الخبر من طرقنا و انما ورد من طريق العامة و بهذا الخبر صححوا بعض أعمال الصحابة المخالفة لكتاب اللّه و سنة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فهو ينفعهم و لا يكاد ينفعنا، و لعل تعرض الشيخ له انما هو لأجل وقوعه في مقال مثل الحاجبي، و العضدي، و غيرهما من علماء العامة.

و ثانيا: انه لو سلم اعتباره، و لكن لم يعلم المراد بالاقتداء بهم، و

انه هل المراد: اتباعهم و تقليدهم في الفروع الفقهية؟ أو اتباعهم في أعمالهم الصالحة الحسنة، و لعل الظاهر منه المعنى الثاني فلا ينفع المقام كما لا يخفى فتدبر.

و ثالثا: انه لو سلم كون المراد اتباعهم، و تقليدهم في الفروع فواضح انهم لم يكونوا في الصدر الأول مختلفين في الفتوى الا نادرا. فما ظنك؟؟؟ بمقايستهم فقهاء أمثال زماننا المحرومين عن درك حضورهم، و المختلفين كثيرا في الفتاوى و منها: الأخبار الدالة على إرجاع الناس الى أشخاص من فقهاء أصحابهم و هي كثيرة مذكورة في الباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل، تعرضنا لجملة منها في مسئلة مشروعية أصل التقليد فلاحظ ص 162.

تقريب الدلالة: انه يستفاد منها ان أخذ معالم معالم الدين الذي عبارة عن التقليد كان مرتكزا في أذهان أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السّلام و متعارفا في عصرهم كانوا يرجعون شيعتهم الى الفقهاء من أصحابهم مع تفاوتهم في الفضيلة، و اختلافهم في الفتوى.

و فيه: انه على تقدير كون المراد بأخذ معالم الدين ما يعم أخذ الفتوى في الفروع الفقهية. لا يستفاد منها جواز المراجعة الى غير الأعلم و أخذ فتواه مع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 300

..........

______________________________

العلم بمخالفة فتواه مع فتوى الأعلم تفصيلا أو إجمالا، لعدم العلم بالمخالفة في الفتوى و لو إجمالا في تلك الأعصار خصوصا من مثل هؤلاء المحدثين و الفقهاء الذين كانوا بطانة أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و لو فرض وجود الخلاف بينهم فإنما هو أقل قليل لا يعتنى به، لتمكنهم من المراجعة إليهم (سلام اللّه عليهم)، و وضوح مستندهم في الأحكام: لقلة الوسائط و احتفاف الاخبار بالقرائن الموجبة للاطمئنان، فلا يقاس بهم العصور

المتأخرة عن زمنهم التي وقع الخلاف بينهم كثيرا بلحاظ ضياع جملة من الكتب و الدس في الكتب الباقية، و اختلاط غث الاخبار بسمينها و نحو ذلك مما أدى الى عدم الوثوق بها الأبعد الفحص الأكيد عن مستندها و التوفيق بين معارضاتها و نحو ذلك و لو سلم وقوع الخلاف بهذا المقدار في عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام فذلك لا يوجب قرينة على صرف الإطلاقات إلى الحجية التخييرية لأن حال الفتوى حال الرواية بعينها في ان الأدلة الأولية الدالة على حجيتها لا تفي بحال المعارضة، و الشاهد على ذلك وقوع السؤال عن علاج الأخبار المتعارضة.

و بالجملة: إطلاقات الأدلة لا تتكفل الا لبيان حجية فتوى المجتهد في حد نفسه و اما حجيتها لحال المعارضة فهي خارجة عن نطاقها فلا بد من التماس دليل أخر.

و الاخبار العلاجية دلت على الأخذ بما فيه المزية و عند عدمها فالتخيير.

و مقتضى تسالم الأصحاب، و إجماعهم على جريان حكم الخبرين المتكافئين على الفتويين المتساويتين فلا ينفع صورة تخالفهما في الفتوى و الفضيلة.

و لو سلم: لها إطلاق يعم صورة العلم بالمخالفة مع الأفضل، فلا بد من تقييدها بما دل على وجوب تقليد الأعلم كما سيتلى عليك.

الوجه الثالث: لزوم العسر و الحرج

يستدل لعدم لزوم تقليد الأعلم: استلزام لزوم تقليده العسر و الحرج المنفيان في الشريعة، للحرج الشديد في تشخيص مفهوم الأعلم أولا، و في تمييز مصداقه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 301

..........

______________________________

ثانيا و في تعلم آرائه و فتاويه ثالثا.

و ذلك لاختلافهم في مفهوم الأعلم على ما سيجي ء فيصعب معرفة مفهوم الأعلم و على تقدير معرفة مفهومه يصعب تطبيق مفهومه على من يكون اعلم، ثم على تقدير معرفة مفهوم الأعلم، و تطبيقه

على من هو أعلم في الخارج يصعب تحصيل فتاويه على كل مكلف من اى بلد، و اى صقع من اصقاع العالم خصوصا لمن يكون في القرى و البوادي و من يكون في أقصى بلدان العالم. فلزوم تقليد الأعلم حرج عظيم فينفى وجوب تقليده بدليل نفى الحرج و لو ببعض هذه المراحل الثلاث.

و فيه: انه كما أفيد:

«لا حرج في شي ء من المراحل: اما تشخيص مفهوم الأعلم فلما يأتي في مسئلة السابع عشر ما هو المراد منه، و إجماله: انه عبارة عمن يكون أقوى استنباطا، و أحسن سليقة في تطبيق الكبريات على الصغريات، و الأعلم في الأحكام الشرعية، كالأعلم في سائر الصنائع و العلوم، كالهندسة، و الطب، و غيرهما، فكما لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم في تلك الموارد فكذلك في المقام.

و اما تمييز مصاديق الأعلم، و معرفتها فكذلك لا حرج فيه لأن الأعلمية من الأمور تثبت بالعلم الوجداني و بالشياع المفيد للعلم، و بالبينة و بغيرها.

و بالجملة تمييز مصداقه لا يزيد على بقية موارد تشخيص الأعلم- كما في الأطباء، و غيرهم من أرباب العلوم المختلفة- فيحصل العلم أو الاطمئنان به من الاختبار، أو الشياع و نحو ذلك، و يزيد تشخيص الأعلم بالاكتفاء بالبينة.

و اما تعلم فتواه فعدم استلزامه الحرج أوضح من ان يخفى ضرورة أنه يتيسر أخذ رسالة الأعلم و نشرها إلى أقصى نقاط العالم و بالأخص في زماننا هذا.

و الشاهد على ذلك كله شهرة القول بوجوب تقليد الأعلم بين الأعلام و تبعهم في ذلك العوام فقلدوا الأعلم في عصرهم بزعمهم و لم يقعوا في حرج من ذلك كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 302

..........

______________________________

هذا كله على تقدير لزوم

تقليد الأعلم مطلقا، و اما ان قلنا بلزوم تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين غيره و العلم بالمخالفة انما يتحقق إذا علم فتوى كليهما، و واضح ان معرفة الفتوى عند العلم بالمخالفة تفصيلا أو إجمالا ليست فيها شائبة أي حرج كما لا يخفى» «1».

الوجه الرابع: سيرة المتشرعة

قد يقال انه قد جرت و استمرت سيرة المتشرعة من زمن الأئمة المعصومين الى زماننا هذا على الرجوع الى كل مجتهد من دون فحص عن الأعلم مع ان مراتب العلماء في الفضيلة متفاوتة و درجاتهم العلمية غير متساوية كما ان عدم اتفاقهم في جميع الآراء غير خفية.

و بالجملة السيرة المستمرة بين أهل التقليد من السلف الصالح الى الخلف اللاحق الى الآن على أخذ الفتوى عمن له صلاحية الفتوى مع اختلاف ذي الصلاحية في مراتب العلم و الفضل و الرأي و لم ينكر أحد منهم ذلك.

و فيه: ان السيرة و ان كانت ثابتة الا أنها في الجملة لا بالجملة فتكون أخص من المدعى.

و ذلك لثبوت السيرة في ذلك فيما إذا لم يعلم بالاختلاف، تفصيلا، أو إجمالا بين الفقهاء، و المفتين، و لم يحرز وجود الأعلم في البين.

و لعل إنكار السيرة عند عدم العلم بالخلاف في الفتوى، و عدم إحراز وجود الأعلم مكابرة فكانوا يراجعون الى اى شخص من العلماء الواجدين لشرائط الإفتاء عند عدم علمهم بالخلاف، و عدم علمهم بوجود الأعلم من دون فحص عن الأعلم.

و لكن إثبات السيرة عند العلم بالاختلاف بالفتوى تفصيلا، أو إجمالا مع إحراز وجود الأعلم التي هي معركة الآراء فدون إثباته خرط القتاد، فإن الأمر في المفروض بالعكس، و السيرة جارية على المراجعة إلى الأعلم عند ذاك كما

______________________________

(1) الدروس ج 1/

78- التنقيح ج 1/ 140.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 303

..........

______________________________

هو المشاهد منهم في غير الأحكام، فتريهم إذا عين الطبيب دواء لعلاج المريض و خالفه في ذلك من هو اعلم منه لم يعتمدوا برأيه لعلاجه بوجه خصوصا إذا كان نظره مخالفا للاحتياط و انما يتبعون رأى الأعلم.

الوجه الخامس: ما حكى عن صاحب الفصول من انه لو كان تقليد الأعلم واجبا لما جاز الأخذ بفتاوى أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السّلام مع إمكان الاستفتاء منهم عليهم السّلام فإنهم أولى بأن يؤخذ منهم من الأعلم.

و فيه أولا: كما عن تقريرات شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) ان قياس الامام عليه السّلام بغيره مما يشمئز منه أصحاب المروة و الإنصاف كما هو ظاهر.

و ثانيا: ان محط البحث في لزوم تقليد الأعلم، و عدمه انما هو في صورة مخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم، و في صورة العلم بمخالفة فتوى أصحاب الإمام المعصوم له عليه السّلام لم يكن لفتويهم اعتبار أصلا بل زخرف و باطل و مع ذلك كيف يمكن التفوّه بجواز تقليدهم.

و بالجملة حجية فتاوى أصحاب الإمام عليه السّلام انما هي في طول رأيه و كاشف عن رأيه المقدسة، لا في عرضه و مقابله، و لا يكاد يتفوه أحد من أصحابنا، و لا يتجرء انقداح مخالفة رأيه له عليه السّلام فهذا من غرائب الاستدلال.

و قد يقال ان عبارة الفصول تأبى عن ذلك، و لم يحضرني عبارته فليلاحظ و ليتأمل.

فقد ظهر مما ذكرنا ضعف ما استدل به لعدم لزوم تقليد الأعلم مطلقا حتى في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى.

فبعد ما عرفت ذلك فحان عطف عنان البحث الى ذكر ما يستدل به للزوم تقليد الأعلم، و ملاحظته،

فان تم فيها، و الا و المرجع هو الأصل العملي الذي قربناه بتقريبين في صدر المسئلة فنقول.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 304

المورد الثاني في ما قيل أو يمكن ان يقال للزوم تقليد الأعلم
اشارة

______________________________

و هو أيضا وجوه.

الوجه الأول: بناء العقلاء

بناء العقلاء، الممضى شرعا و لو بعدم الردع، و هو الأساس القويم للقول بلزوم تقليد الأعلم.

و لكن لا يستفاد منه اعتبار الأعلمية مطلقا، بل في خصوص ما إذا خالفت فتوى الأعلم مع فتوى غيره و كانت فتوى غيره مخالفة للاحتياط.

و ذلك لأنه عند تعدد الفقيهين، و اختلافهما في الفضيلة تارة يعلم بموافقة الأعلم مع غيره في الفتوى، و اخرى يعلم بمخالفتهما في ذلك تفصيلا، أو إجمالا في المسائل التي تعم بها البلوى، و ثالثة، لا يعلم الموافقة و لا المخالفة.

ففي صورة توافقهما في الفتوى، بل و في صورة احتمال مخالفتهما في ذلك لم يكن لهم بناء على لزوم اتباع رأى الأعلم بل يجوزون المراجعة الى كل منهما نعم يرجحون اتباع رأى الأعلم خصوصا في صورة احتمال المخالفة.

و السر في ذلك هو وجود تمامية الملاك في رأي كليهما، و لذا ترى أبواب بيوت غير الأعلم مفتوحة كباب بيت الأعلم و يراجعون إليهم كما يراجعون اليه، و يعتذرون لعدم المراجعة إلى الأعلم باعذار تكشف عن عدم لزوم المراجعة إليه.

كقولهم ان الوصول إلى الأعلم مشكل، أو ان الوصول اليه يستلزم صرف وقت كثير أو ان مؤنة المراجعة إليه كثيرة، أو ان طريق الوصول اليه بعيد الى غير ذلك من الاعذار.

و بالجملة موضوع رجوع الجاهل الى العالم لأجل كاشفية رأى العالم، و اماريته للواقع بحيث يطمئن الجاهل برأيه و يلغى احتمال خلاف الواقع، لان احتمال خلاف الواقع في رأي المفضول مرجوح فيلزمه مرجوحية مخالفة رأيه للفاضل، و لا يعقل عدم إلغاء مخالفة رأى المفضول للفاضل مع إلغاء احتمال رأيه للواقع فتدبر

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 305

..........

______________________________

و يلحق بصورة

احتمال المخالفة ما لو علم إجمالا بالمخالفة من حيث الفتوى لكن كان أطراف المعلوم بالإجمال كثيرا بحيث يلحق بالشبهة غير المحصورة من حيث عدم التنجز، فإنه لا يبعد ان يقال: ان بناء العقلاء في أطراف المعلوم بالإجمال الكذائي مثل صورة احتمال الخلاف بدوا في عدم لزوم المراجعة إلى الأعلم.

و اما إذا علم مخالفتهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا ملحقا بالتفصيل من حيث التنجيز، و كانت فتوى المفضول مخالفة للاحتياط، أو كانت فتوى كل منهما موافقة للاحتياط من جهة، و مخالفة له من جهة أخرى، فالظاهر من بنائهم هو لزوم المراجعة إلى الأعلم.

و ان كنت في شك من ذلك، فاختبر حالهم في مهام أمورهم في غير الأحكام تجدهم أصدق شاهد على ما ذكرنا.

نعم ان كانت فتوى الأعلم على خلاف الاحتياط و كانت فتوى غير الأعلم موافقة له- كما إذا أفتى الأعلم بالإباحة في مورد، و افتى غير الأعلم فيه بالوجوب- فالظاهر من بناء العقلاء عند ذلك جواز الرجوع الى غير الأعلم من باب الاحتياط.

و بالجملة عند مخالفة رأى الأعلم للاحتياط يعملون برأى غير الأعلم من باب الاحتياط و يأتون به برجاء درك الواقع كما يعملون برأى الأعلم و لا يرون لمخالفة رأيه للاحتياط محذورا و قدحا.

الوجه الثاني: الإجماع

قد عرفت حكاية دعواه عن المحقق الثاني، و عن صاحب المعالم انه قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم، بل عن السيد في الذريعة كونه من مسلمات الشيعة.

و فيه: مضافا الى بعد تحقق الإجماع بعد ما عرفت من ذهاب جماعة من الفقهاء الى جواز تقليد المفضول: ان محصل الإجماع فضلا عن منقولة في مثل هذه المسئلة التي يتمسك فيها بحكم العقل، و بناء العقلاء، و الروايات و غيرها لا مسرح له

و لا يكاد ينتفع بداهة انه من القريب بل المظنون لو لم يكن مقطوعا ان أكثر المجمعين

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 306

..........

______________________________

اتكلوا و استندوا بهذه الوجوه، و الإجماع إنما ينفع في مورد لم يكن كذلك ليستكشف به عن وجود نص معتبر عثر المجمعون عليه و لم نظفر به.

الوجه الثالث: الروايات
منها: ذيل مقبولة عمر بن حنظلة.

قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث الى ان قال:

فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما و اختلف فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا ن خ) فقال الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و لا يلتفت الى ما يحكم به الأخر الرواية «1».

تقريب الدلالة هو انه بعد فرض سؤال السائل ان منشأ اختلاف الحكمين هو الاختلاف في الحديث عنهم عليهم السّلام- اما في حديث واحد اختلف في فهمه، أو في حديثين- أجاب عليه السّلام بالأخذ بالأفقه منهما، و هو ظاهر في ان الاختلاف في خصوص الشبهة الحكمية لا الموضوعية، بل الترجيح بالأفقهية بمناسبة الحكم و الموضوع لا يناسب الشبهة الموضوعية كما لا يخفى.

و ان أبيت عن ذلك فنقول بشمول المقبولة لكل من الشبهة الحكمية، و الموضوعية فدلت المقبولة على ترجيح فتوى الأفقه في المنازعة في الدين أو الميراث، و بعد إلغاء خصوصية بابى الميراث، و الدين، و باب القضاء، للقطع بوحدة الملاك يستفاد ان فتوى الأعلم بما انه فتواه مقدم على فتوى غيره، و ان لم يكن في باب القضاء، فيثبت المطلوب و هو لزوم تقليد الأعلم.

و قد يناقش: تارة من حيث السند و

اخرى من حيث الدلالة، اما المناقشة

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 307

..........

______________________________

من حيث السند فقد تقدم أنفا ذكرها و دفعها فلاحظ.

و اما من حيث الدلالة فنوقش.

أولا: بأن ظاهر المقبولة بقرينة عطف الافقهية، و الاصدقية و الأورعية بالواو دون (أو): ان الأوصاف الأربع مجتمعة توجب التقديم، و فرض الراوي صورة التساوي، لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها، فالمقبولة تعطي بان في صورة اختلاف الحكمين يرجح حكم من كان واجدا للصفات الأربع زائدة على المقدار الذي يكون في الأخر لا الأخذ بفتوى الأعلم فقط كما هو المدعى.

و ثانيا: ان غاية ما يستفاد منها بالملازمة العرفية من قوله عليه السّلام: الحكم ما حكم به إلخ. هو نفوذ مستند حكم الأعلم في الشبهات الحكمية، و هو فتواه، فنفوذ حكم الأعلم يلازم نفوذ فتواه.

و لكن لا يستفاد منها سلب نفوذ فتوى غير الأعلم حتى يتم المطلوب لاحتمال سلب نفوذ حكم غير الأعلم فقط دون فتواه، و ذلك لان المركب، أو ما هو بحكمه يسلب بسلب أحد أجزائه فسلب نفوذ حكم الأعلم كما يمكن ان يكون لسلب حجية فتوى غير الأعلم يمكن ان يكون لسلب صلاحية حكمه فلا ملازمة بين نفوذ حكم الأعلم و طرح فتوى غير الأعلم فلا يستفاد من المقبولة تعيّن المراجعة إلى فتوى الأعلم و سقوط فتوى غير الأعلم عن الحجية.

فإذا لا مانع من المراجعة الى كل من الأعلم و غيره عند المعارضة.

و بالجملة سلب الأمر المتوقف على مقدمات لا يلازم سلب جميع المقدمات لأنه من الممكن ان يكون سلبه بسلب واحد منها فغاية ما يقتضيه نفوذ حكم الأعلم هو عدم نفوذ

حكم غير الأعلم لا سلب حجية فتوى غير الأعلم فتدبر.

و ثالثا: ان مورد الترجيح هو الحكمين، و انى لنا؟! و إلغاء الخصوصية مع وجود الفرق الفاحش بين باب القضاء، و باب الفتوى ضرورة انه لا بد عند النزاع من فصل الخصومة بين المتنازعين، و لا معنى للحكم بالتخيير فيها لاستدامة بقاء الترافع بحاله لأن كلا من المتخاصمين يختار ما هو الأصلح لنفسه، و لذا لم يحكم الامام عليه السّلام

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 308

..........

______________________________

في مورد الحكمين بالتخيير بعد فقد الوجوه المرجحة، و انما أمر بالتوقف و تأخير الواقعة إلى لقاء الامام عليه السّلام بقوله: فارجه حتى تلقى إمامك.

فاذا للشارع إيجاب الاحتياط في حقوق الناس بالأخذ بفتوى الأعلم ضرورة انه لا إشكال في كون الأخذ بفتواه أحوط، فجعل حكم الأعلم فاصلا لا قربيته الى الواقع بنظره.

و هذا بخلافه في باب الفتوى فلم يلاحظ ذلك فيه توسعة على الناس.

فدعوى القطع بوحدة الملاك في البابين مجازفة.

أضف الى ذلك انه لا معنى، و لا اثر للاصدقية في حجية الفتوى بالنسبة إلى الأخرى، بخلاف حجية أحد الحكمين بالنسبة إلى الأخر، و قد لوحظ ذلك في المقبولة فهذا أصدق شاهد على ان الترجيح مخصوص بباب القضاء دون الفتوى.

و رابعا: انه لو سلم إلغاء الخصوصية و تنقيح المناط فمقتضى التعدي من باب القضاء الى باب الإفتاء، هو الأخذ بفتوى الأفقه منهما في البلد، مثلا بالنسبة إلى الفقيه الأخر كما رجح في باب القضاء حكم الأفقه من الحاكمين في البلد بالنسبة إلى الأخر، و لا يكاد يتم ذلك في باب الإفتاء ضرورة انه لا بد فيه من ملاحظة الأعلم من الكل في كل مكان، و لذا

لو كان في البلد فقيهان أحدهما أعلم من الأخر لا يجوز تقليد الأعلم منهما، إذا كان في بلد أخر من هو اعلم منهما.

فالإنصاف كما أشرنا: انه لا يصح التمسك بمثل المقبولة لمسئلة التقليد رأسا كما لا يصح التمسك بذيلها للزوم تقليد الأعلم.

و منها: ما عن الصدوق و الشيخ بإسنادهما عن داود بن الحصين عن ابى عبد اللّه عليه السّلام:

في رجلين اتفقا على عدلين، جعلاهما بينهما في حكم، وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما، يمضي الحكم؟ قال ينظر الى افقهما،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 309

..........

______________________________

و أعلمهما بأحاديثنا، و أورعهما فينفذ حكمه، و لا يلتفت الى الأخر «1».

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حق، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما قال و كيف يختلفان؟ قال حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان فقال ينظر إلى أعدلهما، و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه «2».

تقريب الاستدلال بالروايتين يظهر مما ذكرناه في المقبولة كما ان جوابه يظهر مما ذكرناه في ردها فلاحظ.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام في عهده الى مالك الأشتر
اشارة

. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم الى ان قال و أفقههم في الشبهات و آخذهم بالحجج إلخ «3».

تقريب الدلالة انه عليه السّلام أوجب على مالك اختيار الأفضل من رعيته للحكم الذي هو أعم من القضاء المصطلح، فيعم مقام الفتوى فيصح استفادة وجوب تقليد الأعلم نوقش بضعف السند و الإرسال.

موقف نهج البلاغة

و لكن فيه ان نهج البلاغة الذي جمعه السيد الأجل الرضى المتوفى 404 ه ق، و هو الموجود بأيدينا هو مختار خطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السّلام

______________________________

(1) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

(2) الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

(3) نهج البلاغة الكتاب 53.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 310

..........

______________________________

و كتبه، و رسائله، و كلماته، و له منها أصدق شاهد على انها منه عليه السّلام خصوصا بعض خطبه، و كتبه، التي تكون فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق و منه، هذا الكتاب الذي يكون أطول عهده، و اجمع كتبه للمحاسن الذي من متنه شواهد صدق، على انه منه عليه السّلام.

و قد اشتهر كتابه هذا بين أنديه علماء الإسلام و تلقته. الأصحاب بالقبول خلفا عن سلف و اعتنوا به أشد العناية فصار انتسابه إليه أبين من الأمس، و أوضح من النهار، بل كل ما في النهج كذلك.

أضف الى ذلك ما يقال: ان ما في النهج منقول عن جماعة من الموثقين بل يصح ان يقال ان صدور ما فيه عنه عليه السّلام مستفيض و قد طبع أخيرا ما يتعلق بمصادر نهج البلاغة في مجلدات فليلاحظ.

و لقد أجاد العلامة الشهرستاني (ره)

فيما يتعلق باعتبار نهج البلاغة، و دفع بعض الشبهات الطارية عليه حيث قال:

«بان الشريف الرضى اختار من مختار كلام أمير البلاغة و امام الإنشاء، مجموعة وافية بالغرض، وثق من إسنادها و هو الثقة عند الجميع» «1».

و قال في موضع أخر: «و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا و أسلوبا فاردا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية، و هو كالقرآن العزيز. اوله كأوسطه، و أوسطه كآخره، و كل سورة منه و كل آية مماثلة في المأخذ، و المذهب، و الفن، و الطريق و النظم لباقي الآيات و السور «2».

فالبحث حول اعتبار نهج البلاغة مما لا ينبغي فسند الكتاب لا غبار عليه.

المناقشة في دلالة ما في العهد على لزوم تقليد الأعلم

و لكن وقع الإشكال في دلالته للمقال و ذلك من وجوه:

______________________________

(1) ما هو نهج البلاغة/ 22/ 50.

(2) ما هو نهج البلاغة/ 22/ 50.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 311

..........

______________________________

الأول: انه غير معمول به في مورده لعدم لزوم مراعاة الأعلمية في الرعيّة بالنسبة إلى القضاء، لان مقتضاه لزوم اختيار مالك الأشتر من يكون اعلم من غيره في حوزة امارته من مصر و نواحيه للقضاء.

و هو مع بعده في نفسه، و عدم قدرة الأفضل لفصل خصومات مصر، و اعماله بل لا بد من أدائها من عدة قضاة و حكام كما لا يخفى.

و بهذا، و بذلك يمكن ان يستفاد عدم اشتراط ما ذكر فيها للقضاء، و انما يكون شرط كمال له فلا يستفاد منه لزوم اعتبار أفضلية الرعيّة، فلا يثبت المطلوب كما لا يخفى.

الثاني: انه لو سلم لزوم مراعاته فغاية ما تقتضيه: الأعلمية الإضافية بالنسبة إلى رعيّة الوالي المعين له، و هو غير اعتبار

الأعلمية المطلقة في الفتوى.

الثالث: كما أشرنا في المقبولة أن التعدي من باب القضاء الذي هو مورد الكتاب، الى باب الإفتاء لا يكاد يمكن إلا بإلغاء الخصوصية، و تنقيح المناط، أو الأولوية و قد ذكرنا في الجواب عن المقبولة عدم استفادة شي ء منها.

الرابع: كما قيل ان غاية ما يقتضيه هو انه يعتبر في القاضي المنصوب من قبل الامام عليه السّلام أو نائبه الخاص ان يكون متصفا بتلك الصفات، فلا يستفاد منه العموم بالنسبة إلى المنصوب العام.

قلت: و لا يخفى انه يمكن إثبات التعميم منه بالنسبة إلى المنصوب العام بإلغاء الخصوصية، أو تنقيح المناط فتأمل.

الخامس: ان الأفضلية غير مساوقة للاعلمية لصدق الأفضلية على مطلق المزية و لو من جهة الأعدلية، أو نحوها من الأمور التي توجب الفضيلة فإذا يكون أخص من المدعى من جهة، و أعم منه من جهة أخرى.

و منها: ما في اختصاص المفيد

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 312

..........

______________________________

من تعلم علما ليماري «1» به السفهاء، و يباهي به العلماء و يصرف به الناس الى نفسه، يقول انا رئيسكم فليتبوء مقعده من النار، ثم قال ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعا الناس الى نفسه و فيهم من هو اعلم منه لم ينظر اليه يوم القيمة «2».

تقريب الدلالة: انه يدل على انه لا يجوز لغير الأعلم دعوة الناس الى نفسه مع وجود الأعلم، فهذا يشعر، بل يدل على انه لا يجوز له الإفتاء عند ذلك، فلا يجوز لغيره تقليده لأنه لو كان تقليده جائزا لما كان محرما، بل كان راجحا شرعيا، و واجبا كفائيا.

نوقش أولا: بضعف السند للإرسال.

______________________________

(1) قلت: ان لشيخنا الشهيد الثاني كلمة

نفيسة في المراد من المراء و اقسامه يعجبني ذكرها، و لعله لا تخلو عن فائدة و ان كان خارجة عن موضوع البحث قال قدس:

«و اعلم ان حقيقة المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه لفظا، أو معنى، أو قصدا، لغير غرض ديني أمر اللّه به، و ترك المراء يحصل بترك الإنكار و الاعتراض بكل كلام يسمعه فان كان حقا وجب التصديق به بالقلب و إظهار صدقه حيث يطلب منه، و ان كان باطلا و لم يكن متعلقا بأمور الدين فأسكت عنه ما لم يتمحص النهى عن المنكر بشروطه.

و الطعن في كلام الغير اما في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو، أو اللغة أو من النظم، و الترتيب، بسبب قصور المعرفة، أو طغيان اللسان، و اما في المعنى بان يقول: ليس كما تقول، و قد أخطأت فيه لكذا، و كذا، و اما في قصده مثل ان يقول: هذا الكلام حق و لكن ليس قصدك منه الحق و ما يجرى مجراه.

و علامة فساد مقصد المتكلم تتحقق بكراهة ظهور الحق على غير يده ليتبين فضله و معرفته للمسئلة، و الباعث عليه الترفع بإظهار الفضل و التهجم على الغير بإظهار نقصه، و هما شهوتان رديتان للنفس الى آخر ما ذكره فلاحظ منية المريد الطبعة الحديثة الجيدة 172.

(2) الاختصاص 251، و رواه في البحار ج 2/ 110.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 313

..........

______________________________

و ثانيا: كما أفيد: «لعل المراد الرئاسة التوأمة للخلافة و الإمامة فإنها التي لا تصلح إلا لأهلها، و الا فالرئاسة المجردة عن دعوة الخلافة، و الإمامة، لا يشترط فيها الأعلمية بوجه «1».

و لا يخفى ما فيه: لان دعوى عدم اشتراط الأعلمية

في الرئاسة المجردة عن دعوى الإمامة مصادرة، و هو أول الكلام، و قد ذهب المشهور الى اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، و قد قيل باعتبار اعلمية قاضي البلد.

فاذا: لو تم سنده يصح الاستدلال به لاعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، الا ان يستظهر منه عدم الوجوب و ان الحكم فيه أخلاقي، لأنه لا يلائم، و لا يناسب ان يدعوا الرجل الناس الى نفسه و فيهم من هو اعلم منه و اللّه العالم.

و منها: ما عن عيون المعجزات

انه لما قبض الرضا عليه السّلام كان سن ابى جعفر عليه السّلام نحو سبع سنين فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد، و في الأمصار في حقه فخرج جماعة من الفقهاء إلى مدينة، و أتوا دار جعفر الصادق عليه السّلام فسئلوا عن عبد اللّه بن موسى عن مسائل فأجابهم عنها بغير الواجب، فأوجب حيرتهم، و غمهم، و اضطرابهم، الى ان دخل عليهم الإمام أبو جعفر الجواد عليه السّلام فسئل عن مسائل فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعو اللّه، و أثنوا عليه فقالوا له: ان عمك عبد اللّه قال كيت، و كيت، فقال عليه السّلام: لا إله إلا اللّه: يا عم: انه عظيم عند اللّه ان تقف غدا بين يديه، فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لا تعلم، و في الأمة من هو اعلم منك «2».

تقريب الدلالة واضح.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 145.

(2) بحار الأنوار/ ج 50/ 100.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 314

..........

______________________________

نوقش: أولا: بضعف السند للإرسال.

و ثانيا: انه بمناسبة مخاطبة الإمام الجواد عليه السّلام لعمه بشهادة صدر الخبر هو تصدى عمه للخلافة، و الإمامة فلا يرتبط بما نحن فيه.

مع ان صريحها ان فتوى عمه كانت بما لا يعلم فتخرج عن موضوع

البحث.

و لو أغمض عن ذلك كله و تم سندها فدلالتها على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي لا غبار عليه.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا به «1».

قال شيخنا العلامة التهرانى في الذريعة يستفاد من ذلك تعيّن تقليد الأعلم زائدا على ما استدلوا به عليه «2».

تقريب الدلالة واضح.

و لكن فيه: ان مقتضاه أولوية من كان اعلم الناس بما جاء به الأنبياء- أصولها، و فروعها- و محل البحث تقديم ما يكون اعلم من غيره في استنباط الأحكام الفرعية عن مداركها، و ان كان غيره اعلم منه في سائر معارف الدين، و أصولها.

مع انه لا ينبغي الإشكال في رجحان تقديم الأعلم، و الكلام في لزوم مراعاته، و لا يكاد يستفاد اللزوم من هذه الفقرة.

فتحصل مما ذكرنا ان الاخبار التي يستدل بها بين ما لا دلالة لها على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي. و بين ما تكون ظاهرة فيه، و لكن لا يصح الاتكال بسنده.

الوجه الرابع: حكم العقل
اشاره

قد يقرر حكم العقل بلزوم اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى بغير ما ذكر في تقرير الأصل، و بناء العقلاء، و هو مركب من صغرى وجدانية، أو عقلية، و كبرى عقلية، حاصله ان رأى الأعلم أقرب الى الواقع من رأى غيره، و كلما كان كذلك فيجب اتباعه.

______________________________

(1) قصار الحكم من نهج البلاغة/ 96.

(2) الذريعة ج 4/ 390.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 315

..........

______________________________

اما بيان الصغرى: فلان الأعلم بلحاظ اطلاعه على مزايا و خصوصيات يجهلها غير الأعلم يكون أحسن دركا، و اصابة، و أقوى فهما من غيره فيكون الظن الحاصل من رأيه أقرب من غيره، و المراد بذلك ليس خصوص الأحكام التي أوحاها اللّه تعالى الى نبيه صلّى اللّه عليه و آله، بل الأعم منها و من الطرق العقلائية الممضاة شرعا، و من الأحكام، الظاهرية و الأصول الشرعية، و من الأعذار العقلائية المجعولة عند فقد الأمارات و

الطرق الشرعية: من الاحتياط، و الاشتغال، و البراءة و غيرها.

و بالجملة نظر الفقيه، و فتواه طريق إلى الأحكام الواقعية الأولية، و الطرق، و الأصول الظاهرية الشرعية، و الأحكام العذرية، فإذا كان أحد الفقهين اعلم يكون نظره و فتواه أقرب من غيره بالنسبة إلى تلك الأمور.

و اما بيان الكبرى: فلحكم العقل و صريحه بذلك، لأنه على مذهب من يرى حجية الفتوى من باب الطريقية يكون المطلوب الأصلي الواقعيات بمعناها الأعم فيجب الأخذ بكل طريق يكون أقرب من غيره بالنسبة إلى تلك الأمور فيؤخذ به و لا يجوز العدول عنه الى ما يكون ضعيفا.

نوقش تارة في صغرى الدليل و اخرى في كبراه

أما المناقشة في الصغرى: فبالمنع من أقربية فتوى الأعلم من غيره دائما ضرورة انه قد يوافق نظر غير الأعلم لفتوى الميت الأعلم منهما، أو للحي الأعلم منهما غير الواجد لشرائط التقليد- بان كان فاسقا مثلا- أو لفتوى المشهور الى غير ذلك مما يوجب أقربية فتوى غير الأعلم، فاقربية فتوى الأعلم إنما يتطرق في مثل ما إذا انحصر الفقيه في الخارج في فقيهين كان أحدهما أعلم من الأخر.

نعم: ان أريد بالأقربية خصوص الأقربية الاقتضائية- بمعنى ان الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب من غيره- فتتم الصغرى لأن أقربية فتوى غير الأعلم في المورد المذكور ليست في نفسه، بل بالخارج و العرض، و ما يكون أقرب ذاتا و طبعا انما هو فتوى الأعلم كما لا يخفى.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 316

..........

______________________________

و لكن لا يكاد ينفع ضرورة ان العقل لا يرى اى فرق بين الأقربية الذاتية، و الأقربية العرضية فيما هو المهم في المقام.

و بعبارة أخرى لا يرى العقل اى تفاوت بين ان تكون الأقربية في الامارة لنفسها أو

لأجل موافقتها لامارة اخرى.

و اما المناقشة في الكبرى: فذكرها جماعة من الأصحاب منهم المحقق الخراسانى (قدس سره) و حاصل ما أفيد فيها بتوضيح منا:

ان الأحكام الفعلية على نحوين.

أحدهما: حكم العقل القطعي البتي نظير حكمه بامتناع اجتماع النقيضين، و ارتفاعهما- بحيث لا يمكن التعبد بخلافه- و إذا ورد نص على خلافه يؤول، أو يطرح نظير قوله تعالى الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ «1» و قوله تعالى جٰاءَ رَبُّكَ الآية «2» الى غير ذلك حيث يؤولان لما تقرر في محله: انه تعالى ليس بجسم و لا جسماني الثاني: حكم العقل في مقام الامتثال فان العقل يحكم بوجوب امتثال ما اشتغلت الذمة به يقينا، و علما، فان حكمه بذلك انما هو لو خلي و نفسه و يجوز ان يتعبدنا الشارع بجعل الطرق و الأمارات في عرضه بحيث لو عمل بالأمارة المعتبرة لكفاه عن الامتثال العلمي القطعي، بل يجوز جعل أصل مفرغ عند ذلك كما جعل قاعدة الفراغ، و التجاوز لتصحيح المأتي به بعد الفراغ، أو التجاوز عنه.

فبعد ما عرفت حكم العقل في الموردين لا سبيل الى كون حكم العقل بلزوم الأخذ بالطرق، و الأمارات من قبيل النحو الأول بداهة حكم الوجدان على خلافه لإمكان التعبد من الشارع في اتباع رأى المفضول، أو التخيير بينه و بين الفاضل إذا رأى مفسدة في تعيين الرجوع الى الأعلم، أو رأى مصلحة في التوسعة على المكلف فهل ترى من نفسك انه إذا ورد نص قاطع لا يمكن تأويله في ذلك تطرحه، أو تضربه على الجدار؟! أ معتذرا بأنه خلاف صريح حكم العقل كما كنت تطرح، أو تؤل إذا ورد دليل كذلك في إمكان اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما حاشاك!!.

______________________________

(1) طه: 20/ 5.

(2) الفجر: 89/

22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 317

..........

______________________________

فاذا يكون المراد بحكم العقل النحو الثاني الذي يتطرق فيه التعبد.

فمع تجويز العقل إمكان التعبد بخلاف رأى الأعلم لم تتم الكبرى كلية فلم تنتج القضية.

و ذلك لأنه ان قيل: ان كل إنسان جسم، و كل جسم متحيّز، و لكن يمكن ان لا يكون متحيزا لا ينتج ان كل إنسان متحيز، و انما النتيجة كل إنسان أما متحيز، أو يمكن ان لا يكون متحيزا.

و لسماحة أستادنا العلامة الخمينى دام ظله بيان أخر في المناقشة في الكبرى حاصله: ان المدعى لوجوب تقليد الأعلم لا بد له من إثبات أحد أمرين.

اما إثبات ان الأخذ بفتوى غير الأعلم، أو التخيير بينه و بين الأعلم ترجيح للمرجوح على الراجح، أو حكم بالتساوي بينهما و العقل يدرك قبحه، و امتناعه من الحكيم نظير حكمه بامتناع اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما.

أو إثبات انه علم من الشارع عدم رضاه بترك الواقعيات بل يريد إتيانها، و ان لزم ما لزم، و دون إثباتهما خرط القتاد.

اما بالنسبة الى الأمر الأول فلان الضرورة، و الوجدان حاكمان على انه إذا ورد نص قاطع غير قابل للتأويل في ذلك لا يطرح و لا يضرب بالجدار كما يضرب النص الوارد في إمكان اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما بل يؤخذ به.

و اما بالنسبة الى الأمر الثاني فقد ورد من الشرع إمضاء الأمارات و الأصول العقلائية، و جعل الأحكام العذرية عند فقدها و ان لزم ما لزم من الوقوع في خلاف الواقع، و ذلك يكشف عن عدم لزوم مراعاة الأحكام الواقعية الأولوية مهما أمكن و ان لزم ما لزم.

فاذا جاز ذلك فللشارع الإرجاع الى غير الأعلم. و ان لزم ما لزم.

مضافا الى

انه لو تم الأمر الثاني، و ان الشارع لم يرفع اليد عن الأحكام الواقعية، و لا يرضى بتركها فمقتضاه لزوم تحصيل تلك الواقعيات مهما أمكن و لو

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 318

..........

______________________________

بالاحتياط و ان أوجب العسر، و الحرج، بل و اختلال النظام لا الأخذ بفتوى الأعلم بداهة ان فتوى الأعلم كفتوى غيره لا تكون مصيبة إلى الواقع تمام الإصابة، و غاية ما فيه هو ان احتمال أصابتها الى الواقع أكثر من غيره.

فلا يكاد يخفى: ان القول بالأمر الثاني يستلزم انهدام أساس الفقه و الشريعة لأن معظم أساس الفقه مبني على الاخبار الآحاد، و الأصول العقلائية و الاعذار الشرعية

الوجه الخامس: حكم العقل أيضا
اشارة

أشار إليه المحقق الأصفهاني فقال:

انه يمكن اقامة دليل أخر لتعيّن تقليد الأعلم، و ان لم نقل بأقربية فتواه الى الواقع و لم نقل بأن الملاك كلا أو بعضا هو القرب الى الواقع فأفاد ما حاصله:

«انه ذكرنا في لزوم التقليد عقلا أن العامي الذي لم يحصل له الحجة لا بد و ان يستند الى من له الحجة، و حيث ان فتوى الأعلم أكثر إحاطة بالجهات الموجبة للاستنباط لبلوغ نظره الى ما لم يبلغ نظر غيره فيكون أوثق بمقتضيات الحجج الشرعية و العقلية فهو بالنسبة إلى المفضول نسبة العالم بالجاهل، فالعقل في مقام إبراء الذمة يرى حجية رأيه ليس الا، لإذعانه بمقتضى فرض الأعلمية و كون المجتهد ذا حجة على الحكم بكون رأيه أوثق بمقتضيات الحجج و ان التسوية بينه و بين غيره يؤل إلى التسوية بين العالم و الجاهل» «1».

و فيه أولا: انه في الحقيقة تقريب للاقربية لا شي ء أخر فإن إحاطة الأعلم بالجهات الدخيلة في الاستنباط التي غفل عنها

العالم ربما يوجب كون خطأ الأعلم أقل بالنسبة إلى خطأ العالم فتكون فتوى الأعلم أقرب الى الواقع من فتوى العالم الا ان يقال: ان هذا تأويل لدليله (قدس سره) لان المترائى من كلامه انه بصدد بيان ان الأعلم بلحاظ إحاطته بالجهات، و الدقائق التي لم يبلغها نظر المفضول، تكون النسبة إليه نسبة العالم الى الجاهل، و مرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم،

______________________________

(1) التعليقة ج 3/ 110.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 319

..........

______________________________

و الجاهل و هو غير جائز بحكم العقل فتأمل.

و ثانيا: انه لو كان إذعان العقل بالتسوية بين العالم و الأعلم، كالتسوية بين الجاهل و العالم، فلازمه انه لو ورد نص غير قابل للتأويل في الأخذ بفتوى غير الأعلم يلزم ان يطرح كما يطرح لو ورد في رجوع الجاهل الى الجاهل، و لا يلتزم هذا المحقق به.

و ثالثا: ان نسبة العالم إلى الأعلم و ان كانت في وجه نسبة الجاهل الى العالم الا انه بالنسبة إلى المزايا و الخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة و الاستدلال، و اما بالنسبة إلى أصل الاستنباط ورد الفروغ إلى الأصول فهما على حد سواء كيف لا؟!! و كلاهما مجتهدان و من ثمة لا يسوغ للعالم الرجوع الى الأعلم بل قد يخطئه، و كيف يجوز تقليده على تقدير فقد الأعلم.

فتحصل مما ذكرنا بطوله ان الأحوط الأقوى لزوم تقليد الأعلم فيما إذا علم بوجوده في الخارج اما تفصيلا أو إجمالا مع العلم التفصيلي، أو الإجمالي بالمخالفة في الفتوى فيما يعم به البلوى.

بل و كذا فيما إذا احتمل اعلمية شخص معين تفصيلا أو إجمالا مع مخالفة فتواه لغيره تفصيلا أو إجمالا.

هذا إذا كانت فتوى الأعلم أو محتمل

الأعلمية موافقة للاحتياط بالنسبة إلى فتوى غير الأعلم.

فإذا لم يعلم بوجود الأعلم أو لم يعلم مخالفته معه على تقدير وجوده، أو على تقدير مخالفته تكون فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط، فلا يجب تقليد الأعلم، و الظن بالأعلمية، أو بالمخالفة ان كان معتبرا فملحق بالعلم، و الا فملحق بالاحتمال.

قول الماتن بلزوم الفحص عن الأعلم و النقاش فيه

بقي الكلام في فتوى الماتن (قدس سره) بلزوم الفحص عن الأعلم بعد الاحتياط بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 320

..........

______________________________

فنقول قد عرفت عدم وجوب تقليد الأعلم مطلقا، و انما يجب في بعض الصور و مقتضاه عدم لزوم الفحص عن الأعلم كذلك، و انما يجب في بعض الصور فالحري الإشارة إلى الصور المتصورة في المقام ثم الإشارة الى ان حكم العقل بلزوم الفحص في أي منها.

و ليعلم أولا ان وجوب الفحص في مورده انما هو وجوب عقلي إرشادي إلى دفع العقاب المحتمل عند تركه، لا شرعي تعبدي لعدم دلالة من الشرع على وجوبه كما لا يخفى.

فنقول: اما يعلم وجود الأعلم تفصيلا، أو إجمالا، أو لا يعلم بذلك بقسميه، و لكن يحتمل الأعلمية اما في واحد معين- بمعنى ان واحدا منهما، أو منهم يحتمل ان تكون اعلم مع احتمال التساوي- أو يحتمل الأعلمية في كل منهما، أو منهم.

و على اى حال اما يعلم توافقهما أو توافقهم في الفتوى، أو يعلم الاختلاف كذلك تفصيلا أو إجمالا، أو يكون كل منهما محتملا، و بضرب الأربعة في الأربعة ترتقي الصور إلى ستة عشر صورة.

ففيما إذا علم بوجود الأعلم تفصيلا و علم بمخالفة فتواه لغيره- اما تفصيلا أو إجمالا فيما يعم به البلوى- لا موقع للفحص عن الأعلم في هاتين الصورتين لمعلومية الأعلم، فالواجب

حينئذ لزوم تقليده ان كانت فتواه موافقة للاحتياط، و الا فيتخير بين تقليده، و بين الأخذ بأحوط القولين، أو الأقوال.

و كذا فيما إذا احتمل اعلمية مجتهد خاص و لا يحتمل الأعلمية في غيره مع العلم بمخالفة فتواه لغيره تفصيلا، أو إجمالا فيما تعم به البلوى، فإنه لا موقع للفحص في المفروض، و الواجب تقليده ان كانت فتواه موافقة للاحتياط، و الا فالتخيير أو الأخذ بما هو الأحوط منهما، أو منهم.

نعم فيما إذا علم إجمالا بوجود الأعلم، أو احتمل اعلمية واحد منهما، أو منهم، مع العلم بالمخالفة من حيث الفتوى تفصيلا أو إجمالا فيجب الفحص عن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 321

..........

______________________________

الأعلم، فإن عرف الأعلم فإن كانت فتواه موافقة للاحتياط فيجب الأخذ بها، و الا فيتخير بينها و بين الأخذ بما هو الأحوط، و ان لم يعرفه فإن أمكن الأخذ بما هو الأحوط فيتعين و الا فمخير بالأخذ بأي منهما، أو منهم.

و اما باقي الصور:

و هي ما لو علم بالتفاضل تفصيلا، أو إجمالا مع العلم بتوافقهما في الفتوى، أو احتمل التخالف في الفتوى، أو احتمل التفاضل في كليهما، مع العلم باختلافهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا، فبعد ما عرفت من عدم وجوب تقليد الأعلم في هذه الصور فيسقط وجوب الفحص مع عدم موقع للفحص في بعضها.

و قد أشرنا الى ان الظن بالأعلمية، أو المخالفة ان كان معتبرا فيلحق بالعلم و الا فيلحق بالاحتمال.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 323

[مسئلة 13- المجتهدان المتساويان في الفضيلة]

اشارة

مسئلة 13- إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخير بينهما (1) إلا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع (2)

______________________________

(1) إذا لم يعلم مخالفتهما في الفتوى

فيما هو محل الابتلاء، و يجوز تقليدهما معا، ان علم بتوافقهما فيها و اما إذا علم مخالفتهما فالأحوط الأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا نخير في تطبيق العمل على احدى الفتويين

(2) على الأحوط، مع العلم بمخالفتهما في الفتوى، و عدم إمكان الاحتياط ان كانت الأورعية في مقام الاستنباط و الفتوى- بان يكون اهتمامه و تحفظه على خصوصيات الأدلة أكثر كالفحص الأكيد عن القرائن و غيرها، و الدقة الشديدة في الاستنباط و مبالغته في بذل جهده في الإحاطة بمدارك الحكم- و ان كانت الأورعية في مقام العمل فالأحوط الأولى الأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا فالتخيير، كما انه في صورة عدم العلم بالمخالفة يتخير بينهما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 324

..........

______________________________

أقول: تنقيح المقال في المسئلة يستدعي البحث في مقامين الأول: فيما إذا كان المجتهدان متساويين في الفضيلة و الثاني فيما إذا كان أحدهما أورع.

المقام الأول في التخيير عند تساوى المجتهدين في الفضيلة مطلقا.

اشارة

المجتهدان المتساويان في الفضيلة إما يعلم توافقهما في الفتوى، أو يعلم تخالفهما فيها- تفصيلا أو إجمالا- أو يحتمل التخالف فالصور اربع.

اما صورة توافقهما في الفتوى فالظاهر ان المقلد، كما يجوز له تقليد أحدهما لشمول أدلة جواز التقليد له، كذلك يجوز له تقليدهما معا، فيكون وزان الفتويين وزان الخبرين المتوافقين من حيث المضمون، فكما يصح الاتكال و الاستناد بأحدهما يصح الاستناد بكليهما.

و اما صورة احتمال تخالفهما في الفتوى فكذلك، لما تقدم من جواز تقليد غير الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة في الفتوى بينه و بين الأعلم، فإذا جاز تقليد غير الأعلم عند ذاك فجواز تقليد كل من المجتهدين المتساويين في تلك الصورة بطريق اولى، و لا مانع من شمول إطلاق أدلة حجية الفتوى لكل من

المجتهدين المتساويين و اما صورة تخالفهما في الفتوى تفصيلا، أو إجمالا فقد وقع الخلاف بينهم فيها فالمشهور على التخيير، و ذهب بعض الأساطين دام ظله: إلى الأخذ بأحوط القولين و اختار ثالث: الأخذ بما هو الأحوط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 325

الأصل الاولى في الخبرين المتعارضين المتكافئين

______________________________

و ليعلم: ان مقتضى حكم العقل، و بناء العقلاء في الأمارتين المتعارضتين المتكافئتين عدم كاشفيتهما الفعلية للواقع عند المعارضة للتكاذب بينهما، و الواقع ليس الا واحد منهما، و حيث انه لا ترجيح لإحديهما على الأخرى يكون الأخذ بإحداهما المعينة ترجيحا بلا مرجح فتتساقطان عن درجة الاعتبار، و لذا قرر شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في باب التعادل و الترجيح: ان الأصل الاولى في الخبرين المتعارضين التساقط، و عدم حجيتهما.

و لكن حكم العقل و العقلاء بالتساقط ليس بنحو لا يمكن التعبد بأحدهما، فإن كان هناك دليل على الأخذ بأحدهما فيؤخذ به.

و قد ورد في الخبرين المتكافئين: أنه بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك.

وجوه لإلحاق الفتويين المتعارضتين بالخبرين و تزييفها

و اما في المقام فقد يقاس الفتوى بالخبر: اما لكون الفتوى بحسب الدقة الخبر أو بعد إلغاء خصوصية الخبرية، أو لإحراز المناط القطعي و ان البابين من واد واحد.

و لكن لا يخفى عدم تمامية شي ء منها، و لا أقل من الشك في ذلك، للفرق الواضح بين الفتوى و الخبر، و لذا لا يصدق كتاب الحديث على الرسالة العملية و بالعكس و لو سلم كون الفتوى بحسب الدقة خبرا، الا انه لم يفهم العرف ذلك مما دل على التخيير في الخبرين المتكافئين لانصرافه الى الروايتين.

كلمة حول إحراز المناط القطعي

و إحراز المناط القطعي تخرص بالغيب. و انى لنا و الاطلاع على علل الأحكام و مصالحها؟! إلا في موارد مخصوصة، مع ما ترى من نهى أئمة أهل البيت عليهم السّلام عن القياس في الدين يرشدك الى ما ذكرنا.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 326

..........

______________________________

ما روى من ردع الامام الصادق عليه السّلام: ابان بن تغلب الذي هو من أجلاء أصحابه عن الحكم بالمقايسة مع ان الظاهر انه كان ابان يعتقد جزما من طريق القياس ان دية قطع أربع أصابع المرية أربعون إبلا، و كان يرى خلاف ذلك رأى الشيطان و يتبرء من القائل به، و مع ذلك قال عليه السّلام: مهلا يا أبان أخذتني بالقياس و السنة إذا قيست محقت ان المرية تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف، فحكم عليه السّلام بأن دية قطع أربع أصابع المرية عشرون، و انه حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

يستدل للتخيير في المقام بوجوه أخر
اشارة

منها: إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه فإنها كما تشمل فتوى هذا المجتهد كذلك تشمل فتوى المجتهد الأخر و النتيجة هو التخيير.

و فيه: انه ذكرنا ان إطلاق الأدلة لا يشمل المتعارضين و لا أحدهما المعين لان شموله لهما معا يستلزم الجمع بين الضدين، أو النقيضين، و لأحدهما ترجيح بلا مرجح.

و منها: بناء العقلاء حيث يدعى انه على التخيير في أمثال المقام و لم يسمع توقفهم في العمل برأى واحد من أهل الخبرة عند المخالفة.

بل سيرة المتشرعة جارية على ذلك لأنهم يعتمدون على فتوى أحد المجتهدين المتساويين و لا يتوقفون في ذلك بوجه.

و لكنه: يدفع بعدم تحقق البناء كذلك من العقلاء لما نشاهد منهم انهم عند مخالفة

نظر الطبيب لطبيب آخر مساوي له لا يعتمدون برأي أحدهما و انما يحتاطون إن أمكنهم ذلك.

______________________________

(1) الوسائل باب 44 من أبواب دية الأعضاء ح 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 327

..........

______________________________

كما انه لم يثبت سيرة المتشرعة على التخيير، و لو سلم فلم يحرز اتصالها بعصر المعصوم عليه السّلام حتى يستكشف رضاه و لو بعدم الردع لأنه من الجائز ان تكون السيرة على تقدير كونها كذلك ناشئة من فتوى المفتين من أصحابنا.

و منها: الإجماع على التخيير في المسئلة

و نوقش أولا: بأن المسئلة حادثة و لم يتعرضها القدماء في كلماتهم فكيف يدعى الإجماع؟!.

و ثانيا: ان الإجماع على تقديره محتمل المدرك لو لم يكن مقطوع المدرك فلم يحرز كونه إجماعا تعبديا حتى يستكشف به قول المعصوم عليه السّلام.

و ثالثا: انه إجماع منقول بخبر الواحد و قد تقرر عدم حجيته.

فتحصل ان الأصل في تعارض الفتويين المتساويتين من حيث الفضيلة التساقط و لم يكن ما يدل على التخيير.

اللهم الا ان يقال كما صرح أستادنا العلامة دام ظله: بتسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين و عدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين اه «1».

المقام الثاني في المتساويين في الفضيلة إذا كان أحدهما أورع

اشارة

حكى عن النهاية و التهذيب، و ذكري، و الدروس، و الجعفرية، و المقاصد العلية، و المسالك و غيرها ترجيح الأورع من الفقيهين المتساويين من حيث الفضيلة و قواه شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة و استظهر الشهرة على ذلك بل حكى عن المحقق الثاني الإجماع عليه «2».

______________________________

(1) الرسائل بحث الاجتهاد و التقليد/ 150.

(2) رسالة التقليد/ 90.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 328

..........

______________________________

و قال الشهيد الثاني: إذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتائهم فان اتفقوا في الفتوى أخذ بها، و ان اختلفوا وجب عليه الرجوع الى الأعلم الأتقى، فإن اختلفوا في الموضعين رجع الى اعلم الورعين و أورع العالمين، فان تعارض الأعلم و الأورع قلد الأعلم، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر و ان بعد الفرض و ربما قيل بالتخيير مطلقا لاشتراك الجميع في الأهلية و هو قول أكثر العامة و لا نعلم به قائلًا منا، بل المنصوص عندنا هو الأول اه «1».

توضيح الحال: يستدعي البحث أولا فيما يقتضيه عقل العامي في نفسه ثم فيما

يقتضيه وظيفة المجتهد فيما يستظهره من الأدلة.

مقتضى حكم عقل العامي في أورع الفقيهين

اما ما يقتضيه عقل العامي نفسه من غير تقليد فاجماله ان أول ما يدركه عقله هو الرجوع الى الأورع بل الى كل ماله مزية و ترجيح حسبما فصلناه في مسئلة تقليد الأعلم و ان كان في نفسك شي ء مما ذكرنا فراجع مقالتنا هناك.

ما يقتضيه نظر الفقيه في المسئلة

و اما ما يقتضيه وظيفة المجتهد فتوضيح المقال فيه يستدعي البحث عن صور المسئلة، لأنه تارة يعلم موافقة الأورع مع غيره في الفتوى، و اخرى يعلم مخالفته مع غيره فيها و ثالثة لا يعلم شي ء منهما.

و قد أشرنا في مسئلة تقليد الأعلم عدم لزوم تعين تقليد الأعلم فيما إذا كانا متوافقين في الفتوى فما ظنك لتعين الأورع منهما في ذلك فلا تكون الأورعية مرجحة عند التوافق في الفتوى.

و كذا في صورة عدم العلم بالمخالفة في الفتوى لما عرفت من قيام السيرة على المراجعة الى غير الأفضل مع احتمال مخالفته للأفضل فلا تكون الأورعية مرجحة أيضا.

______________________________

(1) منية المريد/ 304.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 329

وجوه لترجيح فتوى الأورع عند العلم بالمخالفة بينه و بين الورع

______________________________

و اما في الصورة الثالثة فغاية ما يمكن ان يوجه لترجيح فتوى الأورع مضافا الى دعوى الإجماع بوجوه أشار الى ما عدى الوجه الثالث منها شيخنا العلامة الأنصاري في الرسالة «1».

الأول: مقبولة عمر بن حنظلة.

قال عليه السّلام الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما.

في الحديث، و أورعهما و لا يلتفت الى الأخر «2».

فإنه عليه السّلام في مقام ترجيح أحد الحكمين رجح الأورعية فيستفاد منه لزوم الأخذ بما يقوله أورعهما عند المعارضة.

و نحوها: رواية داود بن حصين عن ابى عبد اللّه عليه السّلام.

في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال ينظر إلى أفقههما، و أعلمها بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الأخر «3».

الثاني: المرسل المروي انه لا يحل الفتيا الا لمن كان اتبع أهل زمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قد جعله العلامة الأنصاري مؤيدا

للمقبولة.

الثالث: كون فتوى الأورع أقرب الى الواقع من غيره.

الرابع: الأصل العقلي و هو دوران الأمر بين التعيين و التخيير بلحاظ ان فتوى الأورع مقطوعة الحجية بخلاف غيره.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 90.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.

(3) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 330

..........

______________________________

و بالجملة بعد ما كان العامي مكلفا بالرجوع الى أحد الفقيهين المتساويين في الفضيلة فإذا كان أحدهما أورع و دار الأمر بين ان تكون فتوى كل منهما حجة تخييرية أو تكون فتوى الأورع حجة تعينية فالعقل يحكم عند ذلك بالأخذ بفتوى الأورع.

استشهد سيد مشايخنا في المستمسك بهذا الوجه «1».

تضعيف الوجوه المذكورة

و لكن لا يتم شي ء من هذه الوجوه.

اما الإجماع: فدعواه في مسئلة لم تكن معنونة في كلمات القدماء كما ترى، مع انه محتمل المدرك، أو مقطوعة، لأنه من القريب جدا كون مدرك المجمعين سائر الوجوه التي يذكر في المسئلة، أضف الى ذلك انه إجماع منقول بخبر الواحد و لم يثبت حجيته كما قرر في محله.

و اما المقبولة و رواية داود ففيهما انهما واردتان في باب القضاء و قد ذكرت الأورعية مرجحة لأحد الحكمين، و أين هذا مما نحن فيه لما أشرنا أن المرجح في باب الحكومة لا يلزم ان يكون مرجحا في باب التقليد.

و اما المرسل ففيه أولا: انه ضعيف سندا و لم يعلم استناد شخصه به.

و ثانيا: ان مقتضاه مرجحية الأورعية في أصل التقليد لا في مورد التعارض الذي هو مفروض البحث، و لم يقل به أحد.

و بالجملة اعتبار الأورعيّة في المقلد و اتبعيّته برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أهل زمانه كما هو مفاد

الخبر مخالف للإجماع و لم يقل به أحد، و لا يبعد ان يكون المقصود من المرسل بيان منصب الإمامة تعريضا بمن تصدى لمنصب الإمامة ممن ليس أهلا له.

و اما حديث الأقربية: فمضافا الى عدم تطرق ذلك غالبا في الأورعية في مقام العمل فقد عرفت عدم تماميته صغرى، و كبرى، و انه ربما تكون فتوى غير الأورع موافقة للاورع من الأموات الذين يكون أورع من الحي بمراتب.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 31.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 331

..........

______________________________

و اما الأصل العملي: فللقطع بعدم مدخلية الأورعية في مقام العمل في زيادة المناط في حجية الفتوى فلا يكاد تجري أصالة التعيين عند الدوران بينه و بين غيره، و انما تجري فيما احتملنا دخل الخصوصية المشكوكة في الحجية و الكاشفية لا في كل خصوصية و جهة و الا فلا بد فيما إذا كان أحدهما أسن من الأخر، أو أحفظ من الأخر، و نحو ذلك ان يقال بتعين الأخذ بفتوى الأسن و الاحفظ الى غير ذلك و هو كما ترى و بالجملة لا تكون لفتوى الأورع قوة لم تكن لفتوى غير الأورع حتى يوجب انقلاب ما علله العقلاء من التخيير إلى الأخذ بفتوى الأورع.

نعم لو كانت الأورعية دخيلة في شدة اهتمامه و تحفظه على خصوصيات الأدلة كالفحص الأكيد عن القرائن و غيرها، و الدقة الشديدة في الاستنباط بان يبالغ في بذل جهده في الإحاطة بمدارك الحكم فلا يبعد القول باعتبارها.

الاحتياط اللزومي لترجيح الأورعية في مقام الاستنباط

فما افاده بعض الأساطين (دام ظله): من عدم دليل على الترجيح بالاورعية الكذائية ما لم يرجع الى الأعلمية بعد اشتراكهما في المقدار اللازم في بذل الجهد في مقام الاستنباط «1» لا يخلو عن ضعف

لاحتمال مدخليتها في قوة الاستنباط بعد ذهاب ثلة من الفقهاء على لزوم الأخذ به و دعوى الإجماع عليه و رجوع بعض مراتب الأورعية الى الأعلمية.

فتحصل مما تقدم ان الأحوط الأولى الترجيح بالاورعية في مقام العمل و اما الأورعية في مقام الاستنباط فبالاحتياط اللازم و اللّه العالم بأحكامه.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 95.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 333

[مسئلة 14- الرجوع إلى فالأعلم في الاحتياطات]

اشارة

مسئلة 14- إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسئلة من المسائل يجوز (1) في تلك المسئلة الأخذ من غير الأعلم (2) و ان أمكن الاحتياط.

______________________________

(1) هذا إذا لم تكن للأعلم فتوى بالحكم الواقعي، و لا الظاهري، كما إذا احتاط في الشبهة قبل الفحص عن الدليل، أو لاحتياج الفتوى الى فحص زائد لم يتيسر له بعد، و احتمل مطابقة فتوى غير الأعلم للواقع، و ذلك مثل ما قد يجاب بالاحتياط في بعض الاستفتاءات، و يقال مثلا ان المسئلة محتاجة إلى مزيد التأمل، و اما إذا رأى الأعلم فتوى غير الأعلم خطأ و انه لم يتفحص في المسئلة كما هو حقه، أو كان احتياطه للخدشة و الاشكال في مستند فتوى غير الأعلم، فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم، و المتعين عليه حينئذ الاحتياط، و بالجملة كل مورد إذا اخطاء الأعلم غير الأعلم في فتياه لا يجوز له المراجعة اليه، و اما في غير ذلك فيجوز.

(2) مع مراعاة الأعلم فالأعلم حسب ما علقناه في المسئلة الثانية عشر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 334

أنحاء احتياطات الأعلم

أقول: عدم الفتوى للأعلم في الحكم الواقعي تارة يكون لعدم مراجعته كما هو حقه بمدارك المسئلة لاحتياج المسئلة الى فحص زائد لم يمكنه بعد و ذلك كما قد يقال: ان المسئلة محتاجة إلى التأمل، أو مزيد التأمل، أو لا يخلو عن النظر، أو غير خال عن الاشكال. و نحو ذلك من العبائر، فاحتياط الأعلم في هذه الموارد بلحاظ عدم تيسره للفحص اللازم عن الأدلة، و كون الشبهة بدوية قبل الفحص.

و اخرى للخدشة، و الاشكال بمدرك المسئلة، و عدم تمامية ما يحتج به غير الأعلم بفتواه.

و ثالثة: يكون للأعلم فتوى بالحكم

الظاهري كما إذا أفتى بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي و تعارض الأدلة، فالأعلم و ان لم يكن له علم بالحكم الواقعي في المسئلة الا انه يكون عالما بالحكم الظاهري و لذا يفتي بوجوب الاحتياط

جواز المراجعة الى غير الأعلم في بعض أنحاء احتياطات الأعلم

______________________________

ففي صورة الأولى، يجوز المراجعة الى غير الأعلم لكونه عالما و فقيها تشمله أدلة حجية الفتوى، من غير معارض له.

و بعبارة أخرى، حيث لم يكن للأعلم رأى و لا هو عالم بالحكم فعلا فلا مانع للمراجعة الى غير الأعلم.

و بعبارة ثالثة، وجوب تقليد الأعلم انما هو في فرض وجود الفتوى له، فاذا لم تكن له فتوى فعلا فلا موقع للمراجعة اليه بل تكون المراجعة إليه مراجعة الجاهل الى مثله.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 335

..........

______________________________

و لكن في الفرض لا بد له من مراعاة الأعلم فالأعلم إذا علم بمخالفة فتواه مع غيره تفصيلا أو إجمالا: أعني لا بد للمراجعة الى من هو دون الأعلم و لكنه أعلم بالإضافة إلى غيره إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره تفصيلا أو إجمالا، و إذا لم يكن للأعلم الإضافي أيضا رأى رجع الى غير الأعلم بالإضافة اليه مع اشتراط ان يكون أعلم بالإضافة إلى غيره من المجتهد إذا علم بمخالفة فتواه تفصيلا أو إجمالا لغيره و هكذا.

و بالجملة لا بد له من مراعاة الأعلم فالأعلم مع العلم بمخالفة فتواه لغيره إجمالا أو تفصيلا.

و لا يخفى انه لا يفرق في جواز المراجعة الى غير الأعلم بين إمكان الاحتياط و عدمه لإطلاق ما دل على رجوع الجاهل الى العالم و لو في صورة إمكان الاحتياط، و قد عرفت ان المشهور يرون بطلان عمل تارك طريقي الاجتهاد و التقليد، و لا يرون

الاحتياط في عرضهما، و نحن و ان ناقشنا ذلك الا انه يمكن الاستيناس بذلك لعدم الإشكال في جواز الرجوع الى غير الأعلم.

و اما على الثاني فلا وجه للرجوع الى غير الأعلم لان مدرك فتوى غير الأعلم حسب الفرض مخدوش في نظر الأعلم و هو يرى فساد فتواه المستندة الى ما لا يصلح للاحتجاج به.

و بالجملة الأعلم حسب الفرض يرى عدم استقامة فتواه و عدم صلوحه للاحتجاج ففي الفرض يتعين على العامي الاحتياط و لا يجوز له العمل بفتوى غير الأعلم.

و كذا في الصورة الثالثة لا يجوز له المراجعة الى غير الأعلم فان الأعلم و ان لم تكن له فتوى بالحكم الواقعي الا انه عالم بالحكم الظاهري، و لذا حكم و افتى بالاحتياط كما في موارد العلم الإجمالي و تعارض الأدلة فلا بد له من تقليده لأنه لم يشترط في وجوب تقليده ان يكون للأعلم فتوى بالحكم الواقعي، فافتاء الأعلم بالحكم الظاهري أيضا يمنع عن حجية فتوى غير الأعلم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 336

..........

______________________________

و من أمثلة ذلك ما إذا سافر الرجل إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع من يومه، أو خرج الى ما دون المسافة من محل إقامته أو غير ذلك من موارد تعارض الأدلة و وجود العلم الإجمالي بوجوب القصر أو التمام.

و بالجملة كل مورد إذا اخطاء الأعلم غير الأعلم في فتياه لا يجوز المراجعة اليه و العمل بفتواه و اما في غير ذلك فيجوز.

و بما ذكرنا يظهر ضعف جواز المراجعة في المفروض الى غير الأعلم بلحاظ انه عالم بالحكم، و لم يكن يعلمه الأعلم توضيح الضعف لائح مما ذكرنا فتدبر و اللّه العالم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 1، ص: 337

[مسئلة 15- يجب في نفس مسئلة البقاء تقليد الحي الأعلم]

اشارة

مسئلة 15- إذا قلد مجتهدا كان يجوز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسئلة، بل يجب (1) الرجوع الى الحي الأعلم في جواز البقاء و عدمه.

______________________________

(1) بحكم العقل الارتكازى، فلا ينافي جواز البقاء على تقليد الميت من ناحية فتوى الحي بالجواز.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 338

..........

______________________________

يجب في مسئلة البقاء تقليد الحي الأعلم أقول: تنقيح المقال فيها يستدعي البحث في جهات.

الجهة الاولى في تفسير العبارة

قال سيد مشايخنا (قدس سره):

«ان ظاهر العبارة يعطي ان المراد ان من قلد مجتهدا في المسائل الفرعية و كان ذلك المجتهد يرى جواز البقاء على تقليد الميت لا يجوز للمقلد البقاء على تقليده في هذه المسئلة بل يجب الرجوع الى الحي الأعلم في جواز البقاء و عدمه، و احتمل ان يكون المراد ان من قلد مجتهدا في خصوص مسئلة البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لا يجوز البناء على تقليده إلخ». «1»

و قد يوجه عبارة المتن بإرادة الأعم من المسائل الفرعية و مسئلة البقاء على تقليد الميت.

«بان الظاهر من العبارة بضميمة أن التقليد عند المصنف هو الالتزام بالعمل هو انه قلد المجتهد حتى في مسئلة جواز البقاء على تقليد الميت بمعنى انه التزم في نفسه ان يعمل بجميع ما في رسالة مقلده مثلا و كان من جملته هذه المسئلة لا انه

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 32.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 339

..........

______________________________

قلده في خصوص المسائل الفرعية، و لا في خصوص مسئلة البقاء» «1».

الجهة الثانية في مدرك الفتوى

من الواضح ان ما يدركه عقل العامي في باب التقليد هو تحصيل المؤمّن الشرعي، أو العقلي، و حيث وقع الكلام في اعتبار الحيوة في مرجع الفتوى فبعد موت المجتهد الذي كان يقلده لا يكاد يحصل له المؤمّن إلا بتقليد الحي الأعلم أو بإجازته للقطع بحجية فتواه عند ذلك، و عدم استقلال عقل العامي لجواز البقاء في مسئلة البقاء و لا غيره، و لا يجوز له البقاء على تقليد الميت بفتوى الميت لسقوط فتواه عن الحجية بموته. و لا يصح ان يعتمد على فتواه بفتوى نفسه بجواز البقاء لأنه دور واضح.

و بالجملة عقله الارتكازي كما

يلزمه في الخروج عن عهدة التكاليف بأصل التقليد، و في دوران الأمر بين الأعلم و غيره بالرجوع إلى الأعلم، فكذلك يلزمه بعد موت مجتهده الرجوع الى المجتهد الحي و هو واضح.

الجهة الثالثة في رفع التنافي بين ما في هذه المسئلة و ما في المسئلة التاسعة.

قد يقال ان ما أفتاه في هذه المسئلة- و هو عدم جواز البقاء في مسئلة البقاء- ينافي ما أفتاه في المسئلة التاسعة من جواز البقاء على تقليد الميت و يكون ما أفتاه في هذه المسئلة مقيدا لما أطلقه في تلك المسئلة فيصير مرجع المسئلتين الى جواز البقاء على تقليد الميت إلا في مسئلة البقاء.

و لكن يناقش بأنه لا وجه للتفرقة في جواز البقاء على تقليد الميت بين مسئلة

______________________________

(1) الجوهر النضيد/ 38.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 340

..........

______________________________

البقاء و بين سائر المسائل لأنه ان قلنا ان التقليد عبارة عن الالتزام أو التعلم للعمل و قد التزم بالعمل في جميع المسائل، أو تعلم المسائل للعمل فيصح البقاء بالنسبة إلى مسئلة البقاء و ذلك واضح.

و ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل فلا بد من فرض العمل في هذه المسئلة من زمان حياة المفتي و لا وجه للتفصيل بين هذه المسئلة و سائر المسائل بجواز البقاء فيها دون هذه المسئلة.

قلت: ان قلنا بان التقليد عبارة عن العمل فكيف يفرض العمل في هذه المسئلة فتأمل.

و كيف كان يدفع التنافي بينهما: بان ما ذكره الماتن (قدس سره) هنا انما هو بالنظر الى ما يستقل به عقل العامي و ما هو وظيفته بحكم عقله الارتكازي بعد فوت مجتهده الذي كان مقلده و ما ذكره هناك انما هو بلحاظ ما اقتضاه ما دل على جواز البقاء، و ما هو وظيفة المجتهد من حيث الإفتاء في

هذه المسئلة، و من هنا لو رجع الى الحي الأعلم و أفتاه بجواز البقاء يجوز له البقاء على تقليد الميت في نفس هذه المسئلة اه.

الجهة الرابعة فيما يتصور لفتوى المجتهد الميت و المجتهد الحي في مسئلة البقاء على تقليد الميت و الأحكام المتفرعة عليها.

اشارة

لا يخفى ان فتوى المجتهد الميت في مسئلة البقاء لا تخلو عن: جواز البقاء أو وجوبه، أو حرمته، و كذلك الأمر في فتوى الحي: اما جواز البقاء، أو وجوبه أو حرمته، و بضرب الثلاثة في مثلها ترتقي الصور الى تسع صور.

قد أشرنا ان وظيفة العامي الرجوع الى الحي الأعلم و لا يجوز له البقاء على تقليد الميت لسقوط فتواه عن الحجية بموته و لا يجوز للمقلد ان يعتمد على فتاواه، بفتوى نفسه بجواز البقاء لأنه دور ظاهر.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 341

..........

______________________________

فإذا افتى الحي بحرمة البقاء لم يجز له البقاء على تقليد الميت، سواء كانت فتواه جواز البقاء، أو وجوبه، أو حرمته.

و بالجملة مع فتوى الحي بحرمة البقاء لا يبقى اى مجال لملاحظة ان الميت يفتي بأي شي ء و هو واضح.

و اما إذا أفتى الحي بجواز البقاء، أو وجوبه و كانت فتوى الميت حرمة البقاء فسيجي ء التعرض لهما من الماتن في المسئلة السادسة و العشرين (26).

و حاصله لزوم متابعة الحي و العمل بفتواه فيجوز له البقاء، أو يجب البقاء في غير مسئلة البقاء و لا مانع من البقاء على تقليد الميت فيها بفتوى الميت بحرمته لسقوط فتواه عن الحجية بموته فارتقب حتى حين.

و ان افتى كلاهما بالجواز فلا إشكال في جواز البقاء في سائر المسائل على رأى الميت مستندا بفتوى الحي القائل بجواز البقاء.

وجهان لعدم جواز البقاء في نفس مسئلة البقاء و دفعهما
اشارة

و اما جواز البقاء في نفس مسئلة البقاء فربما يقال بعدم الجواز لأمرين.

الأول: اللغوية و لزوم تحصيل الحاصل

لأنه بعد فتوى المجتهد الحي بجواز البقاء صارت فتاوى المجتهد الميت حجة معتبرة في جميع المسائل الفرعية- غير مسئلة البقاء- فيكون إثبات حجية فتوى الميت بالنسبة إلى تلك الفتوى من ناحية جواز البقاء لغوا ظاهرا غير محتاج اليه بل يكون من تحصيل الحاصل.

و بالجملة بعد ان صارت فتوى الميت بالنسبة إلى سائر الأحكام الفرعية بفتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت منجزا للواقع عند الإصابة و معذرا عند المخالفة فلا حاجة الى جعل الحجية، و المعذّرية للمرة الثانية لفتوى الميت بالنسبة إلى تلك الأحكام بتوسط مسئلة جواز البقاء و يكون من اللغو الظاهرة و تحصيل للحاصل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 342

الثاني: استلزام ذلك أخذ الحكم في موضوع نفسه و هو محال.

______________________________

و ذلك لان جواز البقاء حكم، فان شملت فتوى الحي بجواز البقاء لنفس جواز البقاء على فتوى الميت بجوازه يستلزم أخذ الحكم- و هو جواز البقاء- في موضوع نفس الجواز.

و لكن يمكن التخلص عن الأمرين

اما عن حديث اللغوية و لزوم تحصيل الحاصل فبفرض اختلاف نظر الميت و الحي فيما هو الموضوع للحكم بجواز البقاء و كانت دائرة موضوعه بنظر الحي أضيق منها عند الميت.

و ذلك لما عرفت ان دائرة موضوع مسئلة جواز البقاء مختلف فيها فبعض يرى جواز البقاء في خصوص المسائل التي عمل بها و بعض يرى اعتبار تعلم الفتوى و استحضارها و ان لم يعمل بعد، و بعض يرى كفاية التعلم و الالتزام لكن بشرط العمل في بعضها، الى غير ذلك من الأقوال.

فإن كان موضوع جواز البقاء عند الحي مثلا مشروطا بما إذا عمل بالفتوى حال حيات المفتي و لكن كان موضوع البقاء عند الميت مجرد الالتزام بالعمل و ان لم يعمل بعد، فحيث ان فتاوى الميت قد صارت حجة شرعية بفتوى الحي بجواز البقاء- كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر فتاويه بالنسبة إلى الأحكام- فكأنه حيّ لم يمت فتصير فتوى الميت بجواز البقاء بالإضافة الى من التزم فتاواه للعمل و ان لم يعمل حجة.

فتحصل انه لا يلزم من شمول جواز البقاء لنفس البقاء محذور اللغوية و كونه تحصيلا للحاصل و لكن لا بد و ان يكون المكلف واجدا لشرطية العمل بفتوى الميت في مسئلة جواز البقاء، و ذلك بان يكون قد عمل بها حال حياة المجتهد الميت- كما إذا قلده في تلك المسئلة و بقي على تقليد مجتهد ثالث من الأموات في المسائل التي التزم بها للعمل و لم يعمل بعده و ثمرتها جواز البقاء على

تقليد الميت حتى فيما

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 343

..........

______________________________

لم يعمل به من المسائل و انما التزم بالعمل بهذا.

و اما التخلص عن أخذ الحكم في موضوع نفسه فواضح لأنه بفتوى الحي بجواز البقاء صارت فتاوى الميت حجة شرعية و من جملة فتاويه جواز البقاء، و أثر حجية ذلك جواز البقاء على تقليده حتى فيما لم يعمل به من المسائل فهناك أحكام على موضوعاتها الثلاثة:

1- فتوى الحي بجواز البقاء.

2- فتوى الميت بجواز البقاء.

3- حكم موضوعات المسائل من وجوب السورة في الصلاة، و نجاسة عرق الجنب من الحرام الى غير ذلك.

و هذه أحكام مترتبة لأنه بثبوت حجية فتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت تثبت حجية فتوى الميت بالجواز، و إذا ثبتت حجية فتواه تثبت أحكام موضوعات المسائل فلم يلزم أخذ الحكم في موضوع شخص حكمه.

و اما إذا كانت فتوى كل من الحي و الميت وجوب البقاء

فالكلام فيه هو الذي ذكرناه في الصورة المتقدمة إشكالا و جوابا طابق النعل بالنعل فلاحظ و تدبر.

و اما إذا أفتى الحي بوجوب البقاء، و الميت بجواز البقاء

فقال شيخنا العلامة الأنصاري.

«ان فتوى الحي بوجوب البقاء لا تشمل مسئلة البقاء بل تخص سائر المسائل للزوم التناقض على تقدير الشمول و هو كون فتوى الميت حجة تعيينية؟؟؟ و حجة تخييرية و ذلك لان مقتضى فتوى الحي بوجوب البقاء على تقليد الميت في المسئلة حجية قول الميت تعيينا مع ان مقتضى فتوى الميت في المسئلة بجواز البقاء حجية قوله تخييرا فلو فرض شمول فتوى الحي بوجوب البقاء لفتوى الميت بجواز البقاء فمقتضاه جواز الرجوع من الميت إلى الحي مع ان الحي يفتي بعدم جواز الرجوع و يعيّن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 344

..........

______________________________

البقاء و هذا مما لا يجتمعان» «1».

و أجيب عنه كما عن بعض الأساطين دام ظله:

ان ذلك انما يلزم إذا كان موضوع الجواز عند الميت متحدا مع ما هو الموضوع لمسئلة الوجوب عند الحي، إذ على تقدير الاختلاف كانت دائرة موضوع الوجوب عند الحي أوسع منها لدى الميت.

و اما إذا كان موضوع الجواز عند الميت أوسع منها لدى الحي فإن كانت فتوى الميت بجواز البقاء بمجرد الالتزام و ان لم يعمل و كانت فتوى الحي بوجوب البقاء مع العمل فلا يلزم المحذور المتوهم، لان فتوى الحي بوجوب البقاء قد جعلت فتاوى الميت حجة بالنسبة الى ما عمل به المقلد و قد فرضنا انه عمل بفتوى الميت بالجواز في مسئلة البقاء، و بعد حجية فتواه. في تلك المسئلة جاز للمقلد كل من العدول و البقاء فيما افتى به المجتهد الميت حتى فيما لم يعمل به مع الالتزام به ففي المسائل التي لم

يعمل بها المقلد حال حياة الميت لم تجتمع حجتان لان كون فتوى الميت حجة تعينيية انما هو في خصوص المسائل التي عمل بها، و اما فيما لم يعمل بها فليس فيها الا فتوى الميت بجواز البقاء و هي حجة تخييرية فحسب.

هذا أولا.

و ثانيا: انه لا مانع من اجتماع الحجية التعينية و الحجية التخييرية في مورد واحد لأن الحجية التعينية انما تثبت لفتوى الميت ببركة فتوى الحي بوجوب البقاء بما هي فتوى الميت، و لا ينافي ذلك كونها حجة تخييرية بلحاظ ان الحجة قامت على جواز العدول بتوسط فتوى الميت بالجواز.

و هذا نظير ما إذا أفتى غير الأعلم بوجوب تقليد الأعلم و الأعلم أفتى بجواز تقليد غير الأعلم، فإن فتوى غير الأعلم و ان لم تكن حجة بعنوان انه فتوى غير الأعلم الا انها بعنوان ان الحجة- و هي فتوى الأعلم- قامت على حجيتها متصفة بالحجية

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 70.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 345

..........

______________________________

من دون ان يكون بين الحكمين اى تهافت لأنهما بعنوانين مختلفين و هو من اجتماع عدم الحجية بالعنوان الاولى و الحجية بالعنوان الثانوي انتهى ملخصا «1».

حكم ما إذا أفتى الحي بجواز البقاء و الميت بوجوبه

و اما عكس الصورة السابقة و هي ما إذا أفتى الحي بجواز البقاء و افتى الميت بوجوبه فحيث ان فتوى الحي بجواز البقاء معناها ان المكلف مخير حدوثا و بقاء بين البقاء على تقليد الميت و العدول عنه فيجوز البقاء على آراء الميت كما يجوز له العدول عنه.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1،

ص: 345

و لا موقف لفتوى الميت بوجوب البقاء لسقوطه عن الحجية الفعلية بموته و لذا يجب العدول عنه بموته إلى الحي الأعلم.

فاذا المقلد مخير بين العدول عن الميت إلى الحي و البقاء على آرائه، و معه إذا رجع الى الميت في مسئلة البقاء لم يجب عليه ان يبقى على تقليده في بقية المسائل الفرعية له ان يعرض عن البقاء و يعدل إلى الحي.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 187.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 347

[مسئلة 16- حكم عمل الجاهل المقصر و القاصر]

اشارة

مسئلة 16- عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل (1) و ان كان مطابقا للواقع، و اما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حين العمل و حصل منه قصد القربة، فإن كان مطابقا لفتوى المجتهد الذي قلده بعد ذلك كان صحيحا و الأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.

______________________________

(1) الأظهر صحة عمل الجاهل إذا طابق عمله للواقع مطلقا، قاصراً كان أو مقصرا، ملتفتا كان أو غير ملتفت، سواء كان العمل مما يعتبر فيه قصد القربة أو لا- معاملة كانت أم لا- و عدم تمكن المقصر الملتفت من الجزم بالنية، و عدم إمكان استناده اليه تعالى جزما، لا يضر بصحته بعد كفاية مجرد الإضافة إليه تعالى، و هي حاصلة باحتمال تعلق التكليف بها واقعا فيأتي بالعمل برجاء درك الواقع على تقدير المطابقة، و لا ينافي ذلك ترك باقي المحتملات بدواع آخر كما لا يخفى، هذا إذا أحرز مطابقة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 348

..........

______________________________

العمل المأتي به للواقع علما، و لكنه لا يتفق للعامي إلا نادرا كما في اليقينيات و المسائل الواضحة، و لكن مطابقته لما يكون بحكم

الواقع- و هو فتوى من يجب عليه تقليده- غير عزيز. و لا وقع للإشكال في الصحة فيما إذا طابق رأى من يجب عليه تقليده و كان من يجب تقليده حين العمل هو الذي يجب عليه تقليده فعلا، و كذا إذا كان غيره و لكن كانت فتواه موافقة له، و انما الإشكال فيما إذا طابق عمله لأحدهما دون الأخر فهل الميزان مطابقة عمله لمن كان يجب عليه تقليده حال العمل، أو فعلا، أو يكفي مطابقته لأيهما، أو لا بد من مطابقته لهما فيحكم بالبطلان في المفروض وجوه و القول الأول أشبه شي ء بتقليد الميت ابتداء لسقوط فتوى المجتهد السابق عن الحجية بموته قبله و الا لما صح تقليد المجتهد الثاني، و لا يصلح فعلا للاستناد اليه، و الأشبه بالقواعد مطابقته لفتوى من يجب عليه تقليده فعلا، و رأيه و ان لم يكن حجة في ظرف العمل الا انه بعد اتصافه بالحجة يكون مفاده حكم كلي الهى يعم جميع الأزمنة فيستكشف به بطلان الأعمال التي لا تطابقها، و لم تكن مستندة الى الحجة، و مقتضاه لزوم الإعادة، أو القضاء، و بما ذكرنا يظهر ضعف الوجهين الآخرين، و لا يخفى ان الصحة حسب ما فصلناه لا ينافي استحقاق عقاب الجاهل المقصر المتهاون لحرمات اللّه غير المبالي بمخالفته للواقع أو ما هو بحكمه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 349

..........

______________________________

حكم عمل الجاهل المقصر و القاصر أقول: تقدم منه قدس في المسئلة السابعة: ان عمل العامي بلا تقليد، و لا احتياط باطل.

توهم منافاة ما في هذا المسئلة مع ما في المسئلة السابعة و دفعه

ربما يتوهم ان المسئلتين ترتضعان من ثدي واحد و ان ما ذكره قدس هنا تفصيل ما أجمله هناك، و لذا ترى بعض المحشين يعلق

ما هو نظره الشريف في إحدى المسئلتين، و يحيل المراجع فيها الى المسئلة الأخرى.

و لكن يبعد ذلك: لأنه من البعيد جدا ذكر مسئلة واحدة في محلين من باب واحد لم يفصل بينهما أكثر من صفحة واحدة.

لبطلان العمل معنيان

فالمراد بالبطلان في المسئلة السابعة ليس البطلان رأسا حتى لو انكشف الحال و ظهر مطابقة عمله للواقع أو ما هو بحكمه حتى يجب الإعادة بعد انكشاف الحال بل المراد هو البطلان بنظر العقل بمعنى عدم جواز الاكتفاء بعمله ما لم ينكشف مطابقة عمله للواقع أو ما بحكمه قضاء لقاعدة الاشتغال اليقيني المقتضية للبراءة اليقينية و لا يكاد يحصل الأمن من العقاب ما دام الجهل بالواقع أو ما بحكمه باقيا فاذا انكشفت مطابقة عمله لأحدهما فلا يحتاج إلى الإعادة أو القضاء.

و اما ما أفاده في هذه المسئلة فهو لبيان حكم أقسام الجهل بالحكم بلحاظ مطابقة العمل المأتي به للواقع أو ما بحكمه و عدم مطابقته لشي ء منهما.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 350

الفرق بين الجاهل المقصر و القاصر

______________________________

و ذلك لان الجاهل بالحكم الاتى بعمل اما يكون مقصرا، و المراد به من لم يتعلم الحكم و الوظيفة تهاونا، أو قاصراً، و المراد به من يقصر دركه عن معرفة الحكم

الأنحاء المتصورة لعمل الجاهل المقصر

و الجاهل المقصر اما يكون ملتفتا حين العمل، أو يكون غافلا عند ذاك، و على كل العمل المأتي به تارة يكون مطابقا للواقع، و اخرى يكون مطابقا لفتوى من يجب عليه تقليده حين العمل، و ثالثة يكون مطابقا لفتوى من يجب عليه تقليده بعد ذلك.

و على اى حال يقع الكلام طورا في استحقاق الجاهل بقسميه للعقاب إذا لم يكن اعماله مطابقة للواقع، أو ما بحكمه، أو مطلقا و ان كان مطابقة لهما، أو فيه تفصيل بين المقصر و القاصر و اخرى في صحة إعمال الجاهل بقسميه و بطلانه.

حكم الجاهل بقسميه من حيث استحقاق العقاب و عدمه

فنقول: لا ينبغي الإشكال في ان الجاهل القاصر لقصوره و قلة باعه و دركه و استعداده لا يستحق العقاب على شي ء من اعماله سواء كانت مطابقة للواقع أم مخالفة له.

و يحكمه من استند إلى أمارة شرعية أو فتوى من يجوز تقليده و كانتا مخالفتين للواقع لاستناده في اعماله إلى الحجة الشرعية و هذا واضح.

و اما الجاهل المقصر فحيث انه تهاون في أمر المولى و قصّر في الفحص و السؤال مع تنجز الواقعيات عليه في حقه فاذا خالف عمله للواقع أو ما بحكمه فيستحق العقاب و هو واضح.

بل قد يقال بإمكان الالتزام باستحقاق العقاب و لو وافق عمله للواقع، أو ما بحكمه إذا كان ملتفتا حال العمل لأنه مع الالتفات و احتمال صحة الفعل و فساده إذا اتى بالعمل غير مبال بمخالفته للواقع لكان مصداقا للتجري القبيح و بذلك يستحق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 351

..........

______________________________

العقاب على عمله و ان كان مطابقا للواقع.

صحة عمل الجاهل بقسميه إذا طابق عمله للواقع

و اما حكم عمل الجاهل من حيث الصحة و الفساد فلا بد و ان يفرض في أفعال يترتب على صحتها و فسادها اثر عملي بالإضافة إلى زماني الحال و الاستقبال.

كما إذا اتى بالعبادة جاهلا بحكمها في أول وقتها و التفت الى حكمها في أثناء الوقت أو خارجه حيث يترتب الإعادة، أو القضاء على بطلانها و عدمهما على صحتها.

و كذلك بالنسبة إلى المعاملة بالمعنى الأخص كما إذا أوقع عقد النكاح مثلا بغير العربية فإن قلنا بفساده فلا يحل الاستمتاعات فلا يجب الحقوق المترتبة على الطرفين بخلاف ما إذا قلنا بالصحة فيحل الاستمتاعات و يجب عليهما الحقوق.

و كذا الأمر في المعاملة بالمعنى الأعم فإنه إذا غسل المتنجس بالبول مرة

واحدة في الماء الكثير فان قلنا باعتبار التعدد في طهارة الثوب المتنجس بالبول- و لو كان الماء كثيرا- يكون الثوب متنجسا بعد و يجب غسل ملاقيه إذا لاقاه مع الرطوبة و ان لم نقل باعتبار التعدد في الغسل في الماء الكثير فلا يجب ذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا اتى الجاهل القاصر أو المقصر الغافل حين العمل بل الملتفت عند ذاك بعمل و كان مطابقا للواقع فلا وجه للحكم بالبطلان و ذلك لأنه ليس الاجتهاد أو التقليد شرطا لصحة عمل توصلي أو معاملي أو عبادي بل لأجل كونه طريقا لامتثال الأحكام الواقعية.

فاذا اتى المكلف بعمل من دون معرفة اجزائه و شرائطه باجتهاد أو تقليد و اتفق مطابقة عمله للواقع يترتب عليه آثار الصحة.

اما في التوصليات فواضح لأنه لا يعتبر في الأمر التوصلي غير كون المأتي به مطابقا للواقع قصد أم لم يقصد، ففي تطهير الثوب المتنجس مثلا إذا غسل بالماء مرتين مثلا تحصل الطهارة للثوب كان الآتي به قاصراً أو مقصرا بل غير قاصد أصلا

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 352

..........

______________________________

و كذا في المعاملات فيترتب عليها ما هو المترتب من صحة المعاملة ان كان المأتي بها واجدة لما اعتبر فيها واقعا و هو واضح.

و اما في العبادات فكذلك أيضا لأنه لا فرق بين العمل العبادي و العمل التوصلي الا انه يعتبر في العبادي زائدا على إتيانها حسب ما قرر في الشريعة إضافتها إليه تعالى و من الواضح إمكان صدوره من الجاهل بأقسامه.

اما القاصر، و كذا المقصر غير الملتفت فواضح لإمكان قصد القربة منهما و استناد العمل العبادي إليه تعالى.

و كذا المقصر الملتفت حال العمل.

نعم الملتفت حال العمل لا يمكنه الجزم

بكون المأتي به مأمورا به و لا يمكنه استناده اليه تعالى جزما الا بالتشريع المحرم.

عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة و دفع ما ينافيه

و قد أشرنا عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة لأن غاية ما يعتبر في صحتها إضافتها و استنادها اليه تعالى بنحو، و من الواضح ان الجاهل المقصر الملتفت يمكن اضافة عمله و استناده اليه تعالى برجاء امره فبعد مطابقة المأتي بها للواقع يكفي في صحتها و امتثالها و سقوط أمرها.

و بالجملة لا دليل على اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة بل يكفى فيها مجرد الإضافة إليه تعالى، و هي حاصلة باحتمال تعلق التكليف بها واقعا فيأتي بالعمل برجاء درك الواقع على تقدير المطابقة و لا يتأتى ذلك ترك باقي المحتملات لدواع أخر، و قد اوعزنا في مسئلة جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ما له نفع للمقام.

و توهم ان ما ذكرنا ينافي ما حكاه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عن المشهور بل ما حكى عن السيد الرضى في مسئلة الجاهل بحكم القصر الإجماع على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها، و عن أخيه السيد المرتضى تقريره على هذه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 353

..........

______________________________

الدعوى «1».

مدفوع أولا: بأنه إجماع منقول لم نقل باعتباره.

و ثانيا: بأنه لم يحرز كونه إجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم عليه السّلام لاحتمال ان يكون مستند المجمعين بعض الاعتبارات التي يذكر في المقام من اعتبار الجزم بالنية في العبادة، أو عدم تمشي قصد القربة من الجاهل الملتفت حال العمل الى غير ذلك.

و ثالثا: كما أفيد «يحتمل ان يكون مراد المجمعين بذلك»، البطلان العقلي بمعنى عدم الاكتفاء بالصلاة ما لم يحرز مطابقتها لحجة معتبرة» «2».

و لكن يبعد ارادة

ذلك لعدم اختصاص البطلان العقلي بالعبادة و الصلاة بل كما أشرنا سار في جميع الأعمال من غير فرق بين العباديات، و المعامليات و التوصليات

ذكر و تعقيب

ربما يحكى عن شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في موضعين من الرسائل ما يستفاد منه عدم الصحة في المفروض.

الأول: ما أفاده في الشبهة الوجوبية و هو ان من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثاله الأعلى تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا و هذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبد بها.

و بالجملة الاقتصار على بعض المحتملات مع البناء على عدم الإتيان بسائر المحتملات يدل على ان الباعث له ليس أمر المولى و إرادته و الا لأثر في سائر المحتملات.

الثاني: ما ذكره في خاتمة الأصول في مسئلة العمل قبل الفحص من عدم تحقق نية القربة لأن الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به و لكن يمكن دفع ما أفاده أولا: بأنه من الممكن ان يكون الاقتصار على

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 47.

(2) الدروس ج 1/ 104.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 354

..........

______________________________

بعض المحتملات لأجل ضعف الايمان في امتثال أوامر اللّه، فيكف عن إتيان جميع المحتملات بمجرد طرو المشقة و بعض الاعذار غير الموجهة، كما انه قد يوجب ذلك ترك العمل الواجب بالمرة، كما ان من له ايمان قوي يأتي بتمام المحتملات و ان بلغ ما بلغ، كما ان بينهما متوسطات، فعدم إتيان جميع المحتملات ليس لعدم ارادة الامتثال كيف؟! و هو بحسب الفرض بصدد إتيان امره تعالى، و منبعث عن بعثه.

و بالجملة ربما يكون المكلف لضعف ايمانه خائفا من المخالفة القطعية لأوامره تعالى و لا يخاف من المخالفة الاحتمالية فعند

الإتيان ببعض المحتملات تكون مخالفته لأوامره احتماليا.

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده ثانيا: مع انه لم يأت (قدس سره) وجها لمدعاه الا الاستعجاب و لعله لا وجه له، لان لاحتمال كون المأتي به مأمورا به كالعلم بذلك تأثير في داعوية الأمر الواقعي فتدبر.

فتحصل مما ذكرنا صحة إعمال الجاهل قاصراً كان أو مقصرا ملتفتا كان أو غير ملتفت إذا طابق عمله للواقع.

فلا يمكن المساعدة على ما هو المترائى من المتن من بطلان عمل الجاهل المقصر الملتفت مطلقا عبادة كانت أو غيرها.

فيمكن ان يقال ان الماتن (قدس سره) لا يقول بذلك مطلقا بل يريد بقرينة قوله في المقصر غير الملتفت:- و حصل منه قصد القربة- بطلان خصوص الأعمال العبادي من المقصر الملتفت، وجه البطلان عنده (قدس سره) بقرينة المقابلة عدم تمشي قصد القربة منه في عباداته، و يمكنه ذلك عند عدم الالتفات.

و قد أشرنا عدم تماميته لتمشي قصد القربة منه و صحة اضافة العمل اليه تعالى و لا فرق بينه و بين الجاهل غير الملتفت إلا في عدم تمشي الجزم بالنية منه و تمشيه من غير الملتفت و قد أشرنا عدم اعتبار الجزم بالنية في صحة العبادة و ان الإتيان بها برجاء المطلوبية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 355

..........

______________________________

إذا كانت مطابقة للواقع يكفي في سقوط أمرها و امتثالها.

و لا يخفى ان ما ذكرنا كله لا ينافي حكم العقل بان عمل الجاهل محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر ما لم ينكشف مطابقته للواقع- بلحاظ ان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية و لا يرى العقل الاكتفاء بذلك في مرحلة الظاهر و يرتفع إذا انكشفت مطابقة ما اتى به للواقع.

فتوى المجتهد الذي يجب تقليده بحكم الواقع

هذا كله إذا انكشف

و أحرز علما مطابقة العمل المأتي به للواقع و لكنه لا يتفق ذلك للعامي إلا نادرا كما في الضروريات و القطعيات و المسائل الواضحة و هي قليلة جدا.

نعم انكشاف مطابقة عمله لما يكون بحكم الواقع- اعنى فتوى المجتهد الذي يصح تقليده- فغير عزيز فلا بد من عطف عنان البحث حوله فنقول:

تارة يكون المجتهد الذي كان يجب على العامي تقليده حين العمل هو الذي يجب عليه تقليده بعد ذلك.

و اخرى يكون غيره، و على الثاني اما تكون فتاواهما متوافقتين، أو متخالفتين ففي الصورة الأولى تكون فتوى المجتهد بحكم الواقع في حقه فمع مطابقة عمله لها لا وقع للإشكال في صحته، و كذا فيما إذا تعدد الفقيهان و كانا متفقين في الفتوى كما لا إشكال في فساد عمله، و وجوب إعادته إذا كان مخالفا لكلتى الفتويين.

و انما الاشكال و الكلام فيما إذا كان عمله مطابقا لفتوى أحدهما و مخالفا للآخر فهل الميزان في الصحة مطابقة عمله لفتوى من كان يجب تقليده حال المراجعة، أو يكفي مطابقته لفتوى أحدهما، أو لا بد من مطابقة العمل لفتوى كليهما فيحكم بالبطلان في الفرض؟ وجوه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 356

مناط كون صحة العمل فتوى من كان يجب تقليده حين العمل و دفعه

______________________________

علق أستادنا العلامة البروجردي (قدس سره) على المتن بما نصه: مناط صحة عمل الجاهل قاصراً كان أو مقصرا عبادة كان العمل أو غيرها هو وقوعه مطابقا للواقع أو لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل نعم يكفي في إحراز الواقع فتوى من يجب عليه تقليده فعلا اه.

قلت: ما افاده (قدس سره) مبني على اجزاء الحكم الظاهري عن الواقع و سيجي ء التعرض لمقالة ففتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل هي الحجة في

حقه في ذلك الحال و فتاواه منجزة علم بها المقلد و استند إليها حال العمل أو لا هذا.

و لكن فيه انه كما قرر في محله و سيجي ء بعض الكلام فيه هو ان القول بالإجزاء انما يتم على القول بالسببيّة في الطرق و الأمارات و اما على القول بالطريقيّة كما هو الحق في اعتبار الأمارات مقتضاه عدم الاجزاء لان الأحكام الواقعية فعلى في حق كل أحد لا يتغير عما هو عليه بتغير الفتاوى و قيام الأمارات على خلافها، و حيث لم يستند الجاهل حال العمل بفتوى من يجب عليه تقليده، فلا يترتب على فتواه بصحة ذلك العمل أو فساده اثر بالإضافة إلى المكلف عند الشك في وجوب الإعادة أو القضاء لأنها قد سقطت عن الحجية بموت المجتهد حال المراجعة، و واضح ان الفتوى غير المتصفة بالحجية الفعلية لا يترتب عليها اثر بوجه فالمتعين في حقه الرجوع الى من يجب عليه تقليده في ظرف الرجوع.

و بالجملة بعد ثبوت الأحكام الواقعية و تنجزها لا بد للجاهل من الخروج عن عهدة التكاليف من مؤمّن و حيث لم يستند الى من كان يجب عليه تقليده حال العمل الى ان مات و سقط عن دائرة الحجية فاعماله غير مستندة بالحجة.

و نحن و ان نقول بعدم الاجزاء في صورة الاستناد أيضا الا انه يمكن الاحتجاج على عدم الإعادة و القضاء في صورة الاستناد و لعله القدر المتيقن من الإجماع على

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 357

..........

______________________________

تقدير ثبوته، أو يقال ان مقتضى قاعدة لا تعاد في باب الصلاة «1» عدم إعادتها في غير الخمسة المستثناة إذا أخل بشي ء منها بنحو من الأنحاء غير صورة العمد.

و القول بحجية

فتوى من كان يجب عليه تقليده حال العمل في الفرض أشبه شي ء بتقليد الميت ابتداء و قد عرفت بطلانه.

مناط صحة عمل الجاهل مطابقته لفتوى من يجب تقليده حال المراجعة

و فتوى المجتهد الذي يجب المراجعة اليه و ان لم تكن حجة في ظرف العمل- اما لعدم وجوده أو لعدم استجماعه الشرائط المعتبرة في مرجع الفتوى- و انما صارت حجة بعد موت المجتهد، أو فقدانه لشرط المرجعية الا انه بعد ما اتصفت بالحجية الفعلية يكون مفادها حكم كلي إلهي لا يختص بوقت دون وقت بل يعم الأزمنة الثلاثة- الماضي و الحال و الاستقبال- فبالفتوى المتأخرة الحادثة حجيتها يستكشف بطلان الأعمال السابقة في ظرف الصدور و مقتضاه لزوم الإعادة أو القضاء.

و الحاصل ان وجوب إعادة الأعمال السابقة و عدمه من المسائل التي يجب الرجوع الى المجتهد الذي تتصف فتواه بالحجية، و ليس هو الا المجتهد الفعلي لسقوط فتاوى المجتهد السابق في ظرف العمل عن الحجية بالموت أو زوال الصفة المعتبرة و لو لا سقوط فتاواه لما صح تقليد المجتهد الحاضر.

و بما ذكرنا كله ظهر حال سائر الأقوال في المسئلة فلا يحتاج الى تعرضها و ذكر الخلل فيها فتدبر و اغتنم.

______________________________

(1) و هي مفاد صحيحة زرارة المتقدم ذكرها في/ 268.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 359

[مسئلة 17- المراد من الأعلم]

اشارة

مسئلة 17- المراد من الأعلم من يكون اعرف (1) بالقواعد و المدارك للمسئلة، و أكثر اطلاعا لنظائرها و للأخبار، و أجود فهما للأخبار، و الحاصل ان يكون أجود استنباطا، و المرجع في تعيينه أهل الخبرة و الاستنباط (2).

______________________________

(1) و الحقيق ان يقال: كما أفيد ان المراد بالأعلم من يكون أقوى استنباطا من غيره في معرفة الكبريات و القواعد، و أحسن سليقة في تطبيقها على مصاديقها، كما هو المراد به في سائر الصناعات، و لا يبعد ان يكون مراده (قدس سره) بما في المتن: تعريف الأعلم بما

يكون من آثاره لا نفسه و اللّه العالم.

(2) لا تنحصر معرفة الأعلمية بالمجتهد كما سيجي ء منه (قدس سره) بل ربما تحصل لمن كان من أهل الخبرة و الدراية، و ليعلم ان معرفة الأعلمية المطلقة و لو للمجتهد لا يكاد يحصل الا بعد تحمل المشاق و السفر الى مظان وجود المجتهدين، و إتعاب النفس بعد إسقاط الأهواء النفسانية بالنظر الدقيق في آرائهم، و الحضور في مباحثاتهم الى غير ذلك فدون إثبات الأعلمية المطلقة غالبا تخرص بالغيب، كما لعله واضح لمن كان له قلب، أو القى السمع، و هو شهيد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 360

..........

______________________________

أقول: توضيح المسئلة يستدعي البحث في مقامين الأول في المراد بالأعلم و الثاني في المرجع في تعيينه.

المقام الأول المعاني المتصورة لمعنى الأعلم

اشارة

يحتمل بدوا ان يكون المراد بالأعلم أحد هذه المعاني.

الأول: ان يكون المراد بالأعلم: أكثر معلوما بحيث يشترك الأعلم مع غيره في العلم بعدة مسائل و يترجح عليه في العلم بمسائل آخر، مثلا يشتركان في استنباط الأحكام في باب العبادات و يختص أحدهما باستنباط أحكام المعاملات.

و الى هذا المعنى يشير ما يقال: ان المراد بالأعلمية من يكون أكثر إحاطة بالفروع و التضلع بكلمات الأصحاب و أقوالهم كما إذا تمكن من الجواب عن أية مسئلة ترد عليه و لو من الفروغ التي لا يبتلى بها الا قادرا، و لا يتحقق في الخارج أصلا، مع التضلع على أقوالها و موارد التعرض للمسئلة في كلماتهم.

و فيه: أن الملحوظ في العالم و الأعلم انما هو في موضوع واحد فيقال زيد عالم بباب العبادات مثلا و عمرو اعلم بها من زيد، و اما في المفروض فزيد غير عالم بباب المعاملات فلا يصح ان يقال ان عمرا

اعلم من زيد، ضرورة أنها متساويان في العلم بباب العبادات و في باب المعاملات يكون أحدهما عالم و الأخر ليس بعالم و ان شئت قلت كما أفيد الظاهر ان هذا المعنى و ان كان أقرب الى معنى التفضيل المدلول عليه لهيئة (أفعل) الا ان الظاهر كونه غير مراد القائلين بوجوب

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 361

..........

______________________________

تقليد الأعلم و لا يقتضيه الدليل المتقدم عليه «1».

الثاني: ان يكون المراد بالأعلم: أقوى و أشد علما بحسب مراتب الانكشاف بحيث يكون الجازم بحكم من دليله مقدما على المطمئن به، و هو على الظان به.

و فيه: ان الاجتهاد كما أشرنا يدور مدار قيام الحجة على الحكم و عدمه سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزما، أو ظنا أو لم ينكشف و قد أشرنا في تقديم قول الأعلم عند المناقشة في ان الاقريبة لا كبرى لها، و لا صغرى، بعض ما ينتفع به للمقام فلاحظ.

و بالجملة لم يكن الأمر في باب الاجتهاد دائرا مدار شدة الانكشاف و ضعفه بل المدار على قيام الحجة و عدمه.

الثالث: ان يكون المراد بالأعلم: من يكون أقوى مبني من غيره بحيث لا يزول اعتقاده بتشكيك المشككين في قبال من يمكن التشكيك في مبناه و أخذ المبنى منه.

و فيه: انه كما أشرنا لم يكن الأمر في باب الاجتهاد يدور مدار قوة المبنى و عدم إمكان زواله بالتشكيك، و انما تدور مدار قيام الحجة و عدمه، و من الواضح ان مجرد قوة المبنى مع عدم الإحاطة بجهات أخر للمسئلة لا تكفي في الأعلمية في الوظيفة الرابع: ما ذكره الماتن بعد قوله: و الحاصل ان يكون أجود استنباطا. و مال إليه العلامة الخوانسارى دام

ظله قال ان هذا التفسير للأعلم أولى.

و لكن في تعليقة العلامة الشاهرودي: ان تصوير الأعلم بهذا المعنى مشكل و تمييزه أشكل فلا يقاس بالصناعات نعم على التفاسير الأخر لا إشكال في تفسيره و تمييزه. فتأمل.

الخامس: ما يتراءى من عبارة المتن و حاصله ان يكون المراد بالأعلمية من كان واجدا لهذه الأمور:

1- اعرف بالقواعد و المدارك للمسئلة.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 37.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 362

..........

______________________________

2- و أكثر اطلاعا لنظائرها و أشباهها.

3- و أكثر اطلاعا للأخبار في المسئلة.

4- و أجود فهما للأخبار.

و فيه: انه عرفت مما ذكرنا في المعاني الثلاثة عدم دخالة بعض منها فيما هو الملاك في الأعلمية فما ظنك بضم بعضها ببعض.

و لعله يبعد ان يكون مراد المصنف (قدس سره) أيضا ذلك بل مراده تعريف الأعلم بما هو أثره فيكون المراد من الأعلم من تكون ملكته أشد و أقوى من ملكات غيره، و تلك الأمور من آثار الأشديّة.

و بالجملة الأمور المذكورة طرق معرفة الأعلمية لأنفسها فنسئل من جنابه و من يقول بمقاله ما المراد بأشدّية الملكة و اقوائيتها؟ فإن أراد بالأقوائية و الأشدية بحسب مراتب الانكشاف فقد عرفت حاله مما ذكرناه في المعنى الثاني للأعلم، و ان أراد الأقوى مبني بحيث لا يزول اعتقاده بتشكيك المشككين فقد عرفت حاله مما ذكرناه في المعنى الثالث فلاحظ و تأمل.

السادس: ان يكون أشد اقتدارا في القواعد و الكبريات اعنى المبادي التي تستنتج الأحكام منها كما إذا كان المجتهد في المطالب الأصولية و بعض المبادي أقوى من غيره.

و فيه: ان مجرد ذلك لا يكفى ما لم ينضم اليه حسن السليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها كما سنشير اليه عن قريب

لأنه رب شخص له اقتدار شديد بالكبريات الا انه ضعيف في تطبيقها على الصغريات.

المعنى اللائق لمفهوم الأعلم

و الذي ينبغي ان يقال في معناه كما أفيد: انه لم يرد في آية و لا رواية معتبرة لفظة الأعلم ليلاحظ ان المتفاهم من لفظتها بلحاظ هيئة التفضيل ماذا؟ بل الحكم بلزوم تقليد الأعلم انما هو لبناء العقلاء، أو حكم العقل من باب قاعدة الاشتغال،

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 363

..........

______________________________

فيكون وزان الأعلم في الفقه حال الأعلم في بقية العلوم، و من الواضح ان الأعلم في سائر العلوم هو الذي يكون أقوى استنباطا من غيره في معرفة الكبريات و قواعدها و أحسن سليقة في تطبيقها على مصاديقها.

ضرورة ان مجرد الأقوائية في معرفة الكبريات و القواعد لا يكفي في ذلك بل لا بد مع ذلك ان يكون اعرف بتطبيق تلك الكبريات و القواعد على مصاديقها.

فاذا كانت الأعلمية؟؟؟ في سائر العلوم عبارة عما ذكر فنقول بذلك في الفقه أيضا فيكون المراد بالأعلمية ما يكون أقوى و أدق في استنباط الكبريات الفقهية، و امتن استنتاجا للاحكام عن مباديها، و أدلتها، و أحسن من حيث تطبيقها على صغرياتها و مجرد الأشدية في معرفة الكبريات لا ينفع ما لم ينضم إليها حسن السليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها.

الا ترى ان الطبيب الأعلم ليس هو مجرد من كان أقوى معرفة بقواعد كلية الطب، أو كان أكثر اطلاعا على أقوال الأطباء و أنواع الأمراض، و طرق معالجتها و ادويتها ما لم ينضم إليها حسن تطبيق تلك الكبريات على مصاديقها «1».

المقام الثاني في المرجع في تعيين معنى الأعلم

اشارة

ربما يتوهم ان تفسير الأعلمية بالاجودية في مقام الاستنباط، أو المعنى الذي ذكرنا، أو بغيرهما يكون امرا غير محسوس لا طريق الى معرفته و تعينه و الشهادة عليه كما هو الشأن في سائر الأمور غير المحسوسة، و

لا بد في الشهادة ان تكون محسوسة مشاهدة لقوله صلّى اللّه عليه و آله: لمثل هذه (مشيرا الى الشمس) أشهد أو دع «2».

و لكن فيه: ان الأمر غير المحسوس إذا كان له طريق أو طرق محسوسة يمكن نيله و معرفته و يصح الشهادة له أو عليه، فكما يمكن معرفة شجاعة الرجل، و سخاوته،

______________________________

(1) الدروس ج/ 110. و التنقيح ج 1/ 202.

(2) باب 20 من أبواب الشهادات ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 364

..........

______________________________

و عدالته الى غير ذلك من الصفات و الملكات النفسانية بالآثار و العلامات الظاهرة المحسوسة الموجبة لصيرورة تلك الأمور كالمحسوس فكذلك الأمر في المقام فإن حقيقة القوة القدسية التي يعبر عنها بأنها نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء و ان لم تكن محسوسة الا انه يمكن التيل بها بواسطة الآثار اللائحة و الأمارات الواضحة، و لعل درك اجتهاد المجتهد، و واجديته لملكة الاجتهاد غير خفي على من زاوله، و باحثه في غير واحد من المسائل، و بعد معرفته و واجديته لملكة الاجتهاد إذا قايسه مع غيره من المجتهدين مرة بعد أخرى و كرة بعد كرة يقرب له معرفة الأعلمية كما لا يخفى.

و قد تحصل معرفته بكثرة الاطلاع على خصوصيات المسائل و قد تكون كثرة الاطلاع على المباني و جودة الفهم من الاخبار مطابقة و التزاما الى غير ذلك من الأمور مورثه لمعرفتها و يدركها الخبير و ان لم يمكنه بيانها و لعله مما يدرك و لا يوصف.

و لكن لا بد و ان يعلم ان حصول معرفة ذلك ليس سهلا قريبا بل لا بد من إتعاب النفس و الممارسة التامة و الدقة الشديدة، و تخلية النفس عن

الأهواء النفسانية التي لا تخلو منه الا الأوحدي من طلبة العلم، و تحمل المشاق في السفر الى البلدان و لا أقل إلى مظان وجود المجتهدين و الحوازات العلمية و مطالعة ما صدر عن أقلامهم الشريفة ان كانت لهم تأليف و تصانيف، أو ما صدر عن مقرري ابحاثهم، الى غير ذلك.

و الا فالحكم باعلمية شخص بمجرد حضور بحثه أو مطالعة آثاره و مقايسته مع فقيه، و مجتهد واحد، أو اثنين أو ثلاث، أو ما يقرب من ذلك في محل أو محلين فأمر عصير بل لعله يمكن ان يقال دون إثباته خرط القتاة، عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و التقول بما لا يعلم و لعل ما ذكرناه واضح لمن كان له قلب أو القى السمع و هو شهيد.

لا يختص تشخيص الأعلم بالمجتهد

ثم انه بعد الفراغ عن معرفة مفهوم الأعلم، و إمكان معرفة الأعلم في الخارج يقع الكلام في المرجع في تعيينه فهل يخص ذلك بالمجتهد أو يعم غيره وجهان بل قولان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 365

..........

______________________________

يظهر الأول من الماتن (قدس سره) في هذه المسئلة حيث قال: و المرجع في تعيينه أهل الخبرة و الاستنباط، كما يظهر الثاني من العلامة القمي (قدس سره) حيث علق على المتن بأنه لا تنحصر ذلك بأهل الخبرة و الاستنباط.

لا يبعد القول بعدم انحصار ذلك بالمجتهد و يصح لغير المجتهد معرفة ذلك أيضا ان كان من الخبراء و أهل العلم، كما هو الشأن في سائر أرباب الصنائع و الحرف فترى ان من لم يحسن الكتابة يمكنه تشخيص الخط الحسن عن غيره، و من لم يكن خطيبا بليغا يمكنه تشخيص الخطيب البليغ عن غيره الى غير ذلك من الأمثلة.

و ما

ذكرناه هو الظاهر مما ذكره الماتن (قدس سره) في مسئلة العشرين حيث قال: فإنه يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة اه فإن الجملة الأخيرة تدل على ان من لم يكن مجتهدا يمكنه معرفة اجتهاد المجتهد فإذا أمكنه ذلك أمكن معرفة الأعلم أيضا، و كذا إطلاق ما ذكره أخيرا في تلك المسئلة بقوله: و كذا الأعلمية فإنه يدل على ان غير المجتهد يمكنه معرفة الأعلمية.

و لكن و ليعلم انه كما أشرنا ان معرفة الأعلمية للأوحدي من المجتهدين لا يخلو من صعوبة فما ظنك بغير المجتهد فلا يكاد يحصل ذلك للاذكياء من أهل العلم الا مع تحمل المشاق و العناء الشديد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 367

[مسئلة 18- تقليد المفضول]

اشارة

مسئلة 18- الأحوط عدم تقليد المفضول (1) حتى في المسئلة التي توافق فتواه فتوى الأفضل.

______________________________

(1) قد أشرنا في المسئلة الثانية عشر الى موارد جواز تقليد المفضول، و انه في المسئلة التي توافق فتوى الأفضل فكما يجوز تقليد كل منهما يجوز تقليدهما معا بمعنى صحة الاستناد إليهما في مقام العمل.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 368

جواز تقليد غير الأعلم في المسئلة التي توافق فتواه لفتوى الأعلم

______________________________

أقول: تقدم عند الكلام على المسئلة الثانية عشر: ان تقليد الأعلم انما يلزم إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره، و لم تكن مخالفة للاحتياط، و إجماله عدم اقتضاء حكم العقل، و لا بناء العقلاء، أكثر من ذلك، فيجوز تقليد غير الأعلم فيما إذا وافقت فتواه لفتوى الأعلم، بمعنى جواز الاستناد الى فتواه و تطبيق العمل على رأيه، بل يجوز تقليد غير الأعلم في صورة عدم العلم بمخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم فيما هو محل الابتلاء.

ثمرة لتقليد غير الأعلم فيما توافق فتواه لفتوى الأعلم

قد يقال: انه لا ثمرة لتقليد غير الأعلم فيما إذا توافق فتواه لفتوى الأعلم لعدم دخل حيثية الأخذ و الالتزام في التقليد الذي هو موضوع الوجوب الشرعي، بمقتضى ما دل على رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها، و لا في مقام المصححية للعمل، و لا في مقام المعذرية، فلا محالة يكون العمل على طبق فتوى المعالم بعينه عملا على طبق فتوى الأعلم لكونهما مع توافقهما من قبيل تعدد الرواية في حكم المسئلة «1».

و لكن يمكن ان يقال بوجود الثمرة فيما إذا مات غير الأعلم فبناء على جواز البقاء على تقليد الميت يجوز البقاء على تقليده.

بل تظهر الثمرة فيما إذا مات الأعلم و قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميت فيتعين تقليد غير الأعلم فتدبر.

______________________________

(1) نهج الهدى/ 7.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 369

[مسئلة 19- تقليد غير المجتهد]

اشارة

مسئلة 19- لا يجوز تقليد غير المجتهد و ان كان من أهل العلم كما انه يجب على غير المجتهد التقليد (1) و ان كان من أهل العلم.

______________________________

(1) بالوجوب العقلي التخييري بينه و بين الاحتياط كما تقدم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 370

عدم جواز تقليد غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ

______________________________

أقول: تعرض الماتن (قدس سره) في هذه المسئلة لفرعين.

الأول: انه لا يجوز تقليد غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ و ذلك لاختصاص أدلة مشروعية التقليد بالفقيه العارف بالأحكام، و الناظر في الحلال و الحرام، و أهل الذكر الى غير ذلك من العناوين المنطبقة على من يكون واجدا لملكة الاستنباط و الاجتهاد فغير المجتهد و ان كان من أهل العلم و الفضل لكن حيث لا ينطبق عليه شي ء من العناوين فلا يجوز تقليده بل يتعين عليه تقليد المجتهد ان لم يمكنه الاحتياط و معه يتخير بينهما.

وجوب التقليد لغير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ

الثاني: انه يجب التقليد على غير المجتهد و ان بلغ من العلم ما بلغ لتطابق أدلة مشروعية التقليد، على مشروعية التقليد لغير العارف بالأحكام بل تعينه عليه ان لم يمكنه الاحتياط و الا فمخير بينه و بين الاحتياط لما تقدم منه قدس سره التصريح بذلك في المسئلة الاولى، و ذكرنا وجهه في ذيل المسئلة: ان العقل يحكم ان المكلف لا بد له في جميع أفعاله و تروكه ان يكون مجتهدا أو مقلدا أو محتاطا فاذا لم يكن مجتهدا فيجب عليه التقليد أو الاحتياط، و ان لم يمكنه الاحتياط فيتعين عليه التقليد.

إيقاظ

و قد ذكرنا في ذيل المسئلة الاولى وظيفة كل من كان واجدا لملكة الاجتهاد و لم يجتهد بعد فلاحظ.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 371

[مسئلة 20- طرق معرفة الاجتهاد و الأعلمية]

اشارة

مسئلة 20- يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني (1) كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة (2) و علم باجتهاد شخص، و كذا يعرف بشهادة عدلين من أهل الخبرة (3) إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد و كذا يعرف بالشياع المفيد للعلم (4) و كذا الأعلمية (5) تعرف بالعلم، أو البينة غير المعارضة، أو الشياع المفيد للعلم

______________________________

(1) و يلحق به الظن الاطمئناني.

(2) و ان لم يكن مجتهدا.

(3) و ان لم يكن مجتهدا.

(4) و في عده قسيما للأول نوع تسامح لأنه حسب الفرض أحد أسباب حصول العلم، و كيف كان يلحق به الشياع المفيد للاطمئنان، و الوثوق.

(5) حسبما علقناه في معرفة الاجتهاد.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 372

..........

______________________________

طرق معرفة الاجتهاد أو الأعلمية أقول: ظاهر العبارة بل صريحها هو ان اجتهاد المجتهد، أو أعلميته يثبت و يعرف بأحد الطرق الثلاث:

1- العلم الوجداني.

2- البينة إذا كانت من أهل الخبرة و لم تكن معارضة ببينة تنفى الاجتهاد، أو الأعلمية.

3- الشياع المفيد للعلم.

و في عد الثالث قسيما للأول نوع تساهل لأنه حسب الفرض أحد أسباب حصول العلم.

و كيف كان ثبوتهما بالعلم الوجداني واضح لان القطع عند القاطع كاشف عن الواقع و نفس الأمر بلا احتمال خلاف فيه، و هذا يكفي في حكم العقل و العقلاء بالتنجيز، و التعذير، و صحة الاحتجاج، و صحة الاحتجاج من الأحكام العقلائية الثابتة للقطع نفسه بلا جعل جاعل.

و بالجملة إذا قطع بشي ء فحيث ان القاطع

حال قطعه لا يحتمل الخلاف بل ينكشف الواقع لديه بزعمه و يرى الواقع على ما هو عليه، يكون ذلك موضوع احتجاج المولى على عبده و بالعكس من دون احتياج الى توسيط جعل تشريعي.

هذا مما لا اشكال و لا خلاف فيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 373

توهم عدم إمكان تحديد حجية القطع ببعض المبادي و دفعه.

______________________________

و لكن وقع الكلام في إمكان تحديده و تضييقه بلحاظ حصوله من بعض المبادي فقد يقال:

ان حجية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتا و لا نفيا و لذا قد يقال: ان مقال الأخباريين بأنه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب و السنة غير معقول، كما لا يعقل ردع قطع القطاع عن قطعه الى غير ذلك.

و لكن الذي يقتضيه حقيق النظر وفاقا لبعض المحققين (قدس سره) إمكان ذلك و للشارع تحديد حجية القطع و تضييقه بلحاظ حصوله من بعض المبادي كأن ينهى عن العمل بالقطع الحاصل من القياس، أو الحاصل من الجفر أو الرمل أو المنام و غيرها من الطرق غير المتعارفة لمصالح يراها، أو لمفاسد يترتب عليها.

كلمة من الامام (ع) مع أبان في الحكم بالقياس

و خبر ابان بن تغلب في مسئلة قطع أصابع المرية المتقدم ذكره أنفا شاهد صدق على ما ذكرنا «1» حيث نهى الامام عليه السّلام عن العمل بالقياس مع ان ابان كان عالما بان في قطع أربعة أصابع المرية يوجب أربعين من الإبل من طريق القياس و لذا تعجب من حكم الامام عليه السّلام حيث قال بثلاثين و قال فيما قال:- و لا ينبغي صدوره من مثله- ان هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنتبرء عن قائله و نقول الذي جاء به شيطان.

و مع ذلك صاح الامام عليه السّلام في وجهه و نهاه عن العمل بعلمه بقوله: مهلا يا ابان هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا أبان أخذتني بالقياس، و السنة إذا قيست محق الدين. فقد قطع بكلامه عليه السّلام على الظاهر عرق القياس من قلب ابان «2».

و ان شئت قلت كما عن المحقق النائيني (قدس سره): «ان مرجع نهى الشارع في الحقيقة

ليس نهيا عن العمل بالعلم بل مرجعه الى التصرف في المعلوم و الواقع

______________________________

(1) لاحظ/ 326.

(2) الوسائل باب 44 من أبواب دية الأعضاء ح/ 1.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 374

..........

______________________________

الذي أمره بيد الشارع فالتصرف يرجع الى ناحية المتعلق لا إلى ناحية العلم و بعد الالتفات الى هذا التصرف لا يمكن ان يحصل له العلم بالحكم من طريق القياس إذ الحكم الواقعي قيد بغير ما ادى اليه القياس» «1».

توجيه معقول لقول الأخباريين بعدم حجية العلم الحاصل من غير الكتاب و السنة

و بما ذكرنا يمكن تصحيح مقال الأخباريين، و القول بعدم اعتبار قطع القطاع الى غير ذلك.

فلا يرد عليهم: ان مقالهم غير معقول نعم دون إثبات مقالهم خرط القتاة فتدبر و اغتنم.

فظهر ان الحجية من الأحكام العقلية للقطع بلحاظ ان القاطع حال قطعه لا يحتمل الخلاف و يكون ذلك موضوع احتجاج المولى على عبده و بالعكس من دون تطرق جعل عليها.

نعم للشارع تحديد الاحتجاج ببعض المبادي فما دام لم يحرز تحديده و تضييقه لا ينبغي الإشكال عند العقلاء في حجية العلم الوجداني في إثبات متعلقة.

فاذن لا إشكال في ثبوت الاجتهاد، أو الأعلمية بالعلم الوجداني، و حيث لا فرق بين العقلاء في أسباب حصوله، فلا فرق بين العلم الحاصل بالاختبار، أو الشياع أو غيرهما.

الإشكال في حجية الشهرة و ان حصل منها العلم و دفعه

نعم يظهر من بعض شراح المتن منع حجية الشهرة و ان حصل منها العلم و يرى حالها حال القياس و الرمل، و الجفر، و نحو ذلك، و صرح بان الشهرات الواقعة في طول حياته كلها على خلاف الواقع، و أشار الى العوامل و الأسباب المحصلة لها فقال كلها باطلة «2».

______________________________

(1) مبحث حجية القطع من فوائد الأصول/ 6 ط. النجف الأشرف.

(2) لاحظ معالم الزلفى/ 35.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 375

..........

______________________________

و لكن لم يتم ما ذكره و غاية ما يستفاد مما أطنب ذكره، و أتعب نفسه عدم صحة الاعتماد بمجرد الشهرة لوجود عوامل و دواعي فاسدة في بعضها فالحري بنا المراقبة الكاملة في الشهرات و ملاحظة مباديها و عواملها، فرب شهرة و ان كانت لا أصل لها الا ان في كثير منها له أصل و مبادي صحيحة عصمنا اللّه و إياكم من الزلل.

الظن الاطمئناني ملحق بالعلم الوجداني في الحجية

و يلحق بالعلم الوجداني بثبوتهما الظن الاطمئناني بهما لأنه علم عادى و حجة عقلائية لم يردع عنها في الشرع.

مع انه يمكن الاستدلال لاعتباره بما في موثقة مسعدة بن صدقة ففيها. الأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة «1».

لأن الاستبانة أعم من العلم الوجداني و يعم الظن الاطمئناني المتاخم للعلم كما لا يخفى فتدبر.

و بالجملة يعبّر عن الظن الاطمئناني بالعلم العادي لتداوله بين العقلاء لقلة حصول العلم الوجداني لهم فهو حجة عندهم و الشارع أبقاهم على ما هم عليه بل يصح دعوى الإمضاء عليه مما دل على تحصيل العلم و اتّباع العلماء و نحو ذلك فان الظاهر منه ما يعم الاطمئناني بل يعم العلم التعبدي لا خصوص العلم الوجداني و الا لانسد باب

معرفة الأحكام لعدم العلم الوجداني لغالب الناس و لا يكاد تحصل ذلك في أمثال المقام الا بعد عناء شديد و لزوم اعتباره يستلزم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة.

ثبوت الاجتهاد أو الأعلمية بالبينة

و اما ثبوتهما بشهادة عدلين من أهل الخبرة- و يعبر عنها بالبينة- و حيث انها من الأمارات الظنية فلا تصلح للاحتجاج بها ما لم تقم دليل على اعتبارها، لما تقدم ان الأصل الأولي حرمة العمل بالظن و عدم صلوحه للاستناد اليه الا ما قام الدليل على اعتباره.

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 376

..........

______________________________

لا اشكال و لا خلاف في حجية شهادة العدلين في باب القضاء و فصل الخصومة و اما في غير باب القضاء فقد يناقش في حجيتها بحيث يشمل أمثال المقام، بل قد يقال انه لم يثبت أن للفظة البينة حقيقة شرعية، أو متشرعة في شهادة العدلين، بل كلما استعملت لفظة البينة في الكتاب، و السنة فهي بمعناها اللغوي و هو ما به البيان و ما يثبت به الشي ء فينبغي الإشارة إجمالا إلى معنى البينة و الدليل على اعتبارها فنقول:

معنى البينة لغة

لفظة البينة صفة مشبهة من باب يبين بيانا، و تبيانا: بمعنى اتضح و ظهر فاذا كان موضوعها مذكرا يقال هو بيّن، و إذا كان مؤنثا يقال هي بيّنة، و حيث ان موضوعها هي الحجة يقال انها بينة، اى حجة واضحة لا سترة فيه، و هي بهذا المعنى موجبة لليقين فتكون مرادفة للبرهان.

معنى البينة في الكتاب العزيز

و قد استعملت بهذا المعنى في غير موضع من الكتاب العزيز، و قد أنهاه بعض الأعلام الى خمس عشر موضع و الظاهر انها أكثر.

فترى انه عبر في الكتاب العزيز عن المعجزتين اللتين لموسى (على نبينا و إله و عليه السلام) تارة بكلمة البرهان، و اخرى بلفظة البينة.

فقال تعالى فَذٰانِكَ بُرْهٰانٰانِ مِنْ رَبِّكَ «1» و قال تعالى حكاية عن قول موسى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الى ان قال تعالى فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ، وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ «2».

______________________________

(1) القصص: 28/ 32.

(2) الأعراف: 7/ 105- 106- 107.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 377

معنى البينة في لسان الاخبار

______________________________

و لكن الظاهر ان البينة في لسان الاخبار و كلمات الفقهاء أطلقت و أريد منها شهادة العدلين على أمر من الأمور: و لم يتعارف إطلاقها فيها على معناها اللغوي، نعم ربما أطلقت و أريد منها ذلك خصوصا عند تفسير الآيات التي فيها تلك اللفظة، و لكنه قليل.

فلفظة البينة في لسان الأخبار منصرفة إلى شهادة العدلين، و السر في إطلاق البينة عليها واضح، لأنه بعد ان جعل الشارع شهادة العدلين حجة، و امارة معتبرة- كما سنشير إليها- تكون من مصاديق الحجة الواضحة.

و بالجملة مرجع تبادر هذا المعنى في لسان الشرع الى انصراف المفهوم الكلي الى بعض مصاديقه.

و مما يرشدك الى ما ذكرنا قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في صحيح جميل و هشام:

البينة على من ادعى، و اليمين على من ادعى عليه إلخ «1» و قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في مرسل صدوق:

البينة على المدعى، و اليمين على المدعى عليه إلخ «2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله كما في

صحيح هشام بن الحكم.

إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان إلخ «3» و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحكم بين الناس بالبينات و الايمان في الدعاوي إلخ «4» الى غير ذلك من الاخبار الواردة فيها لفظة البينة فإن المتبادر منها- كما عليه

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب كيفية الحكم ح/ 1.

(2) الوسائل باب 3 من أبواب كيفية الحكم ح/ 5.

(3) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم ح/ 1.

(4) الوسائل باب 2 من أبواب كيفية الحكم ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 378

..........

______________________________

الفقهاء- انها عبارة عن شهادة العدلين، لا مطلق الحجة الواضحة- كما ادعى- بداهة ان اليد مثلا امارة على الملكية عند العقلاء و ممضاة شرعا، فاذا ادعى عليها أحد لا يكتفى بقول ذي اليد، مع ان قوله مطابق للحجة الفعلية- و هي اليد- و لو كان المدعى مالكا سابقا لكان ينبغي ان يكتفى باستصحاب ملكيته عند الشك في ذلك من دون احتياج الى حجة أخرى مع انه لا يكتفى به عند المعارضة، و لو أريد من البينة مطلق الحجة فلا مجال للتفصيل بين المدعى أو المنكر مع انه لكل من المدعى و المنكر حجة.

و مما يرشدك إلى إرادة شهادة العدلين من البينة قول الصادق عليه السّلام في موثق مسعدة بن صدقة: الأشياء كلها على هذا، حتى تستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة «1».

و ذلك لأنه لو أراد عليه السّلام بقيام البينة مطلق الحجة الواضحة يلزم ان يكون قسم الشي ء قسيما له، لوضوح ان الاستبانة- أي العلم- قسم من الحجة الواضحة بل من أعظم مصاديقها و أجلاها.

و ان شئت

قلت: انه لو أراد عليه السّلام: بالبينة معناها اللغوي يلزم ان تكون الاستبانة و العلم من مصاديق البينة فيكون قوله عليه السّلام في الخبر: (أو تقوم به بالبينة) من عطف العام على الخاص، و لا يخفى انه خلاف ما هو المتفاهم عرفا.

و بالجملة لفظة البينة و ان كان معناها اللغوي الحجة الواضحة، و قد استعملت في الكتاب العزيز في ذلك في غير موضع منها الا انه بواسطة كثرة الاستعمال في شهادة العدلين على أمر، عند عرف المتشرعة صارت منقولا إليها عرفا، و ان أبيت فلا أقل من كونها منقولا شرعيا.

كلام من العلامة الكنى في معنى البينة

و ان كنت مع ذلك في شك مما ذكرنا فلاحظ ما أفاده العلامة الكنى فقال:

«البينة و هي في اللغة من البيان و هو الاتضاح لازم و متعد كغيره من مشتقاته على

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 379

..........

______________________________

ما في القاموس، و في الشريعة على الثاني كاختصاصها فيها بالإطلاق على ما فوق الواحد على ما هو من الواضحات بأدنى رجوع الى كلماتهم و الاخبار، فبسببه بعد اشتهار قوله صلّى اللّه عليه و آله: البينة على المدعى جعلت شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمى حتى اشتهر بذي الشهادتين، و به اتفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على شهادة اثنين الى آخر ما ذكره» «1».

و لمزيد الإيضاح و ازالة عرق اى شك منك لئلا ينقدح في نفسك بملاحظة ما ربما يقال في المقام نشير إلى جملة من الاخبار التي ذكرت فيها لفظة البينة، و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد و ان كان في بعضها أريد منها أربعة شهادات منها و لا يضر

ذلك بما نحن بصدده كما لا يخفى.

و حيث ان ذكر متن تلك الاخبار يطول بنا، و يوجب ملال الخواطر، مع انه لا يهم ذكرها في المقام فنقتصر إلى الإشارة إلى مواقع ذكرها من كتاب وسائل الشيعة من الطبعة الجديدة.

الأخبار التي ذكر فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد

باب 48 من أبواب الشهادات. ح: 3/ 4- ج: 18/ 290.

باب 18 من أبواب مقدمات الحدود. ح: 3- ج: 18/ 331.

باب 10 من أبواب حد الزنا. ح: 8/ 9- ج: 18/ 365.

باب 14 من أبواب حد الزنا. ح: 2- ج: 18/ 374.

باب 15 من أبواب حد الزنا. ح: 1- ج: 18/ 376.

باب 2 من أبواب حد اللواط. ح: 3- ج: 18/ 419.

باب 1 من أبواب حد السحق و القيادة. ح: 4- ج: 18/ 425.

باب 2 من أبواب حد المسكر. ح: 5- ج: 18/ 467.

باب 10 من أبواب حد السرقة. ح: 2- ج: 18/ 501.

______________________________

(1) القضاء و الشهادة/ 259.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 380

..........

______________________________

باب 18 من أبواب حد السرقة. ح: 4- ج: 18/ 509.

باب 30 من أبواب حد السرقة. ح: 3- ج: 18/ 529.

باب 33 من أبواب حد السرقة. ح: 2- ج: 18/ 531.

باب 7 من أبواب بقية الحدود. ح: 2- ج: 18/ 580.

باب 8 من أبواب دعوى القتل. ح: 5- ج: 19/ 112.

باب 9 من أبواب دعوى القتل. ح: 3/ 4/ 6- ج: 19/ 114- 115.

باب 10 من أبواب دعوى القتل. ح: 7- ج: 19/ 119.

باب 13 من أبواب دعوى القتل ح: 1- ج: 19/ 121.

باب 20 من أبواب موجبات الضمان. ح: 1- ج: 19/ 192.

باب 9 من أبواب العاقلة. ح: 1- ج: 19/ 307.

الى غير ذلك من الاخبار التي

ذكرت فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد مما يجدها المتتبع في الاخبار و فيما ذكرناه كفاية للمطلوب.

كلمة من بعض الأساطين في معنى البينة و تزييفها

و مع ذلك كله ذهب بعض الأساطين دام ظله على ما في تقريري بحثه الى ان لفظة البينة لم يثبت لها حقيقة شرعية، و لا متشرعة و انما استعملت في الكتاب و الاخبار بمعناها اللغوي و هو ما به البيان و ما به يثبت به الشي ء و منه قوله تعالى بِالْبَيِّنٰاتِ وَ الزُّبُرِ «1»، و قوله حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «2»، و قوله إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي «3» و غيرها من الموارد و من الظاهر انها ليست في تلك الموارد الا بمعنى الحجة و ما به البيان.

و كذا فيما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان، اى

______________________________

(1) الفاطر: 35/ 25.

(2) البينة: 98/ 1.

(3) هود: 11/ 28.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 381

..........

______________________________

بالايمان و الحجج و ما به يبين الشي ء و لم يثبت في شي ء من هذه الموارد ان البينة بمعنى عدلين و غرضه صلّى اللّه عليه و آله: من قوله إنما أقضي إلخ على ما نطقت به جملة من الاخبار بيان ان النبي و سائر الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين سوى خاتم الأوصياء عجل اللّه فرجه لا يعتمدون في المخاصمات و المرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة أو الإمامة، و انما يقضون بين الناس باليمين و الحجة سواء طابقت الواقع أو خالفته كما هو صريح ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في مخاصمة امرء القيس. نعم يقضى القائم عجل اللّه فرجه على طبق الواقع من

دون ان يعتمد على شي ء.

و بالجملة لم يثبت ان البينة بمعنى عدلين في شي ء من تلك الاستعمالات فإنما هي بمعناها اللغوي كما مر، و البينة بهذا المعنى بيّن و لعله أيضا كان ثابتا في الدور الأخير من زمانهم عليهم السّلام، و على هذا فالرواية المتقدمة- يعني رواية مسعدة بن صدقة- لا دلالة لها على اعتبار البينة بمعنى شهادة العدلين بل لا بد من إحراز حجيتها من الخارج انتهى موضع الحاجة «1».

قلت: و لعله بعد الإحاطة بما ذكرنا يظهر لك النظر فيما افاده بل لا تخلو عن تعجب، و ذلك لأنه كما أشرنا ان لفظة البينة و ان كانت في الكتاب العزيز مستعملة في ما به البيان، و ما يثبت به الشي ء الا انه في الاخبار الصادرة عنهم و في طليعتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرد تلك المعنى الا نادرا و انما أريد منها شهادة ما فوق الواحد بقرينة فهم المشهور منها كما أشرنا، و صريح جملة من الاخبار بذلك، و قد عرفت مقال العلامة الكنى (قدس سره) بأنه اتفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على إرادة شهادة ما فوق الواحد من البينة و أشرنا إلى جملة من الاخبار التي ذكرت فيها لفظة البينة و أريد منها الشهادة على ما فوق الواحد.

مضافا الى عدم استقامة إرادة ما به البيان في رواية مسعدة بن صدقة لما أشرنا إليه انه يلزم عليه ان يكون قسم الشي ء قسيما له، أو يكون من قبيل عطف العام على الخاص

______________________________

(1) التنقيح ج 2/ 285- الدروس ج 1/ 113.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 382

..........

______________________________

و هما خلاف المتفاهم عرفا منها.

الفرق بين البينة و قيامها

و قد تفطن بعض الأفاضل

دام بقاه: انه كلما استندت لفظة القيام بالبينة في في الكتاب و السنة و غيرهما أريد منها شهادة ما فوق الواحد فمعنى قامت البينة- أي جاءت البينة- فتدبر، و إطلاق البينة بمعنى ما به البيان و الوضوح لم يكن كذلك فقيام البينة عبارة أخرى عن مجي ء العدلين و شهادتهما فاذا معنى قوله عليه السّلام في رواية مسعدة:

الأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة: ان الأشياء على حالتها حتى يعلم و يظهر خلافه أو تقوم شاهدان على غير ذلك و اللّه العالم.

هذا كله في معنى البينة

دليل اعتبار البينة

اما دليل اعتبار البينة و انها هل معتبرة أم لا و على تقدير الاعتبار هل في جميع الموارد و الموضوعات أو مخصوصة ببعضها فنقول:

الظاهر انه لا خلاف و لا الإشكال في اعتبار البينة و شهادة ما فوق الواحد في الجملة و لم ينكره أحد من الصدر إلى الساقة و لعل اعتبارها في الجملة من مسلميات الشريعة المقدسة و النصوص و الفتوى متطابقتان على اعتبارها كذلك.

و القدر المتيقن من حجيتها في موارد الترافع و الخصومات بل تقديمها على غير الإقرار من معارضاتها و الكلام انما هو في عموم حجيتها في سائر الموضوعات و الموارد.

فعن الجواهر بعد نفى الخلاف في إثبات النجاسة بالبينة قال الا عن القاضي ابن البراج و الكاتب، و الشيخ.

و الحق عموم حجيتها في سائر الموضوعات محسوسة كانت أو قريبة من الحس بحيث تكون محسوسة بالآثار و العلائم الواضحة.

نعم لا تعتبر في الأمور غير المحسوسة التي لا طريق إليها من الحواس الظاهرة

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 383

..........

______________________________

كما سنشير اليه.

الوجوه التي يستدل بها لعموم حجية البينة لسائر الموضوعات

اشارة

و كيف كان يستدل لعموم حجية البينة لسائر الموضوعات بوجوه:

الوجه الأول: الروايات
اشارة

منها: و في طليعتها موثقة مسعدة بن صدقة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول كل شي ء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو أمرية تحتك و هي أختك أو رضيعتك، و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة «1».

تقريب الدلالة هو انه بعد ما عرفت ان المتبادر من لفظة البينة في الاخبار هو شهادة الشاهدين تكون دلالة هذه الرواية على عموم حجيتها في كل موضوع و عدم اختصاصها بباب القضاء، واضحة، إذ الجمع المعرف باللام يفيد العموم مضافا الى تأكيدها بكلمة، كلها.

فحاصل معنى الرواية ان جميع الموضوعات الخارجية على حالها الى ان تستبين لك و تعلم خلافها، أو تقوم عليه ما هو بمنزلة العلم و هو البينة، فجعل عليه السّلام البينة بمنزلة العلم في حصول غاية الحكم بالحلية في جميع الأشياء سواء كانت في باب القضاء أو غيرها.

و بعبارة أخرى كما أفيد: «الرواية تدل على ان اليد في مثل الثوب، و المملوك، و أصالة عدم تحقق النسب و الرضاع في المرأة، حجة معتبرة لا بد من العمل على طبقها الا ان يعلم أو تقوم البينة على الخلاف فاذا يستفاد منها ان البينة حجة شرعية لإثبات

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح/ 4.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 384

..........

______________________________

الموضوعات المذكورة في الرواية، و بما ان كلمة الأشياء من الجمع المحلى

باللام و هو من اداة العموم و لا سيما مع التأكيد بكلمة (كله) فيتعدى عنها إلى بقية الموضوعات التي يترتب لها أحكام و منها الاجتهاد و الأعلمية» «1».

كلمة من سيد مشايخنا في عدم عموم حجية البينة و دفعها

و بما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده سيد مشايخنا (قدس سره).

«بأن البينة فيها انما جعلت غاية للحل الذي هو المراد من اسم الإشارة و كونها حجة على الحرمة لا تقتضي حجيتها على الموضوع فضلا عن عموم الحجية لما لم يكن موردا للحل و الحرمة من موضوعات سائر الأحكام» «2».

و ذلك لأن الظاهر المترائى من قوله عليه السّلام كلها على هذا إلخ حيث عبر بالجمع المعرف باللام مع تأكيدها بكلمة (كل) هو عمومية المورد بالنسبة الى جميع الأشياء و حيث ان الشك في الحلية في الأمثلة المذكورة في الرواية كلها من الشبهات الموضوعية فيستفاد عموم حجية البينة في كل شبهة موضوعية فالمشهود به نفس الموضوع كالسرقة أو بيع الحر نفسه لا الحكم المترتب عليه و ان صح الشهادة على الحكم أيضا.

و لك ان تتفطن من قوله: الأشياء كلها على هذا ان المراد ان الأشياء على حالتها الاولى الذي يقتضيه أصل كل شي ء بحسبه من الحلية أو الوجوب أو غيرها فيكون ذكر الحلية فيها من باب ذكر المورد لا لخصوصية فيها فتدل الرواية على ان كل شي ء على الحال الذي يقتضيه الأصل فيه من التكليف سواء كان إلزاميا أو غيره، و الإلزامي وجوبيا كان أو غيره، و سواء كان التكليف نفسيا أو غيريا فثبت حجية البينة في الجميع.

و لمزيد الإيضاح في استفادة عموم حجية البينة من الرواية نقول ان البينة فيها و ان جعلت غاية للحل فكأنه قال عليه السّلام كل شي ء لك حلال حتى تعلم أو تقوم به

البينة

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 209.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 203.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 385

..........

______________________________

على حرمته و مقتضى الجمود عليه و ان كان عدم دلالتها الأعلى خصوص حجية البينة في إثبات نفس الحرمة فلا يستفاد منها إثبات موضوع خمرية مائع، أو كرية ماء أو اجتهاد شخص، أو عدالته الى غير ذلك من الموضوعات بل لا يستفاد منها إثبات سائر الأحكام للموضوعات المذكورة فيها كنجاسة ذلك الشي ء أو ملكيته لشخص أو زوجية أمرية لرجل الى غير ذلك هذا.

تقريبات من أساطين الفقه لاستفادة عموم حجية البينة لسائر الموضوعات و الأحكام من الموثقة

و يمكن استفادة عموم حجية البينة من الرواية في سائر الموضوعات و سائر الأحكام بوجوه أشار إليها أساطين الفقه.

الأول: ما يستفاد من العلامة البجنوردى.

ان ظاهر جعل البينة في عرض العلم و الاستبانة في إثبات خلاف ما ذكر في الرواية يؤتى بعدم اختصاص حجية البينة في خصوص إثبات الحرمة كما هو ظاهر سياق الرواية بل يعم سائر الأحكام، و سائر الموضوعات كما هو الشأن في العلم، فكما ان العلم مثبت لجميع الموضوعات و الأحكام فكذلك البينة، و لا فرق بينهما الا ان طريقية العلم غنية عن الجعل و الاعتبار ذا حجة بنفسه بخلاف البينة و سائر الأمارات فإنها محتاجة إلى الجعل و لو إمضائيا.

و الحاصل انه يستفاد من الرواية انه كما يثبت بالعلم اى موضوع من الموضوعات و اى حكم من الأحكام فكذلك بالبينة «1».

الثاني: ما تكلف به العلامة الحكيم قدس و حاصله:

ان المراد من قيام البينة بالحرمة أعم من كونها مدلولا مطابقيا، أو تضمنيا، أو التزاميا لا خصوص مدلولها المطابقي فإذا قامت البينة و شهدت بموضوع خارجي تلزمه الحرمة، أو لازم لها، أو كان ملازم لها مثل كون المائع خمرا،

أو بولا، أو دما، أو نحوها، و كذا أعم من شهادتها بعنوان اعتباري مثل إخوة أمرية، أو

______________________________

(1) القواعد الفقهية ج 3/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 386

..........

______________________________

نجاسة مائع أو حرية رجل إذا كان بينه و بين الحرمة ملازمة فإن البينة في جميع ذلك قائمة بالحرمة فلا يختص اعتبار البينة بالشهادة على خصوص الحرمة بل يعم سائر الموضوعات «1».

الثالث: ما تشبث به قدس أيضا.

و هو ان البينة لما كانت من سنخ الأمارات العرفية كان الظاهر من ثبوت الحرمة عند قيامها بها كونها طريقا إلى مؤداها لا تعبدا كما في موارد الأصول فإذا شهدت البينة بكون الثوب سرقة فثبوت الحرمة ظاهرا لثبوت موضوعها و قيام الامارة عليه، و عليه لا فرق بين الحرمة و غيرها من الأحكام المترتبة على السرقة، فكما تثبت الحرمة تثبت تلك الأحكام لان طريقيتها بنظر العرف لا تختص بجهة دون جهة فيحمل الدليل على إطلاق الحجية، و مقتضى ذلك حجية البينة مطلقا قيامها بالحرمة فيترتب عليها جميع الأحكام و الآثار، فلم يبق مورد خارج عن الرواية إلا ما لا يترتب عليه أثر الحرمة أصلا بحيث لا تدل عليه البينة أصلا و لو بلا التزام لكنه نادر.

و لا يبعد التعدي إليه بعدم القوم بالفصل، أو لعدم التفكيك عرفا بينه و بين مورد الرواية بحيث تكون البينة حجة حيث يكون في موردها حكم الحرمة و لا تكون حجة في غير ذلك فلاحظ «2».

اعتبار سند رواية مسعدة

بقي الكلام في سند الرواية: لم يقع إشكال في سندها الا من جهة وقوع مسعدة بن صدقة فيها و قد صرح الشيخ (قدس سره) بكونه عاميا، و قد ذكره العلامة الحلي قدس في القسم الثاني،

و ضعّفه العلامة المجلسي في الوجيزة.

الا انه يمكن توثيقه مما يحكى عن بعض الأتقياء منهم العلامة المجلسي الأول حيث قال: انه و ان كان عاميا الا انه معتمد في النقل، و من تتبع اخباره يحصل له العلم

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 203.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 204.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 387

..........

______________________________

بأنه أثبت من كثير من العدول هذا.

مع وقوعه في سند كتاب كامل الزيارة و قد صرح ابن قولويه في ديباجة الكتاب بأنه لم يرو فيه الا الاخبار التي رواها الثقات غير المتصفة بالشذوذ.

مضافا الى ان عمل الأصحاب بالرواية يوجب الوثوق بصدورها و لعل ما ذكرنا، أو بعضه صار منشأ لتعبير شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عن الرواية بالموثقة، و اشتهارها بهذه الصفة بينهم، فيصح الاستناد إليها، كما ان دلالتها على عموم حجية البينة واضحة.

و منها: ما رواه الكليني (قدس سره) عن عبد اللّه بن سليمان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في الجبن قال:

كل شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة «1».

تقريب الدلالة: ان مورد الرواية و ان كان في قيام الشاهدين على وجود الحرمة- أي كون الميتة في الجبن- و لكن الظاهر منها بمناسبة الحكم و الموضوع: ان شهادة الشاهدين طريقة معتبرة كالعلم في إحراز متعلقة، و يكون ذكر الميتة من باب المورد فتكون شهادة الشاهدين من الطرق المعتبرة على نحو العموم من دون اختصاصها بمورد دون مورد.

و منها: ما رواه الصدوق (قدس سره) في الأمالي عن علقمة عن الصادق عليه السّلام: و فيه:

فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و

الستر إلخ «2».

تقريب الدلالة هو ظهورها في ان شهادة العدلين في ارتكاب الذنب في عرض رؤيته طريق مثبت لارتكاب الذنب فكما لا تكون لرؤية الذنب خصوصية لا تكون في سائر الموضوعات فكذلك شهادة الشاهدين الا ما خرج.

______________________________

(1) الوسائل باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح/ 2.

(2) الوسائل باب 41 من أبواب الشهادات ح/ 13.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 388

..........

______________________________

و منها: ما رواه الكليني عن أبي ضمرة، عن أبيه عن جده قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أحكام المسلمين على ثلاثة:

شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة الهدى عليهم السّلام «1».

يمكن استفادة عموم البينة لسائر الموضوعات من قوله عليه السّلام: أحكام المسلمين ثلاثة، فكما تعم سيرة أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و اليمين سائر الموضوعات فكذلك البينة و لكن في استفادة التعميم نوع خفاء.

و منها: غير ذلك من الروايات التي يجدها المتتبع و فيما ذكرناه كفاية.

و يمكن ان يستأنس لعموم اعتبار البينة مما ورد في عدم اعتبار شهادة النساء في موارد مثل روية الهلال، و الرجم، و القتل و نحوها حيث يستفاد منها اعتبارها في حق الرجال في جميع الموارد، كما انه يمكن ان يستأنس مما ورد في جواز شهادة النساء في موارد مخصوصة: كالعذرة و البكارة، و النفاس، و فيما لا تستطيع الشهادة للرجال نفوذ شهادتهم في كل ما يمكنهم الشهادة إلا ما خرج.

تقريب لعموم حجية البينة من أية النباء

الوجه الثاني: مفهوم آية النباء بضميمة موثقة مسعدة

يستدل لعموم حجية البينة بمفهوم أية النباء بضميمة موثقة بن صدقة لأن مفهوم الاية الشريفة يدل على حجية خبر العادل مطلقا في الأحكام و الموضوعات خرجنا عن تحت عموم خبر العدل الواحد في الموضوعات بالحصر المستفاد من

موثقة مسعدة فتصير البينة معتبرة مطلقا.

تسالم الأصحاب على عموم حجية البينة

الوجه الثالث: الإجماع

ادعى جماعة من الأصحاب عموم اعتبار البينة، و لا ريب ان المتتبع في

______________________________

(1) فروع الكافي ج 7/ 432.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 389

..........

______________________________

كلمات الأصحاب يجد تسالمهم على إثبات كل موضوع ذي حكم شرعي بها إلا في موارد خاصة و تريهم يعترفون بثبوت النجاسة و الطهارة و القبلة، و الوقت للصلاة، و أسباب التحريم في باب النكاح من النسب، و الرضاع، و ثبوت الوكالات للأشخاص، و عزلهم، و الوصايا الى غير ذلك من الموضوعات و الأحكام الجزئية من غير نكير لأحدهم في إثبات هذه الأمور بها الا الشاذ منهم.

و خلاف من خالف مع شذوذه انما هو في بعض الموارد من جهة أخرى غير إنكار حجية البينة بلحاظ دعوى ان ارتفاع الطهارة مثلا لا يكون الا بالعلم بالنجاسة و البينة ليست بعلم، نسب ذلك الى ابن براج في إثبات النجاسة بها.

و هو توهم لما تقرر في محله من ان أدلة حجية البينة و اخبار ذي اليد، بل كل حجة شرعية على النجاسة و لو كانت استصحابا حاكمة على قاعدة الطهارة.

نعم ربما يحكى عن السيد في الذريعة، و المحققين في المعارج و الجعفرية انه لا دليل على إثبات الاجتهاد بشهادة عدلين، و قد عرفت تواتر الأدلة على عموم حجية البينة.

و بالجملة الفقهاء لا يزالون يستدلون على ثبوت الموضوعات و ترتب آثارها عليها بقيام البينة عليها.

نعم هنا اشكال، و هو عدم استشكاف قول المعصوم عليه السّلام بهذا الإجماع لأنه من القريب ان يكون مستند المجمعين بعض الوجوه التي ذكرناها، فالإجماع محتمل المدرك لو لم يكن مظنونا أو معلوما فلا يصلح لاستناد.

نعم

يكون هذا الاتفاق و التسالم من الأصحاب يؤيد ما استظهرناه من موثقة مسعدة من كون البينة مثل العلم في إثبات الموضوعات بها.

تقريب لعموم حجية البينة من حجيتها في مورد الترافع و دفعه

الوجه الرابع: الفحوى بل الأولوية
اشارة

بتقريب ان الشارع جعل البينة حجة في مورد الترافع و المخاصمة، و قد قدمها

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 390

..........

______________________________

على ما في قبالها من الحجج كاليد و نحوها- غير الإقرار فإنه مقدم على البينة- فإذا ثبت حجيتها في باب القضاء و فصل الخصومة مع وجود المعارض و تكذيب المنكر إياها فهي حجة فيما لم يكن لها معارض بطريق اولى.

و لكن يناقش: بأنه لا دلالة لاعتبار شي ء في مورد الترافع و المخاصمة على اعتباره في غيره فضلا عن ان يكون أولى لأن بقاء النزاع و التخاصم مبغوض لدى الشرع، و ربما تنجر الى اختلال النظم و لذا تصدى الشارع لرفعه بأي وسيلة ممكنة، و لذا ترى ان اليمين مما يفصل به الخصومات شرعا مع انه غير معتبر في غير باب الخصومات فما تكون حجة في موارد الترافع لا يلزم ان تكون حجة على الإطلاق، فما ظنك بالأولوية.

و لكن الإنصاف كما أفيد ان استفادة عمومية اعتبارها لا من باب الأولوية بل من باب لحن الخطاب من حيث اعتبارها فيما يتعلق بحقوق الناس غير بعيد فتدبر.

و ربما يذكر وجوه أخر لعموم اعتبار البينة، و فيما ذكرناه كفاية.

فتحصل مما ذكرناه: عدم اختصاص حجية البينة و شهادة العدلين بموضوع دون موضوع و باب دون باب، بل تعم سائر الموضوعات إلا إذا ورد دليل على خلاف ذلك كما في باب الشهادة على الزنا و اللواط فاعتبر فيهما اربع شهادات الى غير ذلك.

الإشكال في حجية البينة في مثل الاجتهاد و الأعلمية و دفعه

بقي في المقام إشكال في حجية البينة في مثل الاجتهاد و الأعلمية و غيرهما مما لم تكن محسوسة بزعم ان الشهادة لا بد و ان تكون في الأمور المحسوسة فما لم تكن محسوسة

لا تقبل الشهادة لها أو عليها، و ملكة الاجتهاد أو أقوائيتها لا تكون محسوسة، و انما يحدس من يكون من أهل الخبرة و الاختبار.

و لكنه يدفع: بأن الأمور الحدسية على نحوين فتارة لا تكون لها طريق أو طرق محسوسة، و اخرى تكون لها ذلك فتكون قريبة من الحس و هو الذي يقل

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 391

..........

______________________________

فيه الخطاء و تكون مقدماته موجبة للحدس عند أغلب الناس، فالشهادة على النحو الثاني حجة ببناء العقلاء الممضاة كالشهادة على الأمور المحسوسة حسبما قرر في محله و ما نحن فيه من قبيل الثاني كما لا يخفى.

ثم انه يظهر من المتن انه يعتبر في شهادة العدلين باجتهاد المجتهد أو باعلميته ان يكونا من أهل الخبرة، و لم تعارضها بينة تنفى ذلك.

اما اعتبار الخبروية فواضح لان ما يقع عليه الشهادة على قسمين فقسم منه لا يحتاج الشهادة عليه الى النظر و اعمال الفكر كالمحسوسات الواضحة و لا يعتبر ان يكون الشاهد فيه من أهل الخبرة و هو ظاهر.

و قسم أخر منه ما تكون محتاجة إليهما كباب التقويمات و الاروش و نحوهما و منه مسئلة الاجتهاد و الأعلمية فلا بد و ان يكون الشاهد في ذلك من أهل الخبرة لأن غير الخبير لا يكاد يعرفها و هو واضح فاعتبار الخبروية في هذا القسم شرط واقعي يعتبره العقلاء في مثل هذه الموضوعات، فامضاهم الشارع على ما هم عليه.

و بالجملة من لم يكن من أهل الخبرة لا يكاد يطلع على ملكة الاجتهاد.

نعم لا يلزم ان يكون مجتهدا بل إذا كان من أهل العلم و التمييز قريبا من الاجتهاد يمكن تشخيص الاجتهاد، بل الأعلمية، لكن مع مراقبة شديدة

و مزاولة مستمرة كما لا يخفى.

ينبغي الإشارة إلى أمرين.

الأمر الأول: انه هل يعتبر في البينة حصول الظن بصدقها، أو عدم الظن بخلافها، أو لا يعتبر شي ء منهما

وجوه.

الظاهر عدم اعتبار الظن بصدقها، بل لا يضر الظن بخلافها أيضا، لإطلاق دليل حجيتها فالبينة حجة سواء ظن بوفاقها، أم بخلافها، أم لا. نعم يعتبر عدم معارضتها بمثلها لعدم إمكان شمول الدليل للمتعارضتين لاستحالة التعبد بالنقيضين، أو الضدين و لا لأحدهما المعين، لأنه ترجيح بلا مرجح فتتساقطان، و قد تقدم ان المتسالم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 392

..........

______________________________

عليه عند الأصحاب في ذلك التخيير، ان لم يكن لإحديهما مزية، و الا فيؤخذ بذي المزية.

الأمر الثاني: إذا كانت احدى البينتين المتعارضتين أكثر عددا من الأخرى فهل ترجح على الأخرى أم لا؟
اشارة

وجهان.

فربما ترجح لوجود مزية فيها، و قد يقال بالعدم لان الترجيح بالأكثرية يختص بباب المراجعة عند القاضي لفصل الخصومة، و التعدي عنه يحتاج الى دليل غير موجود.

نعم إذا كان مستند البينة النافية الاستصحاب، و مستند البينة العلم الوجداني يقدم الثاني، و وجهه واضح، و المسئلة محتاجة إلى التأمل.

الأقوال في ثبوت الموضوعات بخبر الثقة

ينبغي تذييل البحث بالتعرض لثبوت الاجتهاد، أو الأعلمية بخبر الثقة و عدمه.

فنقول:

اختلف في ثبوت الموضوعات الخارجية بخبر الثقة، فقيل ثبوتها بخبر الثقة كما تثبت الأحكام به، و ذهب بعض الأعلام الى عدم الثبوت و انه فرق بين الموضوعات و الأحكام، كما أنه أشكل ثالث فلم يهتد الى ثبوت الموضوعات بخبر الثقة فاحتاط فيما قام عليه خبر الثقة، و فصل رابع بين الموضوعات فقال بالثبوت لو كان الموضوع مما يقع في إثبات الحكم الكلى و عدم الثبوت لو لم يكن كذلك.

سيوافيك ان شاء اللّه تفصيل المقال فيه في مسئلة طرق مثبتات النجاسة و إجماله

ما استدل به لثبوت الموضوعات بخبر الثقة و دفعه

هو ان مستند القائل بثبوت الموضوع بخبر الثقة هو انه لا فرق فيما أقيم لحجية خبر الثقة بين الاخبار عن الحكم و الاخبار عن موضوع ذي حكم، فإن عمدة ما يستدل لحجية خبر الثقة هو بناء العقلاء و سيرتهم على العمل بخبر الثقة فتريهم لا يفرقون بين قيامه على الموضوع أو الحكم.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 393

..........

______________________________

و كذا مفهوم آية النباء الدال على حجية خبر العادل مطلقا، سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات- بل مورد الآية الشريفة هو الاخبار عن الموضوع- و هو الاخبار عن ارتداد الوليد، و إخراج المورد قبيح.

مضافا الى ما في الاخبار الخاصة التي دلت على اعتبار خبر الثقة في الموضوعات و هي على طوائف مختلفة في أبواب متفرقة بحيث يمكن اصطياد عموم حجية خبر الثقة عن جلها.

فمنها: ما دل على ثبوت الوقت بأذان الثقة «1».

و منها: ما دل على ثبوت عزل الوكيل باخباره «2».

و منها: ما دل على ثبوت الوصية به «3».

و منها: ما دل على ثبوت استبراء الأمة بأخبار

الرجل إذا كان بايعا «4».

و منها: ما دل على ثبوت أصل النجاسة بخبره «5».

و منها: ما دل على النهى عن أعلام الغير بنجاسة ثوبه في أثناء الصلاة فلو لا ثبوت النجاسة بمجرد الأعلام لم يكن وجه لهذا النهي «6».

الى غير ذلك من الموارد.

و لكن لا يخفى: ان بناء العقلاء و ان كان على العمل بخبر الثقة مطلقا الّا انه كما ذكرنا غير مرة ان بناء العقلاء بما هو لم يقم على اعتباره آية أو لا رواية حتى يؤخذ بإطلاقها أو عمومها.

نعم ان أمضاه الشرع و لو بعدم الردع يكون حجة، و قد تقدم في إثبات

______________________________

(1) الوسائل باب 3 من أبواب الأذان و الإقامة.

(2) الوسائل باب 2 من أبواب الوكالة.

(3) الوسائل باب 97 من أبواب الوصايا.

(4) الوسائل باب 5 من أبواب نكاح العبيد و الإماء.

(5) الوسائل باب 33 من أبواب مقدمات التجارة.

(6) الوسائل باب 47 من أبواب النجاسات.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 394

..........

______________________________

حجية البينة ما دل على الردع عن بناء العقلاء في الموضوعات الخارجية فإن مقتضى موثقة مسعدة بن صدقة هو انحصار ثبوت الأشياء و الموضوعات الخارجية بالاستبانة، و البينة فلا يكاد تثبت بغير العلم و البينة.

و بها يخصص مفهوم آية النباء في الموضوعات فيعتبر فيها التعدد.

مضافا الى ان مفهومه يدل على حجية خبر العادل و واضح ان بين خبر العادل و خبر الثقة عموم من وجه.

و اما الاخبار الخاصة فمضافا إلى المناقشة في دلالتها على اخبار خبر الثقة و لو لم يكن في موردها- يد، أو اطمئنان، و علم بالمؤدى- انها موارد جزئية لا يظهر منها و لا يكاد يستفاد منها عموم حجية خبر الثقة في جميع الموارد

و في أي موضوع من الموضوعات فيقتصر على مواردها.

و بما ذكرنا يظهر وجه القول بعدم ثبوت الموضوعات بخبر الثقة فلا يبعد القول بعدم ثبوت الموضوعات الخارجية بخبر الثقة.

حجية خبر الثقة في الموضوع الواقع في طريق الحكم الكلى

و لكن يمكن الفرق بين الموضوعات فإن الاخبار عن الموضوع تارة يكون اخبارا عن الحكم الكلى بمدلوله الالتزامي، و اخرى لا يكون كذلك بل يكون اخبارا بمدلوله الالتزامي عن الحكم الجزئي.

فعلى الأول لا يبعد ان يقال انه حيث يكون في طريق إثبات الحكم الكلى يكون حجة لا تكاد تشمله موثقة مسعدة بن صدقة، و الا لا يكاد يمكن إثبات حجية خبر الواحد في الأحكام الكلية، ضرورة انه دائما يكون الاخبار بخبر الواحد اخبارا عن الموضوع حتى الاخبار عن السند لان فعل المعصوم عليه السّلام، أو قوله، أو تقريره، كسائر الموضوعات التي يصدر منه كإكرامه لزيد، أو توبيخه لعمرو، فان من جملة الحركات الخارجية الصادرة من الإنسان: القول، و الكلام، و الفعل، و العمل، و التقرير، و الإمضاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 395

..........

______________________________

فالحاكى عن هذه الأشياء في الحقيقة حاك عن موضوع خارجي، فالراوي إذا قال: حدثني جعفر بن محمد عليهما السّلام: أخبر بقوله هذا: عن كلام صدر منه، و هو مثل ما لو أخبر عن فعل خارجي تحقق منه، غاية الأمر ان ههنا متعلق القول حكم شرعي، بخلاف ما لو حكى عن شي ء ليس من مقولة الحكم فإنه يكون كشي ء تاريخي.

فتحصل: ان الاخبار دائما تحكي عن موضوع خارجي و أدلة حجية خبر الثقة انما تدل على حجية خبر الثقة في الموضوعات التي تقع في طريق إثبات الحكم الكلى، و موثقة مسعدة بقرينة المورد تدل على عدم حجية خبر الواحد في الموضوعات التي

تقع في طريق إثبات الحكم الجزئي.

و بالجملة الموضوع على نحوين فتارة يكون من طرق إثبات الحكم الكلى، و مرآة له، و اخرى يكون طريقا و مصداقا للحكم الجزئي.

و الخبر المثبت للقسم الأول اخبار عن شئون الحكم الشرعي الكلي بخلاف الثاني، فإن قلنا بحجية خبر الثقة في خصوص إثبات الحكم الكلى فالاعتبار مساعد لحجية ما يقع في طريق إثباته.

و على كل الشهادة بالاجتهاد أو الأعلمية من إثبات الموضوع في طريق الحكم الكلي فان لم نقل باعتبار خبر الثقة في إثبات الموضوعات الخارجية و قلنا بأنه لا بد فيها من شهادة العدلين و لكن يمكن ان يقال باعتبار اخبار الثقة بالاجتهاد، أو الأعلمية، لما أشرنا أنه إخبار عما يكون في طريق إثبات الحكم الكلى.

ذكر و تعقيب

لسيدنا العلامة الحكيم (قدس سره) بيان لثبوت الاجتهاد بخبر الثقة فقد وقع النقاش فيه فقال ما حاصله:

ان مقتضى عموم ما دل على حجية خبر الثقة في الأحكام الكلية حجية خبره باجتهاد المجتهد لان المراد منه ما يؤدي الى الحكم الكلى- سواء كان بمدلوله المطابقي، أو الالتزامي- و الاخبار باجتهاد المجتهد من قبيل الثاني لأن مدلوله المطابقي و ان كان أصل الاجتهاد، و هو اخبار عن الموضوع، الا ان مدلوله الالتزامي هو ثبوت

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 396

..........

______________________________

الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدي إليه نظر المجتهد نظير أخبار زرارة عن قول الإمام الذي هو اخبار عن الموضوع يكون أيضا اخبارا عن الحكم الكلى و يكون حجة على المجتهد.

و توهم اختصاص أدلة حجية خبر الثقة بالأخبار عن الحس فلا تشمل الاخبار عن الاجتهاد الذي هو أمر حدسي.

مدفوع بأن الاخبار عن الاجتهاد من قبيل الاخبار عن الحس كالاخبار عن قول

الامام عليه السّلام، و دلالتهما على الحكم الكلى بالالتزام انما هو بتوسط الحدس غاية الأمر ان الحدس في الثاني من المجتهد و حجة عليه، و الحدس في الأول من المجتهد و حجة على العامي المقلد له.

و على هذا المبنى يكفى توثيق رجال السند بخبر الثقة و كذا في إثبات المعنى بأخبار اللغوي الثقة.

و لو قلنا بحجية خبر الثقة في الموضوعات كما عليه بناء العقلاء فالحكم أظهر لكنه محل تأمل لإمكان دعوى تحقق الردع عنه اه «1».

و لكن نوقش فيه أولا: بأن أدلة حجية خبر الثقة التي عمدتها بناء العقلاء، غير مختصة بما إذا كان المخبر به حكما كليا بل تعم الاخبار بالموضوع الخارجي فلا يلائم البحث عن شمول أدلة حجية خبر الثقة للموضوعات الخارجية بل الحرى بالبحث بعد شمول أدلة حجية خبر الثقة لكل من الاخبار عن الحكم الكلى و الموضوع الخارجي بخبر الثقة و قد عرفت مانعية موثقة مسعدة من ثبوت الموضوع الخارجي بخبر الثقة فلاحظ.

و ثانيا: بان مجرد الاخبار عن الاجتهاد لا يكون اخبارا عن الحكم الكلى بمدلوله الالتزامي لأن غاية ما يقتضيه هو ثبوت ملكة الاجتهاد، و تحقق القدرة على الاستنباط لا فعلية الاستنباط خارجا فمن الممكن تحقق ملكة الاجتهاد من دون ان يكون

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 38.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 397

..........

______________________________

استنباطا أصلا.

و ثالثا: بالفرق بين الاخبار عن اجتهاد المجتهد و اخبار زرارة عن قول المعصوم عليه السّلام و ذلك لأنه في اخبار زرارة عن الحكم الواقعي لا يرى للموضوع الخارجي- و هو قول المعصوم- واسطة أصلا بخلاف الاخبار عن اجتهاد المجتهد فإنه لا يتجاوز عن المخبر به و لا يعد اخبارا

عن الحكم بوجه «1».

قلت: و لا يخفى ما في النقاش الثاني لأن تحقق ملكة الاجتهاد بدون مزاولة الاستنباط أمر نادر لو لم يكن محالا عادة فالأخبار عن اجتهاد المجتهد يلازم الاخبار عن الحكم الإلهي فتدبر.

و بهذا يظهر ضعف النقاش الثالث لأن الاخبار عن اجتهاد المجتهد في الحقيقة عبارة عن الأحكام التي استنبطها، و في كلا الخبرين يكون اخبارا عن الموضوع و يلازم الاخبار عن الحكم و مجرد خفاء الواسطة في خبر زرارة، بخلافه في الاخبار عن اجتهاد المجتهد غير فارق فتدبر.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة ج 1/ 198.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 399

[مسئلة 21- إذا كان مجتهدان لا يمكن العلم باعلمية أحدهما]

اشارة

مسئلة 21- إذا كان مجتهدان لا يمكن العلم باعلمية أحدهما و لا البينة (1) فإن حصل الظن باعلمية أحدهما (2) تعين تقليده (3)، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدم، كما إذا علم انهما متساويان، أو هذا المعين اعلم و لا يحتمل اعلمية الأخر، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميته.

______________________________

(1) و لا غيرهما من الطرق المثبتة كالاطمينان.

(2) بخصوصه و لم يحتمل اعلمية الأخر، و مع احتمال اعلمية الأخر ففي صورة اختلافهما في الفتوى يأخذ بأحوط القولين ان أمكن، و الا فيتخير بينهما.

(3) الأقوى لزوم تقليد مظنون الأعلمية، أو محتملها في صورة العلم باختلافهما من حيث الفتوى تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها و الا فيتخير في تقليد أيهما شاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 400

..........

______________________________

أقول: كان ينبغي ان يضيف (قدس سره) الى قوله و لا البينة: و لا غيرها من الطرق المعتبرة كالاطمينان و اخبار العدل على اشكال في الأخير.

ظاهر المتن التفرقة بين الظن بالأعلمية و احتمالها و توجيهه

ثم ان ظاهر قوله: تعيّن تقليده في صورة الظن بالأعلمية بقرينة احتياطه في صورة محتمل الأعلمية هو الفتوى بتعيّن تقليد مظنون الأعلمية في المفروض مع انه قدس لم يفت في المسئلة الثانية عشر بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان بل احتاط. فما ظنك في صورة الظن بالأعلمية.

و قد تقدم ان تعيّن تقليد الأعلم انما هو في صورة العلم بالمخالفة بينه و بين غيره تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها و الا فمخير في تقليد أيهما شاء.

فإذا في مفروض المسئلة ان لم يعلم بالمخالفة بينهما فيتخير في تقليد أيهما شاء، و مع العلم بالمخالفة و لو إجمالا يأخذ بأحوط القولين ان أمكن الاحتياط، و الا فإن دار الأمر بين المحذورين،

أو كان الوقت ضيقا، لا يمكن الجمع بين الفتويين فمخير في تقليد أيهما شاء.

و الظاهر انه لا فرق بين صورتي الظن بالأعلمية و احتمالها (فتوى، و احتياطا) في مفروض المسئلة كما لا يخفى، فما يتراءى من المتن من التفرقة بينهما بالفتوى بالتعيين في صورة الظن بالأعلمية و الاحتياط في صورة احتمالها غير ظاهر مع انه لا يساعد ما ذهب إليه في المسئلة الثانية عشر من الاحتياط بلزوم تقليد الأعلم مع الإمكان.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 401

..........

______________________________

الا ان يقال انه لم يفت في مفروض المسئلة بقرينة ما ذهب إليه في المسئلة المتقدمة، و قوله في نفس المسئلة بتقديم محتمل الأهمية أولا مع تصريحه بالاحتياط أخيرا فتدبر.

ثم ان الظاهر ان مفروض المسئلة ما هو ما إذا ظن أو احتمل اعلمية أحدهما و لم يظن أو لم يحتمل اعلمية الأخر، و اما مع ذلك فله حكم أخر سنشير اليه.

صور الظن أو الاحتمال باعلمية أحد المجتهدين و حكمها

و كيف كان يمكن تصوير المسئلة ثلاثية الأطراف بان احتمل اعلمية زيد مثلا من عمرو، و اعلمية عمرو من زيد و احتمل تساويهما، كما يمكن تصويرها ثنائية الأطراف بان احتمل تساويهما مع احتمال اعلمية أحدهما المعين. و لكل منهما صورتان.

اما صورتا ثلاثية الأطراف: فلأنه مع احتمال تساويها تارة يكون احتمال اعلمية كل من زيد بالنسبة إلى عمرو، و بالعكس احتمالا مساويا، و اخرى يكون مع مظنة اعلمية أحدهما.

و اما صورتا ثنائية الأطراف: فلانة تارة يكون مقرونا بالعلم الإجمالي باعلمية أحدهما و لكن يحتمل كونه زيدا، أو عمرا، و اخرى لا يكون مقرونا بذلك و هو ما إذا احتمل تساويهما، و احتمل اعلمية خصوص أحدهما.

و على جميع التقادير اما يعلم بمخالفتهما من حيث الفتوى

تفصيلا، أو إجمالا في المسائل المبتلى بها، أو لا يعلم ذلك، و مع العلم بالمخالفة اما يتمكن من الاحتياط بين الفتويين، أو لا يتمكن من ذلك.

و قد تقدم منا في ذيل المسئلة الثانية عشر، ان الأقوى لزوم تقليد الأعلم في صورة الاختلاف في الفتوى إذا كانت فتواه مطابقة للاحتياط، سواء كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط من جهة أخرى أم لا.

و اما مع عدم العلم بالمخالفة فلا يجب تقليد الأعلم مع العلم التفصيلي بالأعلمية

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 402

..........

______________________________

فضلا عما علم إجمالا، أو ظن أو احتمل بها فلا يلزم الأخذ بمظنون الأعلمية أو محتملها عند عدم المخالفة في الفتوى بل يتخير في تطبيق العمل بأي منهما.

و اما عند مخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلا، أو إجمالا فذهب بعض الأساطين دام ظله إلى الأخذ بأحوط القولين لمناقشته في أدلة التخيير، و حكمه بتساقط الفتويين و لا اثر للظن باعلمية أحدهما فضلا عن احتماله لعدم الدليل على اعتبار الظن في المقام «1» و لكن تقدم منا عدم المساعدة معه: بعد تسالم الأصحاب على التخيير عند المعارضة و عدم وجوب الاحتياط، اما لتمامية ما دل على التخيير بين الخبرين بضميمة عمل الأصحاب بخبر الضعيف الدال على التخيير و إلحاق الفتويين بالخبرين أو لتحقق الإجماع على التخيير بين الفتويين المختلفتين.

فعلى هذا إذا كان أحدهما المعين مظنون الأعلمية أو محتملها يكون داخلا في باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية، و قد تقدم ان العقل مستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيينه للعلم بأنه حجة و معذرة على كل حال، و حجية الآخر و معذريته غير محرزة.

هذا كله إذا أمكن الاحتياط.

و اما إذا

لم يتمكن من الاحتياط اما لعدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين، أو لأن أحدهما افتى بوجوب الشي ء و الأخر بحرمته، فلا محالة يتخير بينهما، و قد صرح بذلك بعض الأساطين دام ظله و قال في وجهه.

«انه للعلم الإجمالي بوجوب تقليد الأعلم و هو مردد بين شخصين، و لا مرجح لأحدهما على الأخر.

و في هذه الصورة إذا ظن باعلمية أحدهما، أو احتملها وجب الأخذ به للفرق بين صورة إمكان الاحتياط و عدمه لتساقط الفتويين في الأولى دون الثانية، لأن الأحكام الواقعية منجزة عليه بالعلم للاجمالى غير مرتفعة عنه فحيث لا يمكنه الاحتياط فلا مناص

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 117.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 403

..........

______________________________

الا من اتّباع احدى الفتويين فاذا احتمل أو ظن باعلمية أحدهما، يدور أمر المكلف بين التعيين و التخيير و العقل يستقل بالأخذ بما يحتمل تعيينه» «1».

تنبيه

و لا يخفى ان ما ذكرنا من لزوم الأخذ بمظنون الأعلمية، أو محتمله انما هو في التقليد الابتدائي، و اما بعد التقليد الصحيح ان ظن، أو احتمل اعلمية غير المجتهد الذي كان يقلده فالأحوط تركه.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 213.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 405

[مسئلة 22- يشترط في المفتي أمور]

اشارة

مسئلة 22- يشترط في المجتهد (1) أمور: (2)

______________________________

(1) و من يصح تقليده.

(2) يشكل اعتبار بعض الأمور المسطورة، و يقوى عدم اعتبار بعضها الأخر، نعم يمكن المساعدة على اعتبار بعضها و سنشير الى المختار منها، و ربما يذكر أمور أخر يتجشم في اعتبار بعضها و يستغنى عن بعضها الأخر بهذه الأمور.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 406

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 406

البلوغ (3) و العقل، و الايمان، و العدالة، و الرجولية و الحرية، على قول (4) و كونه مجتهدا مطلقا (5) فلا يجوز تقليد المتجزى، و الحيوة (6) فلا يجوز تقليد الميت ابتداء، نعم يجوز البقاء (7) كما مر، و ان يكون اعلم، (8) فلا يجوز على الأحوط (9) تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل، و ان لا يكون متولدا من الزنا، و ان لا يكون مقبلا على الدنيا (10) و طالبا لها مكبا عليها مجدا في تحصيلها، ففي الخبر من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه.

______________________________

(3) على الأحوط.

(4) ينبغي مراعاتها.

(5) لم يشترط ذلك، و الأقوى جواز تقليد المجتهد المتجزى فيما اجتهد فيه

إذا استنبط مقدارا معتدا به بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، و العارف بالأحكام، و نحوها، بل قد يجب تقليده إذا كان اعلم من غيره أو كانت فتواه المخالفة للمجتهد المطلق موافقة للاحتياط.

(6) يعنى ابتداء.

(7) بل يجب البقاء إذا كان الميت أعلم في المسائل التي عمل بها.

(8) ليست الأعلمية شرطا للتقليد نعم فيما إذا علم اختلاف فتواه الموافقة للاحتياط لفتوى غيره فالأقوى تقليده.

(9) بل على الأقوى كما تقدم لكن في صورة العلم بالمخالفة و كون فتواه مخالفة للاحتياط.

(10) على الأحوط، و المستفاد من الخبر الشريف اعتبار التقوى الأكيد و الورع الشديد، و ان شئت قلت المرتبة العالية من العدالة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 407

..........

______________________________

أقول: تنقيح المقال في المسئلة يستدعي البحث في مقامين- كما أشرنا إليهما في أصل التقليد، و في مسئلتي تقليد الأعلم، و تقليد الميت- من مقتضى عقل العامي في المسئلة، و ما يقتضيه الأدلة.

المقام الأول في حكم عقل العامي في المراجعة إلى المجتهد

لا ينبغي الإشكال في ان عقل ارتكازي العامي، و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد في تفريغ ذمته عما اشتغلت بالتكاليف يدعوه الى الرجوع الى مجتهد جامع لجميع الشرائط التي يحتمل دخالتها في مرجع الفتوى لأنه بالمراجعة الى غير الواجد لها و لو لشرط واحد منها فمشكوك فيه، فلا يكاد يكتفى به في مقام تفريغ الذمة.

نعم ان كانت فتوى الفقيه الجامع للشرائط عدم اعتبار شرط في التقليد- مثلا إذا رأى جواز تقليد المتجزى- فيصح للعامي تقليد المتجزى من ناحية فتوى الفقيه الجامع، و الفرق بينهما واضح.

المقام الثاني فيما تقتضيه الأدلة في المراجعة إلى المجتهد مقتضى الأصل في المسئلة

و ليعلم أولا انه إذا شك في اعتبار شرط في حجية فتوى المجتهد فمقتضى الأصل اعتباره، لان الشك في مقام الامتثال و إسقاط التكليف المعلوم ثبوته بأصل الشريعة، لا في أصل التكليف، و قد قرر في محله ان الشك كلما كان في مقام الامتثال

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 408

..........

______________________________

و سقوط التكليف المعلوم و لو بالإجمال يكون المرجع الاشتغال، و كلما كان الشك في أصل التكليف يكون المرجع البراءة، و المقام من قبيل الأول لأن مرجع الشك الى سقوط التكاليف المعلومة بأصل الشريعة بالتقليد، و المراجعة إلى المجتهد و العمل بفتياه.

نعم ان دل دليل على عدم اعتبار ما احتمل اعتباره فيؤخذ به.

و بالجملة كلما شك في اعتباره في المجتهد فمقتضى الأصل اعتباره ما لم يدل من الشرع عموما أو خصوصا على عدم اعتباره.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:

عمدة الدليل على حجية الفتوى هي بناء العقلاء الممضاة شرعا و لو بعدم الردع فان ثبت في مورد نرفع اليد عن ذلك الأصل و نأخذ بما بنو عليه الا إذا ثبت ردع من الشرع عنه فاذا لم يثبت

ردع من الشرع نأخذ بما بنو عليه.

الشرائط التي ذكر في المتن لمرجع الفتوى

اشارة

الشرائط التي يذكر في المجتهد و من يصح تقليده أمور عدها الماتن أحد عشر امرا، و ربما يذكر غيرها فنذكر أولا ما أورده (قدس سره) و نشير الى ما هو المختار فيها، ثم نعقّبها بما أضيف إليها، و نعطف النظر إليها فنقول:

الشرط الأول: البلوغ
اشارة

و ليعلم انه لا بد من ملاحظة كل واحد من الشرائط بحياله منفكا عن سائر الشرائط بحيث لو كان المجتهد واجدا لجميع الشرائط ما عدى البلوغ مثلا فيبحث فيه بأنه هل يصح المراجعة إلى المجتهد الواجد لجميع الشرائط ما عدى البلوغ أم لا بد من كونه بالغا، و هكذا في اعتبار العقل لا بد من قصر النظر على اعتبار العقل بخصوصه مع استجماعه لسائر الشرائط، و هكذا بقية الشرائط.

فما يظهر من بعضهم لاعتبار البلوغ مثلا- من انه لا اطمينان بآراء الصبي و استنباطاته بعد رفع القلم عنه و عدم تكليف له و عدم رادع و حاجز له في ارتكاب المعاصي فلا طريق الى عدم خيانته، و كذبه و لو تعبدا- فغير وجيه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 409

..........

______________________________

لان محط البحث كما أشرنا هو فيما إذا اجتمع في الصبي سائر الشرائط المعتبرة و منها العدالة و ترك المعاصي و إتيان الواجبات و بالجملة لا بد من قصر النظر على جهة الصباوة.

فالصبي الذي إذا رأيناه و زاولناه سرا و علانية، و لم نر منه عملا مخالفا للعرف و العقلاء، و الشريعة المقدسة بل آتيا بجميع محامد الصفات، و الواجبات تاركا لمساوي الأخلاق تاركا للمحرمات يحصل لنا الاطمئنان و الوثوق بإيمانه بل ربما يحصل الاطمئنان منه ما لم يحصل من البالغ، و لعمر الحق انه واضح.

الوجوه التي يستدل بها لعدم اعتبار البلوغ و دفعها

يستدل لعدم اعتبار البلوغ في مرجع الفتوى بوجوه.

منها: بناء العقلاء حيث لم يفرقوا بين البالغ و غيره إذا حاز غير البالغ مراتب الفضل حتى صار كالبالغ فتريهم لا يعتبرون البلوغ في رجوع الجاهل منهم الى العالم فاذا كان غير البالغ واجدا لكل ما يجده البالغ، و ماهرا

في صنعة الطبابة مثلا فيراجعون اليه من غير نكير و لو فرض كون الصبي أعلم من غيره لكان المراجعة إليه منهم بلا ريب و اشكال.

و لكنه لا يخلو عن مناقشة: لعدم تعارف حيازة غير البالغ مراتب الفضل الا نادرا في قرون متطالية فما ظنك بوجود البناء منهم عليه.

و غاية ما يمكن ان يقال انه على فرض حيازة غير البالغين تلك المراتب لا يكادون يفرقون العقلاء بينهم و بين البالغين، فالبناء منهم إذا تقديري لا فعلى، و قد تقرر في محله ان مجرد بناء العقلاء على أمر ما لم ينضم إليه رضي الشارع لا يكاد يكون حجة و متبعا، و لذا يتجشم في تقرير بناء العقلاء بكونه في مرئي من الشارع و مسمع منه ليستكشف من عدم ردعه رضائه به، و أنت خبير بان هذا في البناء الفعلي بمكان من الإمكان، و اما إجرائه في البناء التقديري فدون إثباته خرط القتاد.

فظهر ان التمسك ببناء العقلاء و السيرة العقلائية على المراجعة الى غير البالغ

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 410

..........

______________________________

ليس كما ينبغي.

و منها: إطلاقات أدلة التقليد لصدق عنوان أهل الذكر، و العالم، و الفقيه، و الناظر في الحلال و الحرام، و راوي الحديث و نحو ذلك على غير البالغ كصدقها على البالغ.

و لكن يناقش في ذلك أولا: بدعوى انصرافها الى الإفراد المتعارفة لما أشرنا من ندرة وجود غير البالغ الحائز لمراتب الفضل في طول القرون و الأعصار الموجب لندرة استعمال تلك الألفاظ فيه فتأمل.

و ان أبيت عن ذلك فلا أقل من الشك في الإطلاق و معه لا يتم الاستدلال.

و ثانيا: على تقدير الإطلاق فقد يقال بتقييدها بما يستفاد منه اعتبار الرجولية

كقول الصادق عليه السّلام في رواية ابى خديجة. و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا إلخ «1» حيث أمر عليه السلام بالمراجعة الى رجل منهم يعلم شيئا من قضاياهم.

و قوله في رواية أخرى لأبي خديجة: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا إلخ «2» فقد أمر عليه السّلام بجعل رجل منهم لذلك.

و قوله عليه السّلام في مقبولة عمرو بن حنظلة: ينظر ان من كان منكم ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا إلخ «3» حيث ان المتبادر من لفظة (منكم) كون الراوي من الرجال.

و قوله عليه السّلام في خبر الاحتجاج: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه الى قوله فللعوام ان يقلدوه «4».

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

(3) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(4) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 411

..........

______________________________

حيث ان المتبادر من الجمع المذكر كون الفقهاء من الرجال الى غير ذلك من الاخبار.

و بالجملة اعتبار الرجولية المقابلة للصباوة في القاضي يقتضي اعتبارها في الفتوى مع ان الخبر الأخير في مورد الفتوى.

و لكن لا يخفى ما فيه أولا:

بأنه لو كان لأدلة التقليد إطلاق، و لم نقل بانصرافها عن الصبي غير البالغ لا يصلح ما ذكر للتقييد، بداهة ان ذكر عنوان الرجولية فيما ذكر وارد مورد الغالب، لا بلحاظ مقابلتها للصباوة، كما هو الشأن في كثير من الموضوعات المأخوذة موضوعات للأحكام في الأبواب المتفرقة، و لذا ترى في اخبار الشكوك: عبر: ان الرجل إذا شك كذا. فله كذا. مع عدم اختصاص

أحكام الشكوك بالرجل، بل يعم مطلق الشاك و لو كان أمرية، أو صبيّا، و لأجل ذلك يرى المشهور مشروعية عبادة الصبي مع ان لسان أكثر أدلة مشروعية العبادات مخصوصة بالمكلف كما لا يخفى.

و ثانيا: ان أبيت إلا عن لحاظ عنوان الرجولية فيما ذكر فيمكن ان يقال ان غاية ذلك هي مقابلتها لعنوان المرية كما سيجي ء لا ما يعم الصبي فتدبر.

و ثالثا: ان مورد غير خبر الأخير باب القضاء و لا ملازمة بين بابى القضاء و و الفتوى، الا ان يقال ان منصب القضاء ملازم للفتوى و لا عكس، فما دل على اعتباره في القضاء يكون في الفتوى فتأمل.

و منها: حكم العقل الارتكازي حيث انه لا يفرق بين البالغ و غيره، و لا يرى للبلوغ اى شأن في صحة المراجعة، ما لا يراه لغير البالغ الحائز مرتبته.

و بالجملة العقل المصحح لمراجعة الجاهل الى العالم لا يفرق بين البالغ و غيره إذا حاز غير البالغ مراتب الفضل كالبالغ فيصح المراجعة الى غير البالغ الحائز مراتب الفضل فيتم الاستدلال به الا إذا قام دليل على اعتبار البلوغ، فربما يذكر وجوه لاعتباره في مرجع الفتوى فان تم نرفع اليد عن حكم العقل و الا فحكم العقل متبع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 412

الوجوه التي يستدل لاعتبار البلوغ في مرجع الفتوى
الوجه الأول: الإجماع

______________________________

قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره): «يعتبر في المجتهد أمور: البلوغ، و العقل، و الايمان، و لا إشكال في اعتبار الثلاثة» «1».

فتراه (قدس سره) جعل اعتبار البلوغ فيه من الأمور المسلمة.

و المحقق الأصفهاني (قدس سره) بعد ذكر أمور منها البلوغ في المفتي قال: «و لو لا التسالم على الكل من الكل لأمكن المناقشة في الكل» «2».

يظهر منه تسالمهم على اعتبار

البلوغ فيه.

و قال والدنا العلامة (قدس سره) بعد ذكر أمور في مرجع الفتوى التي منها البلوغ:

«ان اعتبار تلك الأمور في مرجع الفتوى مما تسالم عليه الكل فلا جدوى في تطويل الكلام فيها ببيان المناقشة» «3».

قلت: ان تم الإجماع التعبدي فبها، و الا فلو كان تسالمهم عليها من جهة سائر الوجوه، أو ظن، أو احتمل ذلك فلا ينفع.

الوجه الثاني: بعد تصدى الصبي المراهق لمرجعية العظمى للمسلمين،
اشارة

و لعل تصدى غير البالغ للإفتاء، و المرجعية أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدسة بحيث يتنزهون مقام الإفتاء و المرجعية عن غير البالغ.

و ربما يتنزهون عن بعض البالغين ممن لم يمض عن بلوغه مدة كثيرا، بل ربما يستشمّ اعتبار الشيخوخة فيه من قوله عليه السّلام: اصمدا في دينكما على كل مس في حبنا، و كل كثير القدم في أمرنا «4» فما ظنك باعتبار البلوغ.

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 59.

(2) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 50.

(3) رسالة التقليد/ 14.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 413

..........

______________________________

و فيه: انه لم يقم دليل على ذلك سوى الاستبعاد و لا يعول على الاستبعاد بعد مساعدة الدليل، و كان الصبي المراهق مستجمعا لسائر الشرائط المعتبرة في مرجع الفتوى بل إذا كان اعلم من البالغين.

و لقد أجاد المحقق الأصفهاني (قدس سره): حيث قال ان الواضح ان أمر الفتوى من حيث المنصب ليس بأعظم من النبوة، و الإمامة فليس شمول الأدلة له مع وجود سائر الشرائط امرا مستشبعا «1».

و بالجملة كما أفيد: استبعاد ان يكون المقلد للمسلمين صبيا مراهقا إذا كان واجدا لسائر الشرائط مما لا وقع له كيف؟! و من الأنبياء، و الأوصياء عليهم أفضل الصلاة من بلغ مرتبة النبوة، أو الإمامة فلا تكون

منافية للمرجعية ابدا و لم نستفد من مذاق الشارع ان تصدى غير البالغ للإفتاء و المرجعية أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدسة «2».

تصدى عيسى و يحيى عليهما السّلام للنبوة حال الصباوة

قلت: أشار بقوله تصدى بعض الأنبياء أو الأوصياء للنبوة، أو الإمامة إلى نبوة عيسى عليه السّلام و قد فوضت اليه منصب النبوة و قد كان في المهد صبيا قال تعالى حكاية عنه إِنِّي عَبْدُ اللّٰهِ آتٰانِيَ الْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً «3» و الى نبوة يحيى بن زكريا (على نبينا و آله عليهما السّلام): قال تعالى يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «4».

تصدي الإمام الجواد (ع) للإمامة و هو ابن سبع سنين

و الى إمامه سيدنا و مولانا جواد الأئمة عليهم السلام، و قد فوض اليه منصب

______________________________

(1) رسالة الاجتهاد و التقليد/ 50.

(2) التنقيح ج 1/ 215.

(3) مريم: 19/ 30.

(4) مريم: 19/ 12.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 414

..........

______________________________

الإمامة و قد بلغ من العمر سبع سنين.

و ذلك لأنه عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: ولد في شهر رمضان سنة خمس و تسعين و مأة بالمدينة، و قبض بالبغداد في ذي القعدة سنة عشرين و مائتين، و له يومئذ خمس و عشرون سنة، و كانت مدة خلافته لأبيه، و إمامته من بعده سبع عشرة سنة اه «1» فيكون سنه عند وفاة أبيه عليهما السّلام سبع سنين.

تصدي الإمام الهادي (ع) للإمامة و هو ابن ثمانية سنة

و الى إمامه سيدنا الامام الهادي عليه السّلام، فقد فوض اليه منصب الإمامة و قد بلغ من العمر ثمانية سنة.

و ذلك لأنه عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: كان مولده بصربا بمدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة و مائتين و توفي بسر من رأى في رجب سنة أربع و خمسين و مأتين و له يومئذ احدى و أربعون سنة و أشهر. الى ان قال: و كانت مدة إمامته ثلاثا و ثلاثين سنة «2» فيكون سنه عند وفاة أبيه ثمانية سنة.

تصدي الإمام الحجة بن الحسن (ع) للإمامة و هو ابن خمس سنين

و الى إمامه سيدنا صاحب الأمر حجة بن الحسن العسكري عجل اللّه فرجه الشريف و قد فوض اليه منصب الإمامة و هو ابن خمس سنين.

و ذلك لان مولده عليه السّلام كما في إرشاد المفيد: كان ليلة النصف من شعبان سنة خمس و خمسين و مأتين و امه أم ولد يقال لها نرجس، و كان سنه عند وفاة أبيه خمس سنين أتاه اللّه فيها الحكمة و فصل الخطاب و جعله آية للعالمين، و أتاه اللّه الحكمة، كما أتاها يحيى صبيا، و جعله اماما حالة الطفولية الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم في المهد صبيا «3».

______________________________

(1) المصدر ط النجف الأشرف/ 356.

(2) المصدر ط النجف الأشرف/ 367.

(3) المصدر ط النجف الأشرف/ 390.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 415

الوجه الثالث: ان المحجورية المطلقة للصبي بحيث لا يجوز له التصرف في أموال نفسه و لا في أموال الغير إلا بإذن وليه،

______________________________

تنافي المرجعية للفتوى فان من وظائف المرجع حفظ أموال القصّر و الغيّب، و الأموال المجهولة مالكها و صرفا في مواردها المقررة و التصدي للأمور الحسبية و غيرها.

و فيه: ان محل البحث حجية فتوى الصبي و آرائه و جواز العمل بما استنبطه و لا ينافي ذلك محجوريته للتصرف في أموال نفسه و غيره.

و بالجملة باب المرجعية في الفتوى و حجية آراء الصبي غير باب المرجعية في حفظ الأموال و صرفها في مواردها فيصح ان يقال بجواز الإفتاء للصبي و حجية فتواه لغيره و لكن لا يجوز تصرفاته في أموال نفسه و غيره فتدبر.

الوجه الرابع: ما ورد: ان عمد الصبي و خطاءه واحد

كما في خبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال عمد الصبي و خطأه واحد «1».

و خبر إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه ان عليا عليهم السّلام كان يقول عمد الصبيان خطا يحمل على العاقلة «2».

تقريب الدلالة هو انه يستفاد منهما إلغاء أفعال الصبي عن الاعتبار و منها أقواله و آرائه و فتاواه فلا حجية للفتاوى الصادرة خطأ.

و فيه أولا: ان المستفاد منهما أجنبي عما نحن بصدده لان المراد من ان عمد الصبي خطأ بقرينة ما في ذيل خبر إسحاق هو ان دية الصبي في القتل خطا على عاقلته لا ان كل ما يصدر عنه فهو بحكم الخطاء في الشريعة بحيث لو قلنا بمشروعية عبادات الصبي كما هو المشهور لم تبطل صلاته إذا تكلم فيها عمدا فتدبر.

و ثانيا: أو ان أبيت عن اختصاصهما بمورد القتل فلا أقل لا إطلاق لهما بحيث يشمل كل ما يصدر منه حتى أقواله، و آرائه، و القدر المتيقن منه هو خصوص

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب العاقلة ح/ 2.

(2) الوسائل باب 11 من

أبواب العاقلة ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 416

..........

______________________________

أفعاله الصادرة منه و المعاملة مع أفعاله و تروكه معاملة الخطاء و عدم المؤاخذة بهما فلا يشمل أقواله و آرائه فلا يستفاد بطلان آرائه و عدم اعتبار فتواه و هو واضح.

الوجه الخامس: ما ورد من رفع القلم عن الصبي
اشارة

كخبر ابن ظبيان قال اتى عمر بامرئة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال على عليه السّلام: اما علمت ان القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ «1».

و بمضمونه أخبار كثيرة في أبواب متفرقة.

يستفاد من رفع القلم عن الصبي محجوبيته عن التصرف، و انه مولّى عليه و من كان بهذا الشأن كيف يصح تقليده و أخذ آرائه.

و فيه: ان ظاهر الرفع هو رفع المؤاخذة بأفعاله و تروكه و انه لا يعاقب عليها و ظاهر ان ذلك لا يقتضي عدم جواز تقليده و الحكم ببطلان أقواله و عدم اعتبار آرائه و فتاواه.

فتحصل انه بعد عدم تعارف حيازة غير البالغ تلك المراتب يحكم العقل الارتكازي بعدم الفرق في الرجوع الى العالم بين كونه صغيرا أو كبيرا إذا اجتمع في الصغير ما اعتبر في الكبير، فلو اعتبر البلوغ فإنما هو بتعبد من الشرع، و قد عرفت عدم تمامية الوجوه المذكورة لاعتبار البلوغ في مرجع الفتوى.

و لكن عرفت حكاية الإجماع و تسالم الأصحاب على اعتبار البلوغ فان تم و كان بحيث يكشف و يحدس عن رأى المعصوم عليه السّلام و لم يظن ان مستندهم تلك الوجوه المزيّفة فهو و الا فلا يكاد ينفع.

و لكن مع ذلك كله تحفظا للخروج عما ادعى تسالم الأصحاب عليه فالأحوط اعتباره، و الذي يهون الخطب عدم كون المسئلة مبتلى

بها.

______________________________

(1) الوسائل باب 4 من أبواب مقدمات العبادة ح/ 11.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 417

تنبيه

______________________________

و لا يخفى ان محل الكلام اعتبار بلوغ المجتهد في زمان العمل بفتياه، و اما إذا استنبط الأحكام قبل البلوغ على الموازين المقررة و لم يعدل عنها بعد البلوغ فلا ينبغي الإشكال في جواز الرجوع اليه قال شيخنا الأعظم قدس في الرسالة:

«الظاهر ان الاجتهاد في حال الصغر، أو عدم الايمان و كذا الإفتاء حالهما لا يضر إذا كان في زمان العمل بالغا مؤمنا» «1».

الشرط الثاني: العقل
اشارة

لا إشكال في اعتبار العقل حال الاستنباط، و جميع الأدلة من الآيات، و الروايات و حكم العقل، و بناء العقلاء متطابقة على اعتباره، ضرورة ان عنوان الفقيه و العارف بالأحكام، و الناظر في الحلال و الحرام و غيرها من العناوين لا تكاد تنطبق على من لم يكن له عقل و دراية و لا ميزان لفهمه و درايته و لا لشي ء من اعماله و أقواله، و بناء العقلاء جار على رجوع الجاهل منهم الى العالم العاقل، لا الى من لا عقل له و من يفعل ما يريد بلا دراية، و لا ميزان، و يهرول في الشوارع و الأسواق بلا غرض و هدف، و يضرب هذا و يهتك ذاك، و يأكل ما تمكن من اكله الى غير ذلك.

و بالجملة لا إشكال في اعتبار العقل حال الاستنباط و قد عرفت من شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) حكاية تسالم الأصحاب عليه فالأدلة متطابقة على اعتبار العقل حال الاستنباط.

حكم اعتبار العقل حال العمل بالفتوى

و لكن وقع الكلام في اعتبار العقل بحسب البقاء في حجية ما استنبطه حال درايته و عقله و ان وزان العقل هل وزان الحيوة أم لا؟.

فاذا استنبط حال الدراية و العقل و أخذ العامي الفتوى منه في ذلك الحال- و افرض

______________________________

(1) رسالة التقليد/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 418

..........

______________________________

انه عمل بفتياه حال إفاقته- ثم طرء عليه الجنون هل يجوز له البقاء على تقليده كما هو الشأن بالنسبة إلى الحيوة- و قد تقدم- أولا يجوز بل لا بد من بقائه على صفة العقل حال العمل بفتياه؟ وجهان.

ربما يتوهم من ان مقتضى جواز الرجوع الى الميت و جواز البقاء على تقليد الميت هو جوازه في المقام.

و

لكن الحق اعتبار العقل حال العمل بفتياه أيضا و ذلك لا من جهة الأدلة اللفظية و بناء العقلاء، لان مقتضى إطلاقات الأدلة و بناء العقلاء فيه هو الشأن في اعتباره الحيوة بل اعتباره بلحاظ ان المرتكز في أذهان المتشرعة الواصل إليهم يدا بيد هو عدم رضي الشارع الأقدس بزعامة المجنون و من لا عقل له للفتوى، و يرون الجنون منقصة للرجل دون الموت.

الفرق بين الحيوة و بين الجنون و الهرم و المرض

و قد أشرنا سابقا الى ضعف ما استشهد به المحقق الخراساني (قدس سره) و مقايسة الحيوة بالجنون و الهرم، و المرض من جهة عدم بقاء الرأي في شي ء منها، و لذا ذهب الى عدم جواز بقاء تقليد الميت كما لم يجز البقاء على تقليد المجنون الذي كان حال الاستنباط عاقلا.

توضيح الضعف هو ان عدم الجواز عند طرو الجنون و الهرم و المرض ليس لعدم بقاء الرأي بل لجهة أخرى و هو ان المتصف بالجنون مثلا لا يليق- و لو باعتبار فتاواه السابقة- بزعامة المسلمين و مرجعية الفتوى لسقوطه عن الانظار بطرو حالة الجنون و نحوه عليه، و هذا بخلاف الموت فإنه لا يوجب نقصا على الإنسان بل هو كمال للنفس لتجردها من عالم المادة و لوازمها و انتقالها الى عالم المجردات و كمالاتها و لذا طرء الموت على أشرف الأنبياء و المرسلين و لم يطرء الجنون على أحد من الأنبياء.

مضافا الى دعوى الإجماع القطعي و تسالم الأصحاب على اعتبار العقل في مرجع

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 419

..........

______________________________

الفتوى حالتي العمل بفتياه و حال استنباطه فالأحوط الأقوى اعتبار العقل في مرجع الفتوى في الحالتين.

هذا كله في الجنون الإطباقي.

حكم تقليد المجنون الأدواري

و اما المجنون الأدواري- و هو الذي يعقل زمانا و يجنّ أحيانا- فهل يجوز تقليده حال إفاقته أم لا؟ وجهان.

من عدم المحذور في الرجوع اليه حال إفاقته لشمول إطلاقات الأدلة، و حكم العقل، و بناء العقلاء.

و من ان طرو الجنون لشخص يوجب منقصة فيه بحيث يوجب انحطاط درجته بين الناس، و سقوطه من أعينهم.

الأحوط عدم جواز تقليد المجنون الأدواري حال إفاقته.

الشرط الثالث: الايمان
اشارة

و المراد بالايمان معناه الأخص فمرجعه الى اعتبار كون مرجع الفتوى اثنى عشريا، فلا يصح تقليد الكافر، و المخالف، و من انتحل الى أحد من المذاهب الباطلة في الدين و المذهب.

و لا يخفى ان حكم العقل و بناء العقلاء و ان كان على عدم اعتبار الايمان في مرجع الفتوى ضرورة ان حكم العقل، و بناء العقلاء مستقر على رجوع الجاهل الى العالم من غير فرق بين كونه مؤمنا، أو مسلما، أو كافرا، و لا يرون اى فرق بين المؤمن و المخالف، و الكافر في المراجعة إليه بعد إحراز خبرويته و كونه من أهل الاطلاع.

الوجوه التي يستدل بها لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى
اشارة

و لكن يستدل لاعتبار الايمان فيه بوجوه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 420

الوجه الأول: الكتاب العزيز

______________________________

فقد ورد آيات مباركات في النهي عن اتّباع الظالم، و عدم الركون اليه، و التحذر عن الضال و المضلّ، و المنحرف، و صاحب الأهواء الباطلة، و ان كانوا من ذوي الأرحام، و العشيرة يجدها المتتبع فمع ذلك كيف يصح جعله سندا، و وسيلة بين الخلق، و الخالق، و لا بأس بالإشارة إلى ثلاثة منها تبيينا للمرام.

قال تعالى لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «1».

تقريب الاستدلال ان غير المؤمن من الكافر و المخالف و صاحب المذاهب الباطلة ظالم لنفسه قطعا و واضح ان الاستناد و الاعتماد على فتاوى المجتهد و تقليده في أمور الدين و الدنيا من أظهر مصاديق الركون.

و فرق واضح بين أخذ الفتوى من المجتهد و تقليده و بين العمل بأخبار الثقة و لذا ترى الطائفة عملت بأخبار الثقات من العامة و الفطحية، و الواقفية و غيرها من المذاهب الباطلة و لكن لم يعملوا بارائهم و اجتهاداتهم.

و قال تعالى لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ «2».

و ذلك لأنه لا ينبغي الإشكال في كون مقام الإفتاء و المرجعية و رجوع الأمة الإسلامية إلى الشخص فيما يرتبط الى معاشهم و معادهم خلافة إلهية، و عهد منه تعالى كما عن صاحب الجواهر احتماله و لا إشكال في ان غير المؤمن ظالم لنفسه فلا تناله الخلافة الإلهية.

و قال تعالى مٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «3».

لوضوح انه اى ضلالة أعظم مما يعتقده الكافر، و المخالف، و صاحب المذهب الفاسد، و اى عضد أعظم من مرجعية الفتوى.

الى غير ذلك من الآيات المباركات و فيما ذكرناه كفاية.

______________________________

(1) هود: 11/ 113.

(2) البقرة: 2/ 124.

(3) الكهف:

18/ 51.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 421

الوجه الثاني: السنة الشريفة
اشارة

______________________________

لا يخفى ان هنا اخبارا إذا لاحظها المتدرب الخبير يطمئن بصدورها عن ناحيتهم المقدسة بحيث لا يحتاج إلى ملاحظة اسناد كل منها، و لا يضر وقوع بعض إفراد مجهول لم يذكر اسمه في كتب الرجال، أو ذكر و لكن لم يذكر بمدح و لا ذم، أو بعض المنتحلين ببعض المذاهب الباطلة في اسناد بعضها.

فمنها: مكاتبة أبي الحسن عليه السّلام و هو في السجن لعلى بن سويد السّابي قال:

و اما ما ذكرت يا على ممن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله و خانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه و بدلوه فعليهم لعنة اللّه، و لعنة رسوله و لعنة ملائكته و لعنة آبائي الكرام البررة و لعنتي و لعنة شيعتي إلى يوم القيمة «1».

تقريب الدلالة ان الخيانة المذكورة لا تنفك عن اعتقاد الخلاف، و ليس المراد من عدم الايتمان مجرد الفسق الظاهري الذي يصدر من الشيعة أحيانا غير معتقد الخلاف

ذكر و تعقيب

و لكن ناقش سيدنا العلامة الحكيم (قدس سره) في دلالتها: بان الظاهر منها هو كون المانع عدم الايتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف، مع ان منصرفها القضاة الذين كانوا يعتمدون على القياس و نحوه من الحجج الظنية في قبال فتوى المعصومين عليهم السّلام و ليس مثلهم محل الكلام «2».

و بعبارة أخرى كما في التنقيح و الدروس و اللفظ من التنقيح: «ان الظاهر ان النهى فيها عن الأخذ عن غير الشيعة انما هو من جهة عدم الوثوق و الاطمئنان

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 42.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 42.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط

و التقليد، ج 1، ص: 422

..........

______________________________

بهم لأنهم خونة حيث خانوا اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و خانوا أماناتهم كما في الرواية، و أين هذا مما هو محل الكلام لان البحث انما هو في جواز الرجوع الى من كان واجدا لجميع الشرائط و تصدى لاستنباط الأحكام عن أدلتها على الترتيب المقرر عندنا و لم يكن فيه اى نقص غير انه لم يكن شيعيا و معتقدا بالأئمة عليهم السّلام» «1».

قلت: و لكن الإنصاف ان دلالة المكاتبة لا تخلو عن وجه لظهور صدرها في انهم لما خانوا اللّه و رسوله لا يجوز أخذ معالم الدين منهم و لو كانوا غير خائنين في نقل الخبر، و ظهور الصدر في النهي عن أخذ معالم الدين عن غير الشيعة و حصر أخذها من الشيعة أقوى من ظهور الذيل في عدم الأمانة في النقل فتدبر.

و بالجملة كما أفيد ان الاشكال في الرواية بأن الظاهر منها عدم الايتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف لا وقع له إذ ظهور صدرها في الحصر أقوى من الذيل في التعليل.

ان قلت: كما في التنقيح أخذ معالم الدين كما يتحقق بالرجوع الى الفتوى كذلك يتحقق بالرجوع الى رواة الحديث و من الظاهر ان حجية الرواية لا يتوقف على الإيمان في رواتها لما تقرر في محله حجية خبر الثقة و لو كان غير الاثني عشري قلت: الإنصاف ان الظاهر من مكاتبته عليه السّلام هو أخذ معالم الدين و مناهجه من غير فكر و روية و إتعاب النفس و تحمل المشاق في جرحه و معرفة وثاقته، و لعله بقرينة ما ذكرنا لا يريد عليه السّلام الرجوع إليهم في الرواية فتدبر.

ثم ان دعوى انصراف المكاتبة إلى قضاة العامة غير

واضح كما لا يخفى.

فالإنصاف ان استفادة اعتبار الايمان فيمن يؤخذ منه معالم الدين و الاستناد اليه من هذه المكاتبة غير بعيدة و قد أشرنا انه بلحاظ كثرة الاخبار لا يهمنا ملاحظة سندها و منها: ما كتبه أبو الحسن الثالث لأحمد بن حاتم بن ماهويه و أخيه بعد ما سئلاه عمن نأخذ معالم الدين فكتب عليه السّلام:

فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا و كل كثير القدم

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 219. الدروس ج 1/ 121.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 423

..........

______________________________

في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه «1».

تقريب الدلالة ظاهر.

النقاش في خبر ابن ماهويه و دفعه

و لكن نوقش بعدم العمل بظاهره لدلالته على اعتبار شدة الحب و الثبات التام في أمرهم و لم يعتبرا في مرجع الفتوى لأن غاية ما يعتبر فيه هو الايمان على الوجه المتعارف بين المؤمنين فيحمل على بيان أفضل الإفراد مع إمكان شمول معالم الدين للرواية أيضا.

قلت: يمكن ان يقال ان المراد بقوله عليه السّلام كل مسنّ في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا: من كان الايمان و حب الأئمة عليهم السّلام ثابتا في قلبه بحيث صار ملكة له لا من كانت المحبة غير ثابتة في قلبه، و لعل اعتبار الايمان بهذا المعنى في مرجع الفتوى قريب جدا.

و بالجملة جملة كل مسنّ في حبهم و كثير القدم كناية عن رسوخ المحبة فيهم، و ثبات القدم في أمرهم.

و حديث شمول معالم الدين للرواية قد عرفت حاله في الرواية المتقدمة فلاحظ.

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتكرر ذكرها. و فيها ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا الرواية «2».

و نحوها: رواية ابى خديجة و فيها. و لكن انظروا الى رجل

منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم «3».

و قريب منهما روايته الأخرى «4».

تقريب الدلالة هو ان المراد بالضمير في (منكم) فيهما من يكون من شيعة أئمة

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 45.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(3) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(4) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 424

..........

______________________________

أهل البيت عليهم السّلام و من ولاتهم، و حماتهم.

المناقشة في المقبولة و أختيها و دفعها

نوقش أولا: بأنها وردت في الترافع و مسئلة القضاء، و لا ملازمة بين بابى القضاء و الفتوى.

و لكن تقدم ان ما يعتبر في القضاء معتبر في الفتوى إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتباره في القضاء بخصوصه كالأعلمية في البلد في القاضي على القول به لما أشرنا أن الأعلمية المعتبرة في مرجع الفتوى أوسع.

و بالجملة استفادة اختصاص اعتبار الايمان في خصوص القضاء دون الفتوى جمودا على المورد غير وجيه بعد ما تقرر في محله انه لا فرق بينهما فيما هو المهم، بل هما يرتضعان من ثدي واحد.

و ثانيا: ان استفادة اعتبار الايمان منها ليس امرا تعبديا، بل بلحاظ أمر اعتباري و هو ان غير الشيعة غالبا لا يروى عنهم عليه السّلام و انما يروى عن المفتي في مذهبه و من اعتنق به في عقيدته فلا يكون راويا عنهم و عارفا بأحكامهم و قضاياهم، فاذا افتى غير المؤمن بحكمهم عليهم السّلام و على موازين ما صدر عنهم فلا مضايقة في نفوذ فتواه.

و لا يخفى ما فيه: لان مقتضاه ان القاضي غير الشيعي إذا حكم على الموازين المقررة عند الشيعة يكون حكمه نافذا و هو

كما ترى.

و الذي يسهل الخطب ان هذه التحليلات المدرسية لا يلائم الكلمات الصادرة عنهم عليهم السّلام المنزلة على الأفهام الساذجة العرفية، و من لاحظ الروايات يفهم بالفهم العرفي الساذج الذي هو المعيار في فهم كلماتهم ان اعتبار الايمان في الحاكم لخصوصية فيه لا بلحاظ ان غير الشيعة لا يحكم على موازين ما صدر عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام فتدبر فالإنصاف ان دلالة الروايات على اعتبار الايمان في القاضي واضحة، و قد عرفت الملازمة بين ما يعتبر في منصب القضاء و الفتوى.

و منها: ما عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 425

..........

______________________________

و فيه. ان من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة «1».

فإنه يدل بوضوح على ان الفقيه المتصف بالصفات المذكورة فيه المأمور بتقليده لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة فما ظنك بغيرهم من المخالفين و من يذهب المذاهب الباطلة.

الوجه الثالث: الإجماع

حكى إجماع السلف الصالح، و الخلف الأصيل على اعتبار الايمان في المفتي، و قد أشرنا عند اعتبار البلوغ فيه الى دعوى الشيخ (قدس سره) عدم الإشكال في اعتباره، و انه من الأمور المسلمة، و عرفت من مقال المحقق الأصفهاني (قدس سره) تحقق الاتفاق من الكل عليه فلاحظ.

الاستيناس لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى

و يمكن الاستيناس لاعتبار الايمان في مرجع الفتوى من اعتبار العدالة في إمام الجماعة، فإذا لم يرض الشارع بامامة غير الإمامي فما ظنك بالزعامة العظمى التي هي أعظم المناصب بعد الإمامة.

أضف الى ذلك دلالة غير واحد من الاخبار على ان المخالف، و تارك الولاية كافر، و لا ينافي كفرهم ترتيب بعض أحكام الإسلام عليهم في الدنيا على ما سيجي ء في مبحث الطهارة فهل ترى مع ذلك مرجعية المخالف في الفتوى حاشاك.

و الإنصاف ان المناقشة في اعتبار الايمان في مرجع الفتوى بلحاظ ما يقتضيه البحث و المذاكرة و المناقشات المدرسية و الا فلا ينبغي المناقشة في عدم جواز رجوع الشيعة إلى مخالفيهم في العقيدة، و قد جبّلوا على ذلك و لا يرون لمن لا يتدين بمذهب أهل البيت عليهم السّلام و يذهب الى المذاهب الباطلة موقفا و شأنا يرجع اليه بحيث يستند

______________________________

(1) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 426

..........

______________________________

إليه في أمر دينه و دنياه.

بل إذا اعتقد المجتهد الاثني عشري بعض العقائد الانحرافى و انتحل الى بعض المشارب الباطلة تريهم ينعزلون عنه و يتركونه بل ربما يتهمونه.

مناقشة بعض الأساطين في اعتبار الايمان بقاء و دفعها

ثم انه بما ذكرنا كله يظهر ضعف مناقشة بعض الأساطين دام ظله فإنه قال لو سلم جميع ذلك و بنينا على شرطية الايمان و الإسلام في حجية الفتوى بحسب الحدوث فلا ملازمة بينها و بين اعتبارهما في حجيتها بقاء أيضا بحيث لو أخذ العامي فتوى المجتهد حال استقامته و ايمانه ثم انحرف عن الحق لم يجز له ان يبقى على تقليده لسقوط فتواه عن الاعتبار فإنه يحتاج الى دليل أخر غير ما دل على اعتبارهما في

الحدوث» «1».

توضيح الضعف لائح مما ذكرنا الا ان يرجع مناقشته الى عدم دليل لفظي على شرطية الايمان و الإسلام فزعم عدم دليل لفظي على اعتبارهما بعد اقتضاء إطلاق الأدلة و بناء العقلاء على عدم اعتبارهما، و الا فقد صرح كما في تقرير بحثه الأخر باعتباره الايمان فقال:

«لا ينبغي التردد في اعتبار الايمان في المقلد حدوثا و بقاء لارتكاز أذهان المتشرعة الواصل إليهم يدا بيد عدم رضي الشارع زعامة من لا ايمان له بالأئمة الهداة و لا يحتمل أحد التدين و أخذ الفتوى ممن لا يتدين بدين أئمة أهل البيت عليهم السّلام و يذهب يمينا و شمالا الى مذاهب باطلة» «2».

و قد عرفت استفادة اعتبارهما من الكتاب و السنة و غيرهما فلاحظ.

الشرط الرابع: العدالة
اشارة

وزان اعتبار العدالة في مرجع الفتوى وزان اعتبار البلوغ، و الايمان من جهة انها غير معتبرة في محيط العرف و العقلاء و يرون ان مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبارها،

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 220.

(2) الدروس ج 1/ 22.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 427

..........

______________________________

و لا يكاد يفرقون في صدق إنذار المنذر، و العالم، و الناظر في الحلال و الحرام بين كونه عادلا أو غير عادل، و غاية ما يقتضيه بنائهم هي اعتبار الوثاقة، و هي غير العدالة كما لا يخفى.

الوجوه التي يستدل لاعتبار العدالة في المرجع
اشارة

الا انه يستدل لاعتبارها بوجوه.

فمنها: قوله تعالى:

وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «1» تقريب الدلالة ان الفاسق ظالم لنفسه و جعله مرجعا في المهمات و المشكلات، و الاستناد إلى آرائه من أعظم أنحاء الركون.

قد يناقش فيه لشك في شمول الظالم لمطلق مرتكب المعصية، لاحتمال اختصاصه بمعصية الظلم فلا بأس لجعله تأييدا للمقال.

و منها: الإجماع

فعن جملة من الأساطين حكاية الإجماع على اعتبار العدالة في مرجع الفتوى.

و نوقش بأنه لم يحرز كونه إجماعا تعبديا بحيث يستكشف منه قول المعصوم عليه السّلام فلعل اتفاقهم للوجه أو للوجوه التي يذكر لاعتبارها.

و منها: خبر الاحتجاج المروي عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام المتقدم ذكره في اشتراط الايمان.

تقريب الدلالة لاعتبار العدالة واضح بل كما سيجي ء من الماتن و غيره انه يستفاد منه المرتبة العالية منها.

و مناقشة بعض الأعلام في سنده، و دلالته، و انه لا يستفاد من ملاحظة مجموعه الا اعتبار الامانة و الوثوق دون العدالة، و انه لو استفيد منه اعتبار العدالة في المفتي فإنما هو بحسب الحدوث فلا يستفاد منه اعتبارها فيه بقاء الى غير ذلك من المناقشات لعلها غير وجيهة سنتعرض لها عند تعرض الماتن (قدس سره) للخبر في نفس هذه المسئلة فارتقب.

______________________________

(1) هود: 11/ 113.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 428

و منها: أولوية اعتبارها في الشاهد و امام الجماعة.

______________________________

بتقريب انه بعد ما كانت العدالة معتبرة في قبول الشهادة و صحة الاقتداء فالأولى اعتبارها فيمن يستند اليه و يعتمد إليه في أمر دينه و دنياه هذا.

و منها: قوله عليه السّلام في التوقيع الشريف بعد الأمر بإرجاع الحوادث الواردة إلى رواة أحاديثهم

معللا بأنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه «1».

قد تقدم ما يتعلق بسند التوقيع.

تقريب الدلالة ان المناسبة المركوزة في أذهان المتشرعة تعطي بأن الحجة من قبله جعلني اللّه من كل مكروه فداه الذي هو حجة اللّه لا يصلح ان يكون فاسقا بل يمكن استفادة اعتبار المرتبة العالية من العدالة فيه فتدبر.

و منها: ما عن الخصال عن أمير المؤمنين عليه السّلام

قال:

قطع ظهري رجلان من الدنيا رجل عليم اللسان فاسق، و رجل جاهل القلب ناسك هذا يصد بلسانه عن فسقه و هذا بنسكه عن جهله فاتقوا الفاسق من العلماء و الجاهل من المتعبدين الخبر «2».

قال العلامة المجلسي (قدس سره) في قوله هذا يصد بلسانه عن فسقه اى يمنع الناس عن ان يعلموا فسقه بما يصور لهم بلسانه و يشبه عليهم ببيانه فيعدون فسقه عبادة أو انهم لا يعيبون بفسقه بما يسمعون من حسن بيانه، و الاحتمالان جاريان في الفقرة الثانية.

و منها: ما عن مجالس المفيد

عن محمد قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:

لا دين لمن دان بطاعة من عصى اللّه الخبر «3».

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 9.

(2) بحار الأنوار ج 2/ 106 الطبعة الحديثة.

(3) بحار الأنوار ج 2/ 121.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 429

..........

______________________________

تقريب الدلالة واضح.

يؤيد المقال الأخبار الواردة في الذم عن اتّباع العالم التارك لعلمه و هي كثيرة منتشرة في الكتب الحديثية يجدها المتتبع.

هذا ما يقتضيه البحث المدرسى حول اعتبار العدالة و الا فالذي يقتضيه الاعتبار و يعضده الوجدان هو ان يقال ان المرتكز في أذهان المتشرعة حسب ما استكشفته من مذاق الشارع الأقدس هو عدم رضاه بكون المتصدي للزعامة و المرجعية من به منقصة دينية أو دنيوية يعاب بها عليه و تسقطه عن انظار العقلاء المراجعين اليه و واضح ان الفسق منها.

و بالجملة كما في الحدائق «1» و وافقه سيد مشايخنا و لقد أجادا في ما أفادا و اللفظ من المستمسك قال (قدس سره): «ان تجويز تقليد الفاسق خلاف المتسالم عليه بين الأصحاب و مخالف للمرتكز في أذهان المتشرعة، بل المرتكز عندهم، قدح المعصية في هذا المنصب على

نحو لا يجدي عندهم الندمة و التوبة فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبة عالية لا تزاحم و لا تغلب، و الإنصاف أنه يصعب جدا بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة و محاسبة فإن ذلك مزلة الاقدام و مخطرة الرجال العظام و منه سبحانه نستمد الاعتصام «2».

الشرط الخامس: الرجولية
اشارة

و لا يخفى ان اعتبار الرجولية كاعتبار العدالة و الايمان و نحوها غير معتبرة في محيط العرف و العقلاء، فإنهم لا يفرقون في العمل بقول الخبير بين كونه رجلا أو أمرية فإن قيل باعتبارها فإنما هو بتعبد من الشرع.

الوجوه التي يستدل بها لاعتبار الرجولية في مرجع الفتوى
اشارة

ما قيل أو يمكن ان يقال لاعتبار الرجولية في مرجع الفتوى أمور لا يخلو بعضها

______________________________

(1) الحدائق الناظرة ج 10/ 508.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 43.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 430

..........

______________________________

عن المناقشة، الا ان في بعضها الأخر كفاية فبعضها الأخر يصلح للتأييد.

منها: الإجماعات المتكاثرة

المذكورة في كتب الأصحاب كما عن الشهيد الثاني و الرياض، و الغنية، و مجمع الفائدة، و المحقق الأصفهاني الى غير ذلك من الأعاظم

و منها: روايتا ابى خديجة

المتكرر ذكرهما و في إحديهما قال عليه السّلام.

إياكم ان يحاكم بعضكم الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا «1».

و نحوها روايته الأخرى «2».

تقريب الدلالة كما أفيد هو دلالتهما على اعتبار الرجولية في باب القضاء و من المعلوم ان منصب الإفتاء لو لم يكن بارقى من القضاء فلا أقل انها متساويان إذ القضاء أيضا حكم و ان كان شخصيا و بين اثنين، أو جماعة رفعا للتخاصم، و الفتوى حكم كلي تبتلى به عامة المؤمنين فإذا كانت الرجولية معتبرة في باب القضاء كانت معتبرة في باب الإفتاء أيضا.

نوقش أولا: بأن التعبير بالرجولية واردة مورد الغالب بلحاظ التقابل بأهل الجور و حكامهم حيث منع عن التحاكم إليهم و الغالب المتعارف في القضاء هو الرجولية و لم نستعهد قضاؤه النساء و لو في مورد واحد فأخذ عنوان الرجولية من باب الغلبة لا من جهة التعبد و قصر القضاوة بالرجال.

قلت: لكن الإنصاف ان استفادة الاختصاص غير بعيد و لا أقل من عدم استفادة الإطلاق، لعدم صحة إلغاء خصوصية الرجولية و كيف تلغى خصوصية الرجولية؟!! مع استظهار جملة من الأعاظم اعتبارها، و قد صرح في بعض الاخبار عدم تولى المرية للقضاء.

فروى الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي

______________________________

(1) الوسائل باب 1 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 431

..........

______________________________

عليه السّلام: يا على

ليس على المرية جمعة الى ان قال: و لا تولى القضاء «1».

و ثانيا: بعدم الملازمة بين بابى القضاء و الفتوى فضلا عن الأولوية و اعتبار الرجولية في باب القضاء له وجه و اعتباره عقلائي لا يكون ذلك الاعتبار في باب الفتوى.

قلت: و فيه ان الإنصاف انه ان اعتبر الرجولية في القضاوة بين اثنين فلو لم نقل بأولوية اعتبارها في الفتوى، و مرجعية المسلمين فلا أقل من مساواتها له كما لا يخفى.

و منها: مقبولة عمرو بن حنظلة

المتكرر ذكرها.

و فيها. ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما الرواية «2».

تقريب الدلالة واضح مما ذكرناه في روايتي ابى خديجة، و نوقش فيها بما نوقش فيهما من عدم استفادة اعتبار الرجولية في القضاء، و عدم الملازمة لو سلم اعتبارها فيها بين بابى القضاء و الفتوى.

مضافا الى ان لفظة (من) في قوله من كان منكم مطلق و لا اختصاص له بالرجال و لكن عرفت حالهما مما ذكرنا في الروايتين، و الضمير في منكم جمع مذكر كيف يكون مطلقا و لا تختص بالرجال فتدبر.

و بما ذكرنا يظهر حال قوله عليه السّلام ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا، و نحوه غيره مما عبر بضمير الجمع المذكر.

بل قوله عليه السّلام: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه إلخ «3» و غيره من الاخبار التي

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(2) الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(3) الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 432

..........

______________________________

يستشم منها

الإطلاق، لانصرافها الى الرجال دون النساء لعدم معهودية تصدى النساء للفتوى، و المرجعية منذ بعث نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله الى زماننا هذا، فالاطلاقات ناظرة و منصرفة الى ما هو المعهود المتبادر منها، مع عدم محبوبية طرح النساء في المجتمع و بين أيدي الرجال، بل مبغوضية دخولهن في مجتمعات الرجال، و ترددهن بينهم كما لا يخفى على الخبير المتدرب المأنوس، بمذاق الشرع و الشريعة.

و قد يقال: ان قلة تعرض الاخبار، و كتب الأصحاب اعتبار الرجولية في القضاء، و الفتوى، بلحاظ معلومية الأمر، و وضوحه بين أرباب الشرائع، و الديانات، و يرون أن مرجعية الفتوى مرتبة نازلة، و من شئون الخلافة الإلهية، و لها خصوصية لا تناسب الأنوثية، و لذا لم تبعث أمرية للنبوة و هداية الناس منذ خلق اللّه تعالى أبينا آدم (على نبينا و إله و عليه السّلام) مع انه كما هو المعروف و قد روى ذلك عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أيضا انه بعث اللّه مأة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي «1».

بل لم ينصب أمرية للإمامة و الخلافة في عصور الأنبياء العظام، بل و لا في الأمة المرحومة مع وجود نساء ذوات فضائل كثيرة، و مناقب جليلة، بل مجتهدات مسلمة، بل فيهن من لا يقاس بهن الرجال، و ليس ذلك كله إلا لأن لمرجعية الفتوى موقف عظيم، و مقام خطير، و لها من الخصوصيات، و الجهات التي لا تناسب لغير الرجال و ان بلغن من العلم و الفضيلة ما بلغن.

و لعله الى ما ذكرنا ما عن المفيد بسنده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، في حديث.

و لو خلقت حواء من كله لجاز القضاء

في النساء كما يجوز في الرجال.

و في خبر يحكى قول اللّه تعالى: لحواء لما خرجت من الجنة: و لم اجعل منكن حاكما، و لم ابعث منكن نبيا.

و بالجملة لكل من النبوة و الإمامة، و مرجعية الفتوى، و القضاء- مع مالها من التفاوت- موقف عظيم، و مرتبة خطيرة، و لها موقف خاص من حيث ارتباط

______________________________

(1) لاحظ البحار ج 11/ 30- 41 من الطبعة الحديثة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 433

..........

______________________________

شخص النبي، و الامام، و مرجع الفتوى، و القاضي بالمجتمع و الأمة، و اختلاط وسيع معهم لرفع حوائجهم، و مهماتهم فيما يرجع الى معاشهم، و معادهم، و حضورهم لديهم، و اجتماعهم معهم في إناء الليل، و أطراف النهار، و ربما يحتاجون الى ملاقاة خصوصية، و ارتباطات سرية و نحو ذلك، و غير خفي على من له إلمام و انس بمذاق الشرع و الشريعة: ان كل ذلك لا تناسب شأن المرية العفيفة التقية، و ليس لها تلك الارتباطات، بل يكون ذلك معرضا للاتهامات و الافتراءات التي لا بد و ان يكون مرجع الفتوى و القضاء فضلا عن مقام الإمامة و النبوة- منزها عنها- و قد قرر في محله انه لا بد و ان يكون النبي و الامام عليهما السّلام مبرأ عن أمور لا تنافي بعضها مرجعية الفتوى و القضاء فتدبر و اغتنم.

و منها: ما ورد في نهى امامة النساء للرجال «1».

لعل استفادة أولوية أمر الفتوى بالنسبة إلى أمر الاقتداء واضحة و ان ناقش بعض الأساطين دام ظله في ذلك فقال: لا ملازمة بين النهى عن تصدى النساء للقضاء، و النهى عن إمامتهن، و بين مرجعية الفتوى بدعوى ان محل الكلام مجرد قبول فتواها لا تصديها لسائر مناصب المجتهد «2».

قلت: ليس

البحث مجرد قبول فتواها محضا لوضوح ان جواز قبول فتواها يستلزم خروجها بين أيدي الرجال و النساء، و خروجها في المجامع و الاجتماعات، و التوالي الفاسدة المرتبة عليها أكثر من إمامتها للرجال و تصديها للقضاوة، و لعمر الحق انه واضح إلى النهاية و لعله مما يدرك و لا يمكن توصيفه جليا في الخارج، و سيجي ء منه دام ظله كلاما نفيسا في هذا المضمار فارتقب.

و منها: ما ورد في سلب الرأي عن النساء

خصوصا في الفروع التي هي مورد خبر عامر بن جذاعة قال:

______________________________

(1) لاحظ الوسائل أبواب 19/ 20/ 23 من أبواب صلاة الجماعة و غيرها.

(2) الدروس ج 1/ 124.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 434

..........

______________________________

قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ان امرئتى تقول بقول زرارة، و محمد بن مسلم في الاستطاعة و ترى رأيهما فقال عليه السّلام: ما للنساء، و للرأي «1».

فقد سلب عليه السّلام الرأي عنهن و انه لا اعتبار لرأيهن و مع ذلك كيف تصح تقليدها و الاستناد إليها في مقام العمل فتأمل.

و منها: ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

إنما المرية لعبة فمن اتخذها فليغطها «2».

تقريب الدلالة ان من يحتاج إلى التغطية و تكون ملعبة الرجال كيف يكون مرجع الأمة الإسلامية.

و منها: ما عن الطبرسي

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ان شر الناس هم الذون يكون كلامهم عن رأى النسوان.

دلالته على عدم اعتبار رأيهن في الأمور واضحة.

و منها: ما ورد في ذم النساء

قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما خطبة في ذم النساء و في آخرها:

فاتقوا شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر و لا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر «3».

و لا يخفى ان معنى عدم اطاعتهن في المعروف هو ان لا يأتي الرجل بالمعروف بمجرد قولهن حتى تعدها طاعة لهن بل يلزم ان يؤتى به لأنه معروف و سنة و الفرق بينهما واضح.

تقريب الدلالة هو ان الحذر من خيارهن ينافي أخذ الفتوى منهن و تقليدهن و هو ظاهر.

______________________________

(1) رجال الكشي أثناء ذكر محمد بن مسلم/ 151.

(2) الغرر و الدرر للآمدى ج 3/ 80.

(3) نهج البلاغة الخطبة 80.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 435

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السّلام لأهل البصرة في ذم اتّباع المرأة:

______________________________

كنتم جند المرأة و اتباع البهيمة «1».

دلالته ظاهر و توهم ان اللام للعهد فلا يدل على ذم مطلق اتباع المرأة مدفوع بان جعل اللام للعهد ينافي الذم بقوله عليه السّلام بعد ذلك: و اتباع البهيمة. فإن المراد الذم باتباع البهيمة بما هو اتباع فكذا بالنسبة الى اتباع المرأة فتأمل.

و منها: قوله عليه السّلام في وصيته لابنه الامام حسن بن على عليهما السّلام:

و إياك و مشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن و عزمهن الى وهن، و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فإن شدة الحجاب أبقى عليهن و ليس خروجهن باشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، و ان استطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة، و لا تعد بكرامتها نفسها و لا تطمعها في ان تشفع بغيرها، و إياك التغاير في غير موضع غيرة «2».

تقريب الدلالة واضح.

قال الشيخ محمد عبده في شرح النهج بعد ذكر ما يتعلق بالنساء: «أين هذه الوصية من حال الذين يصرفون النساء في مصالح الأمة بل و من يختص بخدمتهن كرامة لهن» «3».

و قد أشرنا ان بعض هذه الوجوه و ان لا تخلو عن مناقشة الا ان في بعضها الأخر كفاية فيكون ذلك البعض مؤيدا له، و من لاحظ ما ذكرنا بعين الإنصاف يظهر له جليا اعتبار الرجولية في مرجع الفتوى و عدم صلوح المرأة لذلك.

و الى ما ذكرنا يشير ما افاده بعض الأساطين دام ظله و لقد أجاد فيما أفاد و إليك نص مقاله:

______________________________

(1) نهج البلاغة من كلام له عليه السلام/ 13.

(2) نهج البلاغة من وصية له لابنه عليهما السلام/ 31.

(3) ذيل نهج البلاغة عبده ج/ 2/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص:

436

..........

______________________________

«و الصحيح ان المقلد يعتبر فيه الرجولية و لا يسوغ تقليد المرأة بوجه و ذلك لأنا قد استفدنا من مذاق الشارع ان الوظيفة المرغوبة من النساء انما هي التحجب و التستر و تصدى الأمور البيتية دون التدخل فيما ينافي تلك الأمور و من الظاهر ان التصدي للإفتاء بحسب العادة جعل النفس في معرض الرجوع و السؤال لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين و لا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضا لذلك ابدا كيف؟! و لم يرض بامامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم و مدبرة لشئون المجتمع و متصدية للزعامة الكبرى للمسلمين.

و بهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرعة يقيد الإطلاق و يردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل الى العالم مطلقا رجلا كان أو أمرية» «1»

الشرط السادس: الحرية
اشارة

اعتبار الحرية كاشتراط الرجولية مما لم يعتبرها العقلاء لأنهم لا يكادون يفرقون في الخبير بين كونه حرا، أو عبدا بعد إحراز تخصصه و تبحره، بل و مقتضى إطلاقات الأدلة عدم التفرقة و شمولها للعبيد و الأحرار.

فلو اعتبر فإنما هو بتعبد من الشرع.

الوجوه التي قيل أو يمكن ان يقال لاعتبار الحرية
اشارة

حكى اعتبارها عن جماعة منهم الشهيد بل يقال انه المشهور.

فما قيل أو يمكن ان يقال لاعتباره وجوه.

منها: إلحاق باب الفتوى بباب القضاء

و قد اعتبرها جملة من الأصحاب في باب القضاء بل حكى الشهرة على اعتبارها فيه.

و فيه أولا: ان اعتبار الحرية في باب القضاء مختلف فيه قال المحقق في الشرائع: و هل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط نعم و الأظهر انه ليس شرطا، و في مختصر النافع، و في اشتراط الحرية تردد و الأشبه انه لا يشترط.

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 226.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 437

..........

______________________________

فاذا كان اعتبار الحرية في المقيس عليه غير ظاهر فما ظنك في المقيس.

و ثانيا: انه لو سلم اعتبارها في باب القضاء فيمكن التفرقة بين البابين لأن القاضي لا بد له من فصل القضاء و رفع الغائلة بين الأحرار، و بينهم و بين العبيد، و لعله- و لو بلحاظ الارتكاز- ليس شأن العبيد ذلك و لا يرون له موقفا للفصل بين الأحرار و بينهم و بين العبيد و اما باب الإفتاء فلا.

و منها: قوله تعالى:

عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ- وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ «1».

فلا بد للعبد من القيام و الاشتغال بحقوق مولاه المانع من القضاء و الإفتاء.

و بالجملة القضاء ولاية للقاضي، و كذا الإفتاء، و العبد ليس له الولاية لاشتغاله عنها باستغراق وقته بحقوق المولى.

و فيه: ان غاية ما يقتضيه هو عدم أهلية العبد بدون اذن مولاه لا مطلقا فهو أخص من المدعى.

و منها: ان الإفتاء و القضاء من المناصب الجليلة

التي لا يناسب حال العبد و العبد له شأن و موقف لا يليق منصب القضاء و الإفتاء.

و رد بأنه مجرد دعوى بلا برهان فهي مصادرة.

و بالجملة كما أفيد: «ان وزان العبودية ليس وزان الجنون، و الكفر، و الفسق و نحوها. مما يكون منقصة للمتّصف بها و يأبى ارتكاز المتشرعة تصدى من به منقصة دينية، أو دنيوية للمرجعية و الفتوى، و العبودية ليست منقصة بوجه كيف و قد يكون بعض العبيد ارقى مرتبة من غيره، بل ربما يكون وليا من أوليائه و قد يبلغ مرتبة النبوة كلقمان، فاذا لم تكن العبودية منافية لمنصب الإفتاء الذي هو دونهما كما لا يخفى» «2».

______________________________

(1) النحل: 16/ 75.

(2) التنقيح ج 1/ 227.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 438

..........

______________________________

فالأظهر عدم اعتبار الحرية في مرجع الفتوى فللعبد الفقيه الجامع لسائر الشرائط مع اذن مولاه تصدى الإفتاء كما للحر.

و لا فرق فيما ذكرنا بين كون العبد قنا، أو مدبرا، أو مكاتبا، أو مبعضا، أو مهايا «1» بل هو اولى بعدم الإشكال لإمكان إفتائه في نوبته.

نعم حيث ان العبد لا يرث من الحر الذي لا وارث له فاذا لم يكن للحر وارث فلا يرث العبد الفقيه منه الا ان يوجه ذلك بجهة نيابته عن الامام عليه السّلام فتدبر.

و

مع ذلك الأحوط الأولى اعتبارها خروجا عن خلاف الشهرة المحكية في المقام و الذي يسهل الخطب عدم كونه محلا للابتلاء.

الشرط السابع: الاجتهاد المطلق
اشارة

اختلفوا في اشتراط الاجتهاد المطلق في حجية فتوى المجتهد و صحة تقليده.

فيظهر من بعضهم كالماتن و من لم يعلق على المتن اعتبار كونه مجتهدا مطلقا، و بعضهم ناقش في اعتباره فلم يهتد الى ما هو الحق، و بعضهم اشترط ذلك مع وجود المجتهد المطلق و اما مع عدمه فنفى البعد عن جواز تقليد المتجزي.

الأقوال في اعتبار الاجتهاد المطلق في مرجع الفتوى
اشارة

ذهب أستاذنا العلامة الخمينى دام ظله الى جواز تقليد المتجزى فيما اجتهد بل العلامة البجنوردى يرى وجوب تقليده فيما لو كان اعلم من المجتهد المطلق في ذلك المقدار، و علق العلامة الخوانسارى (قدس سره) ان الأقوى جواز تقليد المتجزى فيما إذا عرف مقدارا معتدا به من الأحكام و لم يحرز مخالفة فتواه لفتوى الأعلم، أو لم يكن غيره اعلم منه في ذلك المقدار الى غير ذلك من الأقوال.

جواز عمل كل من المجتهد المطلق و المتجزي برأيه بل حرمة عملهما برأى الغير

و كيف كان فقد تقدم منا في أوائل الكتاب معنى التجزي، و الإطلاق في الاجتهاد

______________________________

(1) المهاياة في كسب العبد انهما يقسمان الزمان بحسب ما يتفقان عليه، و يكون كسبه في كل وقت لمن ظهر له بالقسمة.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 439

..........

______________________________

و عرفت إمكان كل من التجزي، و الإطلاق في الاجتهاد بل تحققهما في الخارج، و قد تقدم أيضا انه لا إشكال في ان المجتهد المطلق يجوز العمل بما استنبطه إذا كان على الموازين المقررة بل يحرم عليه التقليد فيما استنبط.

و كذلك الأمر في المتجزي و من قدر على استنباط حكم أو أحكام فقط على الموازين المقررة و استنبط فعلا فيجوز له العمل بما استنبط لعموم حجية الظواهر في الأمارات، و الأصول و غيرها لكل من عرف مداليلها و مجاريها و عرف أحكام المعارضات و علاجها الى غير ذلك مما يكون دخيلا في الاستنباط، و المفروض ان ان المجتهد المتجزى عارف بما ذكرنا كله، فهو و المجتهد المطلق كفرسي رهان و كفتي الميزان بالنسبة الى ذلك.

كما انه كذلك بالنسبة إلى حرمة المراجعة إلى الغير و تقليده بالنسبة الى ما استنبطه لعدم شمول أدلة التقليد بالنسبة اليه اما بلحاظ رجوع الجاهل الى

العالم فلوضوح انه عالم بما استنبطه فرجوعه الى الغير من رجوع العالم الى العالم.

و اما بالنسبة إلى الأدلة اللفظية فلما تقدم ان جواز التقليد مختص بمن لم يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي و الوظيفة المقررة فما ظنك بالمتجزى الذي قد حصلها بالفعل في مورد أو موردين، أو أكثر.

فإذا لا يسوغ و لا يجوز تقليد المتجزى عن الغير فيما استنبطه فعلا.

فدعوى جواز رجوعه الى من يرى خطائه و اشتباهاته غير مسموعة لأدائه إلى الجمع بين النقيضين، أو المتضادين لأنه إذا علم بفساد عمل بحسب رأيه فاذا رجع الى الغير الذي يرى صحته فلا بد و ان يبنى على صحته و هما مما لا يمكن الالتزام به.

و اما جواز تقليد المجتهد فقد عرفت بما لعله لا مزيد عليه في مسئلة مشروعية أصل التقليد، جواز تقليد المجتهد المطلق بماله من المعنى و هو القدر المتيقن من أدلة مشروعيته فلا ريب و لا إشكال في تقليده إذا كان مستجمعا لسائر الشرائط.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 440

..........

______________________________

و انما الكلام و الاشكال في جواز تقليد المتجزى و قد أشرنا إلى عمد الأقوال في المسئلة، و هي بين القول بعدم جواز تقليده مطلقا، أو جوازه كذلك، بل وجوبه إذا كان اعلم من المجتهد المطلق، أو التفصيل بين وجود المجتهد المطلق و تمكن الوصول اليه و عدمه فبالعدم في الصورة الاولى و الجواز في الصورة الثانية الى غير ذلك من الأقوال.

و لا يخفى أن المتجزي و من لم يقدر على استنباط جميع الأحكام أو أكثرها تارة يكون قد استنبط حكم جملة معتدا بها من المسائل، و اخرى لم يكن كذلك و انما استنبط قليلا من

المسائل واحدة أو اثنتين مثلا.

بناء العقلاء على عدم الفرق بين المجتهد المطلق و المتجزى بل لزوم تقليد المتجزي إذا كان أعلم

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: الظاهر ان بناء العقلاء على عدم الفرق في رجوع الجاهل الى العالم بين كونه مجتهدا مطلقا أو متجزيا بقسميه فتريهم يراجع جاهل كل أمر إلى العالم به و ان لم يكن للعالم به معرفة بغيره من الأمور فتريهم يراجعون الطبيب الاخصّائى بالقلب مثلا و ان لم يكن له خبروية بغيره من الأعضاء و الجوارح بل يقدمون نظر الطبيب الاخصّائى على الطبيب العمومي إذا كان الطبيب الاخصائى أجود سليقة و أقوى استنباطا من الطبيب العمومي.

و بالجملة: الملاك كل الملاك في بناء العقلاء في رجوع الجاهل الى العالم هو خبروية العالم فاذا كان خبرويته في خصوص أمر واحد يراجعون اليه من دون توقف و لا يرون لعدم خبرويته في غيره دخالة في ذلك و لذا تريهم يراجعون الطبيب المختص ببعض الأمراض فيما يختص به و لا يعتبرون ان يكون طبيبا عاما في جميع الأمراض، بل ربما لا يرجعون إليه إذا كان غيره في الجهة المختصة به اعلم منه.

و من هنا يظهر ضعف ما ذكره بعض شراح المتن من ان المتيقن من بناء العقلاء هو الرجوع الى المجتهد المطلق مع وجوده و التمكن من الوصول اليه.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 441

..........

______________________________

فتحصل ان مقتضى بناء العقلاء صحة تقليد المجتهد المتجزى بل وجوبه إذا كان اعلم من المجتهد المطلق فيما استنبطه و ان كان ما استنبطه قليلا جدا كمسئلة أو مسئلتين مثلا.

و لكن كما ذكرنا غير مرة ان بناء العقلاء بما هو لا يكاد ينفع ما لم يحرز رضي الشارع به و لو بعدم الردع فلا بد من ملاحظة سائر الأدلة حتى يحرز نطاق

اعتبار بناء العقلاء في الشريعة فنقول:

نطاق آية السؤال في تقليد المتجزي

أما آية السؤال فبناء على كونها من أدلة وجوب التقليد- و قد تقدم بيانها فيما تقدم- فغاية ما يقتضيه ظاهر الآية الشريفة هو انه يجب على غير العالم ان يسئل أهل الذكر متعينا لا انه مخير بين السؤال عن أهل الذكر و غيره.

و من الواضح ان أهل الذكر غير صادق على من علم مسئلة أو مسئلتين مثلا و اما من علم جملة معتدا بها من الأحكام فلا ينبغي الارتياب في صدق عنوان أهل الذكر عليه، فاذا المجتهد المتجزى إذا عرف و استنبط مقدارا معتدا من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان أهل الذكر يصح تقليده.

فاذا تكون الآية الشريفة رادعة لبناء العقلاء بالنسبة إلى المتجزي الذي لا يصدق عليه عنوان أهل الذكر و ذلك فيما استنبط مسائل قليلة جدا كمسئلة أو مسئلتين مثلا، و إمضاء لما هم عليه بالنسبة إلى المتجزي الذي يصدق عليه ذلك العنوان و ذلك فيما إذا استنبط جملة معتدا بها من المسائل.

ذكر و تعقيب

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بعض الأساطين دام ظله من ان الآية المباركة قد أوجبت الرجوع الى المجتهد المطلق متعينا، و هذا ينافي جواز الرجوع الى المتجزى لان مرجعه الى التخيير بينهما و قد فرضنا ان الآية المباركة دلت على تعيّن

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 442

..........

______________________________

الرجوع الى المجتهد المطلق «1».

توضيح النظر هو ان غاية ما تقتضيه الآية المباركة هي لزوم المراجعة إلى خصوص من يصدق عليه عنوان أهل الذكر، و من الواضح ان هذا العنوان كما يصدق على المجتهد المطلق فكذلك يصدق على المتجزى إذا استنبط جملة معتدا بها فلا يلزم من تجويز المراجعة إلى المتجزى شي ء، مما ذكر فتدبر.

هذا ما هو

المترائى من الآية المباركة، الا ان يقال انه لا يستفاد منهما الا ما يستفاد من بناء العقلاء، فهي إرشاد لما هم عليه فلا يؤخذ بظاهر العنوان المأخوذ فيها فتعم من علم مسئلة أو مسئلتين أيضا فتأمل.

و ان أبيت عن ذلك فيمكن ان يقال ان العنوان المأخوذ فيها جار مجرى العادة فيمكن إلقاء العنوان و إسراء الحكم الى من لم يصدق عليه العنوان عرفا.

و ان أبيت عن ذلك كله فلا أقل لا يمكن ان يستفاد منها ردع ما عليه العقلاء و لا إمضائهم على ما هم عليه.

نطاق آية النفر في تقليد المتجزى

و اما آية النفر: فعلى تقدير كونها من أدلة المسئلة- و أغمضنا عما ناقشنا في دلالتها على وجوب التقليد- فالمستفاد منها هو لزوم التحذر عن إنذار المنذر المتفقه في الدين، و من الواضح ان المجتهد المتجزى متفقة في الدين إذا استنبط جملة من الأحكام.

بل ربما ادعى شمول إطلاق الآية المباركة للمتجزى الذي استنبط مسئلة أو مسألتين مثلا، و لا يبعد ذلك ضرورة صدق قوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ على من نفر و عرف حكم مسئلة أو مسئلتين، فيجب التحذر عن إنذار المنذر الذي استنبط مسئلة أو مسئلتين فيكون نطاق الآية المباركة نطاق بناء العقلاء.

و ان أبيت عن إطلاق التفقه في الدين على من عرف مثل ذلك و لكن شمول

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 229.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 443

..........

______________________________

الاية المباركة على المجتزى الذي تفقه جملة معتدا بها من الأحكام مما لا غبار عليه هذا بالنسبة إلى الآيات.

نطاق الاخبار في تقليد المتجزى

و اما الاخبار فنطاق الأخبار الآمرة بالرجوع الى مثل محمد بن مسلم، و يونس بن عبد الرحمن، و زكريا بن آدم و نظرائهم الذين هم أجلاء الفقهاء و كبرائهم و ان كان ضيقا لا يستفاد منها صحة المراجعة إلى المتجزي الذي استنبط جملة معتدا بها من الأحكام، فضلا عما لم يستنبط إلا مسائل قليلة الا انها غير ظاهرة في الحصر حيث لم تكن نافية لعدم صحة المراجعة الى غير مثل هؤلاء الأعاظم ليكون رادعا لبناء العقلاء المسوغة لذلك و معارضا لما يستفاد منه تسويغ ذلك.

و اما مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به

حكما «1».

و كذا رواية ابى خديجة، و فيها. اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا الرواية «2».

فظاهرهما بقرينة إضافة المصدر المضاف، و الجمع المضاف و ان كان هو اعتبار كون القاضي عارفا بجميع أحكامهم و ناظرا في حلالهم، و حرامهم، و بضميمة أن منصب القضاء منصب الفتوى بعينه فيعمل فيه ما اعتبر في باب القضاء يستفاد منهما اعتبار الاجتهاد المطلق في المفتي فلا تصح المراجعة إلى المتجزي و ان كان قد استنبط جملة معتدا بها من الأحكام فضلا عما استنبط مسئلة أو مسئلتين لعدم كونه راويا لجميع أحاديثهم و لا ناظرا في حلالهم و حرامهم كذلك، و لا عارفا بأحكامهم.

و لكن لا يتم الاستدلال بها في باب القضاء فضلا عن باب الفتوى.

و ذلك لما أشرنا إليه في مسئلة وجود المجتهد المطلق ان الفقرات المذكورة

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 1.

(2) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 6.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 444

..........

______________________________

في المقبولة في مقابل المنع عن الرجوع الى حكام الجور و قضاتهم. و واضح ان قضاتهم لم يكونوا عارفين بجميع الأحكام، و انما عرفوا جملة من الأحكام، فيكون الظاهر ان منصب القضاء لا يليق بهم بل لا بد و ان يكون عارفا بأحكامنا و حلالنا و حرامنا في قبال هؤلاء المنحرفين الحاكمين باجتهاداتهم و آرائهم فمن عرف جملة معتدة بها من أحكامهم و حلالهم و حرامهم يصح تصديه لنصب القضاء.

مع انه قد عرفت عدم حصول المعرفة الفعلية بجميع أحكامهم بل جلها في حق غير الأئمة المعصومين إلا للأوحدي من الفقهاء فلو اعتبر ذلك لانسد باب الحكم و القضاء.

مضافا الى دعوى الإجماع

على عدم اعتبار معرفة جميع أحكامهم و العرفان بحلالهم و حرامهم في منصب القضاء هذا.

و قد ورد في باب القضاء ما استفيد منه عدم اعتبار ما ذكرنا أيضا بل كفاية العلم ببعض أحكامهم و قضاياهم في تصدى منصب القضاء.

كرواية أخرى لأبي خديجة عن الصادق عليه السّلام:

إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته حاكما فتحاكما اليه «1».

بتقريب ان الظاهر من لفظة (من) في قوله عليه السّلام من قضايانا تبعيضية فمن علم شيئا قليلا من أحكامهم يجوز له التصدي للحكم، هذا على نسخة التهذيب «2».

و اما على نسختي الكافي «3» و الفقيه «4» حيث عير فيهما (شيئا من

______________________________

(1) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح/ 5.

(2) التهذيب ج 6 من الطبعة الحديثية/ 219.

(3) فروع الكافي ج 7 من الطبعة الحديثية/ 412.

(4) من لا يحضره الفقيه من الطبعة الحديثية/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 445

..........

______________________________

قضائنا) فالأمر أوضح لأن قضائهم و حكمهم في مقام الترافع و أحكامهم الواصلة في الترافع و الخصومات ليست بكثيرة في نفسها فمن علم مقدارا من أحكامهم في مقام الترافع يكفي في صحة القضاء.

نعم يمكن ان يقال على نسخة التهذيب هو عدم صدق قوله عليه السّلام: يعلم شيئا من قضايانا الا على من عرف أكثر الأحكام لان إضافة الشي ء تختلف سعة و ضيقا بسعة المضاف اليه و ضيقه مثلا لو أضيفت كلمة (الشي ء) إلى البحر و قلت رأيت شيئا من البحر لا يكاد يطلق على الغرفة و نحوها بل لا بد و ان يكون كثيرا في نفسه و لكنه بالنسبة إلى

البحر شيئا، مع انه لو أضيف الشي ء إلى الإناء و الحب مثلا فيصدق على المقدار القليل.

و بما ان علوم أئمة أهل البيت عليهم السّلام بحر لا ينزف و لا يحيط بها أحد فلا يكاد يصدق عرفان شي ء من قضاياهم إلا إذا عرف مقدارا كثيرا من أحكامهم هذا.

و يلائم ما ذكرنا ما هو المعروف عن صاحب الجواهر (قدس سره) انه قيل له عند احتضاره و انكشاف الغطاء عنه: «عنده شي ء من علم جعفر بن محمد عليهما السّلام» مع انه من أكابر الفقهاء و إعلامهم.

و لكن مع ذلك كله لا يستفاد منها أكثر مما يستفاد من المقبولة و الحسنة و يكون الكلام فيها الكلام فيهما، و قد عرفت صدقهما على من عرف جملة معتدة بها من أحكامهم هذا على نسخة التهذيب.

و اما على نسختي الكافي و الفقيه فصدقه على المتجزى أوضح من ان يخفى ضرورة صدق شي ء من قضائنا على من عرف مقدارا من قضائهم و أحكامهم في مقام الترافع لأنها كما أشرنا ليست بكثيرة في نفسها، فمن علم مقدارا من أحكامهم و قضائهم في مقام الترافع يكفي في صحة القضاء.

و لو سلم ظهور الروايات (المقبولة و روايتا ابى خديجة) فيها فنقول: لم يقم دليل على ان منصب القضاء منصب الفتوى و ان المعتبر في باب القضاء معتبر في

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 446

..........

______________________________

باب الفتوى لان باب القضاء يرتبط بأبواب كثيرة من الفقه فيمكن ان يعتبر في المتصدي لها العلم و العرفان بجملة وافية من أحكامهم، و أين هذا؟! من محل الكلام لوضوح ان العلم بمسئلة لا يتوقف على العلم بسائر المسائل الفقهية فتدبر.

و اما خبر الاحتجاج المروي عن الإمام

العسكري عليه السّلام فربما يتوهم ان ظاهر قوله عليه السّلام: من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه الى قوله فللعوام ان يقلدوه «1» حصر المقلد في الفقهاء المتصفين بالأوصاف الواردة في الخبر فلا يجوز تقليد غير الفقيه فمن لم يكن من الفقهاء و ان عرف جملة من الأحكام لا يجوز تقليده.

و لكن نوقش فيه: بوجوه من الاشكال: من ضعف السند، و انه بصدد التفرقة بين علماء اليهود و علمائنا و عوامهم و عوامنا، و انه ليس في مقام بيان الفقاهة في المقلد حتى يدور صحة التقليد مدارها، و ان مورد الخبر هو أصول الدين، و لم يصح التقليد بالمعنى المصطلح في أصول الدين و إخراج المورد مستهجن فلا يشمل التقليد في فروع الدين.

و لكن تقدم منا: و سيجي ء بعض الكلام في الوجوه المذكورة فمع الإغماض عن الوجوه المذكورة نقول:

ان غاية ما يستفاد من الخبر، حصر المقلد في الفقهاء و لا يجوز تقليد غير الفقيه فمن صدق عليه عنوان الفقيه يجوز تقليده و الفقيه و ان لم يصدق على من عرف و استنبط مسائل قليلة، و لكن إذا عرف جملة معتدا بها من المسائل بأن استنبط مسائل كتاب الطهارة أو الصلاة مثلا فلا ينبغي الإشكال في صدق عنوان الفقيه عليه فالمجتهد المتجزى إذا استنبط جملة وافية من الأحكام بحيث يعمه عنوان الفقيه، فيصح تقليده.

هذا كله بالنسبة الى ما يستفاد من الكتاب و السنة في تقليد المتجزى.

و اما الإجماع المدعى في بعض الكلمات على عدم جواز الرجوع الى المتجزى ففيه انه غير تمام في نفسه بعد ما عرفت، و على تقدير تماميته فغاية ما يقتضيه هو

______________________________

(1) الوسائل باب 2 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر

النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 447

..........

______________________________

عدم صحة تقليد المتجزي الذي لا يصدق عليه عنوان الفقيه عرفا كما إذا استنبط قليلا من الأحكام، و اما إذا استنبط جملة وافرة من الأحكام فيخرج معقد الإجماع كيف لا؟! و ربما يحكى عن بعض أعلام الفرقة انه قال في حق نفسه! انا متجز و شي ء زائد.

فتحصل مما ذكر انه لم يقم دليل على اشتراط الاجتهاد المطلق فيمن يصح تقليده بل إذا كان المجتهد المتجزى بحيث استنبط مقدارا معتدا به من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، أو الناظر في الحلال و الحرام أو العارف بأحكامهم و نحو ذلك فيجوز تقليده بل ربما يجب إذا كان اعلم من المجتهد المطلق فيما استنبط و كان مخالفا له في الفتوى.

الشرط الثامن: الحيوة

قد عرفت فيما ذكرنا ذيل المسئلة التاسعة وجه اشتراط الحيوة في مرجع الفتوى، و انه لا يجوز تقليد الميت ابتداء نعم يجوز البقاء على تقليد الميت بل يجب إذا كان اعلم من الأحياء.

الشرط التاسع: الأعلمية

قد أشرنا في المسئلة الثانية عشر موقف اعتبار الأعلمية في مرجع الفتوى، و انه لا يشترط الأعلمية في صحة التقليد، و انما يشترط إذا علم بوجود الأعلم و علم مخالفة فتواه مع فتوى غير الأعلم، و كانت موافقة للاحتياط، و اما في غير تلك الصورة فلا يجب تقليده، فالاعلمية ليست شرطا لجواز أصل تقليد المجتهد و انما هي شرط فيما إذا علمت فتوى الأعلم و كانت فتواه موافقة للاحتياط و كانت فتوى غيره مخالفة له

الشرط العاشر: ان لا يكون متولدا من الزنا
اشارة

لا يخفى ان بناء العقلاء على عدم اشتراط طهارة المولد في من يرجع اليه الجاهل و لا يكادوا يفرقون بينه و بين المتولد من الزنا، بل مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية عدم اعتباره في مرجع الفتوى بتوهم انه لا دليل على اعتبار طهارة المولد إلا الأصل المحكوم ببناء العقلاء.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 448

..........

______________________________

و لكن فيه ما لا يخفى و لا ينبغي الإشكال في اعتبار طهارة المولد شرعا في مرجع الفتوى.

و ذلك لأنه قد اختلف في كفر المتولد من الزنا و نجاسته.

فعن السيد المرتضى و الصدوق و الحلي و جماعة القول بنجاسته، و عن الحلي نفى الخلاف عنها و عن بعضهم دعوى الإجماع عليها.

و لكن حكى عن المشهور شهرة عظيمة إسلامه و طهارته و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق الحال في كتاب الطهارة خلال البحث عن فروع نجاسة الكافر فارتقب.

فان قلنا بكفره و نجاسته فتكون طهارة المولد داخلة في اعتبار الايمان و الإسلام فاعتبارها في مرجع الفتوى واضحة.

الوجوه التي يستدل للاعتبار طهارة المولد
اشارة

و ان قلنا بصحة إسلام المتولد من الزنا و طهارته فيتمسك لاعتبار طهارة المولد في مرجع الفتوى بوجوه.

فمنها: الإجماع المدعى في الروضة و غيرها.

ناقش بعض الأساطين دام ظله:

أولا: بعدم ثبوت الإجماع المحصل.

و ثانيا: بعدم حجية الإجماع المنقول «1».

قلت: لا ينبغي التوقف في ثبوت الإجماع و تحققه و لعله مما تسالم عليه الأصحاب، و لذا لا ترى واحدا منا من الصدر إلى الساقة- إلا ما نسب الى الشاذ منهم- يجوّز تصدى المتولد من الزنا للفتوى.

نعم عدم إحراز كون الإجماع تعبديا مع وجود سائر الوجوه فكلام آخر.

و منها: فحوى ما دل على اعتبار طهارة المولد في إمام الجماعة، و ما دل على عدم قبول شهادة ولد الزنا.

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 132.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 449

..........

______________________________

اما اعتبارها في إمام الجماعة فعليه النص و الفتوى.

ففي خبر ابى بصير ليث المرادي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

خمسة لا يؤمون الناس على كل حال و عد منهم المجنون، و ولد الزنا «1».

و في خبر زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا يصلين أحدكم خلف المجنون و ولد الزنا «2».

و في خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السّلام انه قال:

خمسة لا يؤمون الناس و لا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة و عد منهم ولد الزنا «3».

و في خبر أصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام:

يقول: ستة لا ينبغي ان يؤموا الناس ولد الزنا و المرتد الخبر «4».

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد؛ ج 1، ص: 449

و اما ما دل على عدم قبول شهادة ولد الزنا.

ففي خبر ابى بصير قال:

سئلت أبا جعفر عليه السّلام عن ولد الزنا: أ تجوز شهادته؟ قال:

لا، فقلت ان الحكم بن عتيبة يزعم انها تجوز فقال عليه السّلام

اللهم لا تغفر ذنبه ما قال اللّه للحكم، و انه لذكر لك و لقومك «5».

و في خبر محمد بن مسلم قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لا تجوز شهادة ولد الزنا «6».

و في خبر عبيد بن زرارة عن أبيه قال:

______________________________

(1) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 1.

(2) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 2.

(3) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 4.

(4) الوسائل باب 14 من أبواب صلاة الجماعة ح/ 6.

(5) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 1.

(6) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 450

..........

______________________________

سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول لو ان أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل و فيهم ولد الزنا لحددتهم جميعا لأنه لا تجوز شهادته و لا يؤم الناس «1».

و في خبر على بن جعفر عن أخيه عليهم السّلام قال:

سئلته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته قال لا يجوز شهادته و لا يؤم «2».

و في خبر عبيد اللّه الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

ينبغي لولد الزنا ان لا تجوز له شهادته و لا يؤم بالناس لم يحمله نوح في السفينة و قد حمل فيها الكلب و الخنزير «3».

الى غير ذلك.

إذا عرفت حال ولد الزنا في إمامة الجماعة و الشهادة فإذا لم يرض الشارع بامامة ولد الزنا و لم يعتد بشهادته لخسته في ذاته فكيف يرضى بزعامته للمسلمين و رجوعهم إليه في أمور الدين و الدنيا.

في ولد الزنا منقصة ذاتية

و منها: ان في المتولد من الزنا منقصة ذاتية و موجبة لتنفر الأمة الإسلامية عنه و هو و ان لم يكن مقصرا في ذاته مع استجماعه لسائر

الشرائط فلو كان فقيها عادلا في غاية الورع و التقى الا انه كما أشرنا أن المرتكز في أذهان المتشرعة عدم رضي الشارع زعامة كل من له منقصة مسقطة له عن المكانة و الوقار، و المتولد من الزنا كعدم الايمان، و عدم العدالة، و عدم العقل منها، و منصب الفتوى من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية و الإمامة، و كيف يرضى الشارع الأقدس الحكيم، ان يتصدى لمنصب عظيم الفتوى من لا قيمة له لدى المسلمين و الشيعة المراجعين له.

و ربما يؤيد ما ذكرنا ما يقال انه ورد أخبار في توصيف الفقهاء و مراجع

______________________________

(1) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 4.

(2) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 8.

(3) الوسائل باب 31 من أبواب الشهادات ح/ 9.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 451

..........

______________________________

الفتوى تارة بأنهم خلفاء اللّه، و خلفاء رسوله، و اخرى بأنهم أمناء رسوله، و ثالثة بأنهم وسائط بين الخالق و الخلق، و رابعة بأنهم مثل الأنبياء أو أفضلهم الى غير ذلك مما ورد في حقهم و يبعد جدا وصول تلك المناصب الرفيعة لمثل ولد الزنا، و الفاسق و الكافر.

الشرط الحادي عشر: ان لا يكون مقبلا على الدنيا و طالبا لها مكبا عليها مجدا في تحصيلها.
اشارة

ففي الخبر: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه».

أقول: ظاهر المتن هو انه بصدد إثبات أمر وراء اشتراط العدالة بداهة انه لو كان راجعا إلى شرطية العدالة لم يكن وجه للفصل بين قوله هذا و بين اشتراط العدالة بعدة شرائط.

ينبغي الكلام في مدرك اعتباره أولا ثم المراد منه.

الظاهر من المتن بقرينة قوله (قدس سره) ففي الخبر إلخ: ان مدرك اعتباره هذا الشرط هو الخبر المروي عن تفسير الإمام العسكري

عليه السّلام.

[كلام من التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام]
اشارة

و ليعذرنى القاري الخبير بذكر قطعة وافية من التفسير فلعلها دخيلة في فهم المقال و دافعة لبعض الشبهات الطارية في المقام.

ففي التفسير عند قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ «1».

قال رجل للصادق عليه السّلام: فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم و القبول من علمائهم، و هل عوام اليهود الا كعوامنا يقلدون علمائهم، فان لم يجز لأوليائك

______________________________

(1) البقرة: 2/ 79.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 452

..........

______________________________

القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم فقال عليه السّلام:

بين عوامنا و علمائنا و بين عوام اليهود و علمائهم فرق من جهة و تسوية من جهة.

اما من حيث انهم استووا فان اللّه قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما قد ذم عوامهم.

و اما من حيث انهم افترقوا. فقال عليه السّلام:

ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح و بأكل الحرام، و الرشاء و بتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات و العنايات و المصانعات، و عرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم و انهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا له من أموال غيرهم و ظلموهم من أجلهم و عرفوهم فإنهم يقارفون المحرمات، و اضطروا بمعارف قلوبهم الى (الاظ) ان من يفعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدق على اللّه، و لا على الوسائط بين الخلق و بين اللّه فلذلك ذمهم اللّه لما قلدوا من عرفوا و من قد علموا انه لا يجوز قبول خبره، و لا تصديقه في حكايته، و لا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم

يشاهدوه و وجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذ كانت دلائله أوضح من ان يخفى و أشهر من ان لا تظهر لهم.

و كذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على حطام الدنيا و حرامها و إهلاك من يتعصبون عليه الى ان قال:

فمن قلد من عوامنا من مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه بالتقليد لفسقة فقهائهم

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 453

..........

______________________________

فاما من كان الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه، و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فان من ركب من القبائح و الفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا و لا كرامة لهم، و انما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم و يضعون الأشياء على غير مواضعها لقلة معرفتهم، و آخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم الى نار جهنم، و منهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا و ينتقصون لنا عند نصابنا، ثم يضيفون اليه أضعافه و أضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن برءآء منها فيتقبله المتسلمون من شيعتنا على انه من علومنا فضلوا و أضلوهم و هم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن على عليهم السّلام و أصحابه فإنهم يسلبونهم الأزواج و الأموال و للمسلوبين عند اللّه أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم، و هؤلاء علماء السوء الناصبون

المشبهون بأنهم لنا موالون و لأعدائنا معادون، و يدخلون الشك و الشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم و يمنعونهم عن قصد الحق المصيب الخبر «1».

كلمة في اعتبار التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه السّلام
اشارة

أقول: وقع الخلاف في اعتبار التفسير الذي إملائه الإمام أبو محمد الحسن بن على العسكري عليهما السّلام على ابى يعقوب يوسف بن محمد الزّياد، و ابى الحسن على بن

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري/ 120- 121 أورد قطعة مما ذكرنا في الوسائل باب 10 من أبواب صفات القاضي ح/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 454

..........

______________________________

محمد بن سيّار، و قد رواه عنهما شيخنا الصدوق بواسطة أبي الحسن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي الخطيب.

قال شيخنا الحر العاملي (ره) في خاتمة الوسائل:

«نروى تفسير الامام الحسن بن على العسكري عليهما السّلام بالإسناد عن الشيخ ابى جعفر الطوسي عن المفيد، عن الصدوق، عن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي، عن يوسف بن محمد بن زياد، و على بن محمد بن سيار، قال الصدوق و الطبرسي- و كانا من الشيعة الإمامية- عن أبويهما عن الامام عليه السّلام، و هذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض العلماء الرجال لان ذاك يروى عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام و هذا عن ابى محمد عليه السّلام، و ذاك يرويه سهل الديباجي عن أبيه، و هما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلا، و ذاك فيه أحاديث من المناكير و هذا خال من ذلك، و قد اعتمد عليه رئيس المحدثين ابن بابويه فنقل عنه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه و في سائر كتبه و كذلك الطبرسي و غيرهما من علمائنا» «1».

قلت: الظاهر ان أبويهما غير داخلين في سلسلة السند و قد كتبه الولدان

عن إملائه عليه السّلام و روياه عنه بغير واسطة، كما هو صريح خطبة التفسير، و ان كان في خاطرك شيئا فلاحظ ذريعة شيخنا العلامة الطهراني (ره) ج 4/ 293، و ما افاده شيخنا الحر (ره) أيضا في الفوائد الطوسية في الفائدة (42)/ 129 فلاحظ.

و قال شيخنا العلامة النوري (ره) في خاتمة المستدرك «ان شيخنا الصدوق أكثر من النقل عن التفسير في أغلب كتبه، كالفقيه، و الأمالي، و العلل، و غيرها، و اعتمد على ما فيه كما لا يخفى على من راجع مؤلفاته، و تبعه على ذلك أساطين المذهب و سدنة الاخبار. فعد منهم الشيخ الطبرسي في الاحتجاج، و القطب الراوندي في الخرائج، و ابن شهرآشوب في المناقب، و المحقق الكركي في إجازته لصفي الدين

______________________________

(1) الوسائل ج 20/ 59.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 455

..........

______________________________

الحلي، و الشهيد الثاني في المنية، و المجلسي الأول في شرح المشيخة و ابنه العلامة المجلسي في البحار، و الأستاد الأكبر في التعليقة. و المحدث البحراني، و الشيخ سليمان في الفوائد النجفية، و الشيخ الحر العاملي، و المحدث الجزائري، و الشيخ سليمان الحلي تلميذ الشهيد الثاني، و الشيخ عبد العلى الحويزي في نور الثقلين الى غير ذلك من الأعلام» «1».

المناقشة في اعتبار التفسير و دفعها

و لكن مع ذلك يظهر من جماعة تضعيف التفسير منهم العلامة في الخلاصة قال:

«محمد بن القاسم، أو أبو القاسم، المفسر الأسترآبادي روى عنه، أبو جعفر بن بابويه، ضعيف كذاب روى عنه تفسيرا يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمد بن زياد، و الأخر بعلي بن محمد بن سيار، عن أبويهما عن ابى الحسن الثالث عليه السّلام و التفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه

بأحاديث من هذه المناكير» «2».

قال شيخنا النوري: انه لم يسبقه فيما بأيدينا من الكتب الرجالية و الحديث سوى ابن الغضائري و لم يلحقه أيضا سوى المحقق الداماد «3».

و عن نقد الرجال ان ما ذكره العلامة في الخلاصة مأخوذ بعينه عن ابن الغضائري كما ان ما عن السيد الداماد لم يزد على ما في الخلاصة شيئا «4».

و وافقهم في ذلك بعض المتأخرين فقد يقال ان من أمعن النظر في التفسير يطلع على أمور عظيمة مخالفة لأصول الدين و المذهب مغايرة لطريقة الأئمة عليهم السّلام «5» و قد تعرض شيخنا النوري لدفع ذلك و ذكر وجوها يمكن ان يتشبث بها لتضعيف اعتبار التفسير، و لقد أجاد في دفعها كما ان شيخنا العلامة التهرانى وافق شيخه في ذلك و اتى بما لعله لا مزيد عليه في اعتبار التفسير، و قد اتعبا أنفسهما الزكية

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3/ 661.

(2) خلاصة الرجال/ 256.

(3) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

(4) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

(5) مستدرك الوسائل ج 3/ 662/ 663.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 456

..........

______________________________

في دفع المناقشات الواردة في انتساب التفسير الى الامام العسكري عليه السّلام، و دفع وجود المناكير و مخالفة المذهب و الدين فيه و صحة انتساب التفسير اليه عليه السّلام، و تضعيف كتاب الضعفاء المنسوب الى ابن الغضائري.

و لعمر الحق ان من لاحظ ما أفاداه في خاتمة المستدرك «1» و الذريعة «2» بعين الإنصاف يذهب عن ذهنه و خاطره جميع الشكوك و المناقشات و يطمئن باعتبار سند التفسير، و عدم وجود المناكير، و عدم مخالفة المذهب و الدين فيه.

و حيث ان مقالهما طويل الذيل حاويا لنكات و دقائق لعله

يفوتنا تلخيصهما طوينا عن تلخيصهما كشحا، و من أراد كشف حقيقة الحال فليراجعهما، ثم ليكن من الشاكرين.

إذا أحطت خبرا بما أفاداه يظهر لك ضعف ما ذكره العلامة التستري في الاخبار الدخيلة «3» فذكر موارد عديدة من التفسير و أتعب نفسه بعدم مطابقتها لما في بعض الكتب التاريخية، مع انه يمكن إرجاع جملة منها الى اختلاف نسخ التفسير، و وقوع الاشتباه بذكر بعض الأسامي مكان بعض، و الاختلاف في ستة الواقعة و نحو ذلك، مع ما نرى من وقوع الاشتباهات الكثيرة في الكتب التاريخية، فهل كانت في الأمة الإسلامية واقعة أعظم من ولادة النبي الأعظم عليه السّلام و ارتحاله، و مع ذلك ترى اختلاف المسلمين فيهما، و ترى وقوع الاختلاف في مواليد أئمة أهل البيت عليهم السّلام و وفياتهم و لم يقع اتفاق منهم إلا في بعض مواليدهم و ارتحالاتهم و شهاداتهم فلاحظ.

و بالجملة عدم مطابقة ما في التفسير لما في الكتب التاريخية لا يوجب وهنا فيه مع إمكان توجيهها بنحو من الأنحاء و الا ربما يوجب و هنا في كثير من اخبار كتب الحديثية المعتمدة كما لا يخفى على الخبير المتدرب.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل ج 3 من 661 إلى 664.

(2) الذريعة ج 4 من 283 الى 293.

(3) الاخبار الدخيلة ج 1/ 152.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 457

..........

______________________________

فتحصل مما ذكرنا ان هذا التفسير من جملة الكتب المعتبرة التي أشار إليها الصدوق في أول كتاب من لا يحضره الفقيه.

الا انه يمكن ان يقال ان نسخ التفسير مختلفة حيث لم يكن عليها إملاء المشايخ و قراءة السلف الصالح فيشكل إثبات حكم شرعي على النسخة الموجودة بأيدينا إلا إذا كانت هناك قرينة على اعتبارها

كما هو الشأن في غير الكتب الأربعة و ما ضاهاها- غير الدراجة بين الأصحاب أيضا- و قد كان أستاذنا العلامة البروجردي (قدس سره) يصعبه الاستناد بأحاديث الجوامع غير الكتب الأربعة مما لم تكن متعارفا بين المشايخ قراءة و إملاء و كتابة فتدبر و اغتنم.

هذا ما يتعلق باعتبار أصل التفسير.

و مع الإغماض عما ذكرنا قد يقال ان هذه الفقرة المعروفة التي ذكرها الماتن (قدس سره) و اشتهر بين أنديه العلماء لها موقعية خاصة.

فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) عند ذكر الروايات التي استدل بها لحجية خبر الواحد بعد ما أورد الفقرة المذكورة «ان هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق إلخ» «1».

و قال بعض الأعلام: يمكن دفع خدشة ضعف السند فان علو مضمونه و اعتماد جملة من الأعلام يكفي في التعويل عليه.

يؤيد ما ذكرنا بل يدل عليه إفتاء الماتن (قدس سره) بمضمون الخبر و لم أجد أحدا من الأعلام المعلقين على المتن النقاش فيه، و ان اختلفوا في المراد منه.

فقد يقال انه لا يستفاد من الخبر الشريف أزيد من شرطية العدالة.

كما انه قد يقال ان المستفاد منه أكثر من اعتبار العدالة و لا يخفى ان هذا منهم قرينة على اعتبار سند الخبر الشريف عندهم فتدبر.

هذا ما يتعلق بسند الخبر، و قد خرجنا عن طور البحث و أطنبنا المقال فيه و

______________________________

(1) فرائد الأصول مبحث حجية الظن/ 80.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 458

..........

______________________________

السر في ذلك استنادهم إليه في جملة من المواقف: في أصل التقليد، و في اعتبار الايمان في مرجع الفتوى، و عدالته و غيرهما من الشرائط بل في اعتبار المرتبة العالية من العدالة كما يظهر من المتن.

المناقشة في دلالة الخبر الشريف لاعتبار العدالة في مرجع الفتوى و دفعها

و اما دلالة

الخبر فقد يناقش في دلالته من وجوه.

الوجه الأول: انه لا يستفاد منه اعتبار العدالة و غاية ما يستفاد منه اعتبار الامانة و الوثوق في النقل و التحرز من الكذب.

فقال شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره): «ان ظاهر الخبر و ان كان اعتبار العدالة بل ما فوقها و لكن المستفاد من مجموعه ان المناط في التصديق هو التحرز من الكذب فافهم» «1».

و اليه يشير ما في المستمسك حيث أشكل في دلالته على أكثر من اعتبار الامانة و الوثوق فقال: «كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات و ان كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة» «2».

و أشير إليه أيضا في الدروس حيث قال: ان المستفاد منه اعتبار العدالة من جهة الأمن عن الخيانة و الكذب لا من جهة التعبد و ان حصل الوثوق به فإنه عليه السّلام بعد ان ذكر أوصاف الفقيه- الذي للعوام ان يقلدوه- قال: «و ذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب من القبائح، و الفواحش مراكب العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا و لا كرامة، و انما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم و يضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم و آخرون يتعمدون الكذب علينا. الحديث» فإنه عليه السّلام علل عدم القبول من الفسقة بالتحريف اما لجهلهم أو لتعمد الكذب و محل الكلام هو بعد الفراغ عن

______________________________

(1) فرائد الأصول مبحث حجية الظن/ 80.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 46.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 459

..........

______________________________

الوثوق به «1».

و لكن فيه: انه مع اعترافهم بكون الظاهر من قوله عليه السّلام: اما من

كان من الفقهاء إلخ اعتبار العدالة- أو ما فوقها عند بعضهم- لا يصار إلى ملاحظة مجموع الفقرات لأنه من الممكن ان يكون لكل فقرة حكم يخصها. مع انه لا تنافي بين استفادة اعتبار العدالة من هذه الفقرة و استفادة التحرز من الكذب و الامانة و الوثوق من سائر الفقرات و مجرد التعليل بعدم اتصاف فاقد المتصف بالصفات، بصفات علماء العامة بلحاظ ارتكاب القبائح و الفواحش و غيرها لا يدل على ارادة خلاف الظاهر من الفقرة المتعرضة للصفات المذكورة، مع انه بملاحظة قوله عليه السّلام في ذيل الخبر (منهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا إلخ) لا يستفاد ان عدم القبول من الفسقة منحصر بجهل الفسقة أو تعمد الكذب فتدبر.

و بالجملة ذكر نقاط ضعف فسقة علماء العامة لا يلائم رفع اليد عن ظاهر الفقرة النورانية المتلألة من الخبر الشريف بحيث يرى العناية الشديدة بالعناوين المذكورة فيه.

فإذا ملاحظة مجموع الفقرات و رفع اليد عن ظهور هذه الفقرة النورانية في مفاده غير ملائم.

المناقشة في كون مورد الخبر أصول الدين التي لا يصلح فيها التقليد و دفعها

الوجه الثاني: ان مورد الخبر أصول الدين و لم يصح التقليد بالمعنى المصطلح فيها و إخراج الأصول منه إخراج للمورد و هو مستهجن فلا بد و ان يوجه بوجه، أو رد علمه إلى أهله. ذكر هذا الوجه أيضا في المستمسك «2» و أشار إليه أستاذنا العلامة الخمينى (دام ظله) في الرسائل «3».

______________________________

(1) الدروس ج 1/ 123.

(2) مستمسك العروة الوثقى ج 1/ 66.

(3) الرسائل/ 140.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 460

..........

______________________________

ورد هذا الوجه: بان المراد بالتقليد هو معناه العرفي و هو الاستناد الى الغير في مقام العمل سواء كان العمل من الجوانح، أو الجوارح، و لا ريب في حصول الوثوق

و الاطمئنان من قول من كان متصفا بالصفات المذكورة في الخبر، و هذا المقدار يكفي في الاعتقاد بمباني الدين لغالب الناس و ان كان يجب على النفوس القوية تحصيل مرتبة أعلى بل اقامة البرهان عليها.

و بالجملة المعتبر في مباني الدين و أصوله- كما سنشير اليه- هو ان يكون ذلك عن علم و اطمينان من اى طريق حصل و ان لم يقدر اقامة البرهان على مزعمته و من البديهي حصول ذلك لغالب الناس من قول الفقيه الصائن لنفسه الحافظ لدينه المخالف على هواه، المطيع لمولاه، بل ربما يحصل الاطمئنان من قول من لم يكن بهذه المثابة أيضا، و هل الخبير الواقف على معتقدات عامة الناس يجد ان اعتقادات أكثر الأمة لم تكن بالدليل و البرهان بل كثير منهم يحصل لهم ذلك من قول من يكون له موقعية و موقف في المجتمع و ان لم تكن بتلك المثابة.

لا أقول بكفاية ذلك من كل أحد بل كما أشرنا انه يجب على ذوي النفوس المستعدة ان يكون ذلك عن دليل و يجب اقامة الدليل على معتقداته و انما أقول بكفاية الاعتقاد بمباني الدين من اى طريق حصل لغالب الناس و سيجي ء في مسئلة عدم الجواز التقليد في أصول الدين ماله نفع للمقام فارتقب.

و يدل على ما ذكرنا بعض فقرأت الخبر فإنه عليه السّلام قرر السائل في أصل جواز التقليد في قوله (فرق بين عوامنا و عوام اليهود من جهة و تسوية من جهة الخبر) فلاحظ.

المناقشة في دلالة الخبر على اعتبار العدالة في المفتي بقاء و دفعها

الوجه الثالث: انه لو سلم دلالة الخبر على اعتبار العدالة فغاية ما يستفاد منه اعتبارها في المفتي بحسب الحدوث فلا دلالة له على اعتبارها بقاء كما إذا قلده حال

الدر النضيد في الاجتهاد و

الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 461

..........

______________________________

عدالته ثم طرء عليه الفسق و الانحراف «1».

و فيه: انه كما أشرنا ان اعتبار العدالة في مرجع الفتوى لم يكن في محيط العرف و العقلاء بل مقتضى إطلاق الأدلة عدم اعتبارها، فان اعتبرت فإنما هو بتعبد من الشرع.

و الإنصاف انه لا يفرق اعتبار العدالة من قبل الشرع بين حالتي الحدوث و البقاء لما أشرنا ان الفسق منقصة دينية لا يناسب المتصف به لمنصب رفيع المرجعية فإذا ان دل الخبر على اعتبارها فيستفاد منه اعتبارها بقاءا أيضا لأن المترائى من قوله عليه السّلام (من كان من الفقهاء الخبر) ان تقليد عوام الشيعة و استنادهم في أعمالهم طول حياتهم لا بد و ان يكون بالفقهاء المتصفين بالصفات المذكورة فالتفرقة بين الحدوث و البقاء كما ترى فتدبر.

فبعد ما عرفت: من اعتبار سند الخبر و دفع المناقشات المذكورة حان عطف النظر الى ما يستفاد من العناوين المأخوذة في الخبر الشريف فهل يستفاد منها اعتبار العدالة أو المرتبة العالية منها؟ وجهان بل قولان.

استفادة المرتبة العالية من العدالة من الخبر الشريف

يظهر من ثلة من المعلقين على المتن ان الصفات المذكورة في الخبر ليست إلا عبارة عن عدالته و تقواه لا شرطا زائدا على العدالة.

و في تعليق العلامة الفقيه الأصفهاني (قدس سره): «ان الإقبال على الدنيا و طلبها ان كان على الوجه المحرم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة فيغني عنه اعتبارها و الا فليس بنفسه مانعا عن جواز التقليد و الصفات المذكورة في الخبر ليست إلا عبارة أخرى عن صفة العدالة».

و علق أستاذنا العلامة الجليل البروجردي (قدس سره) «ان المعتبر من عدم كونه مقبلا للدنيا هو المقدار الذي يعتبر في العدالة و الخبر لا يدل على أزيد من ذلك أيضا»

______________________________

(1) مدارك

العروة للعلامة البيارجمندى ج 1/ 67.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 462

..........

______________________________

و لكن المستفاد من الخبر بعد التأمل هو معنى ينطبق على المرتبة العالية من العدالة لا معنى يصدق على المرتبة الدانية منها.

و هذا هو المتراءى من المتن كما صرح بذلك العلامة الإصطهباناتي (قدس سره) في تعليقته و لقد أجاد فيما أفاد حيث قال: «ان مراد الماتن بملاحظة ما ياتي في مطاوي كلماته من تقديم العدل الأورع على العدل الورع هو الورع و الزهد و لو بمثل هذه المرتبة و ان كان هذا الإقبال و ذلك الطلب على وجه محلل لا محرم فلا يكون راجعا الى اشتراط العدالة حتى يكون اشتراطها مغنيا عن اشتراطه، و يظهر ذلك من الخبر الشريف بالتأمل الصادق لا العدالة كما يرشد اليه ما في بعض الاخبار الأخر مثل قوله عليه السّلام إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم و نحوه.

و يظهر من العلامة البجنوردى، ان المستفاد من الخبر مرتبة كاملة من العدالة الا انه أشكل اعتبار أمر زائد على العدالة هذا.

قلت الإنصاف: كما أشرنا في اعتبار العدالة: ان الاعتبار و مناسبة الحكم و الموضوع و ما أشير إليه في تعليقة العلامة الإصطهباناتي هو اعتبار المرتبة العالية منها في مرجعية الفتوى لأن مرجعية الفتوى مخطرة عظيمة و مزلة الاقدام كما لا يخفى على البصير الخبير فلا بد و ان يكون له مواظبة شديدة و مراقبة تامة في اعماله و حركاته حتى لا تزول بطرو الحوادث و الموانع عصمنا اللّه و إياكم من الزلل و ثبتنا على الصراط المستقيم.

مناقشة بعض الأساطين في دلالة الخبر الشريف على المرتبة العالية من العدالة و دفعها

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بعض الأساطين دام ظله حيث قال:

«انه لا مساغ للأخذ بظاهرها

و إطلاقها حيث ان لازمه عدم جواز الرجوع الى من ارتكب امرا مباحا شرعيا لهواه إذ لا يصدق معه انه مخالف لهواه لأنه لم يكن مخالفا لهواه حتى في المباحات، و من المتصف بذلك؟! غير المعصومين عليهم السّلام فإنه

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 463

..........

______________________________

أمر لا يحتمل ان يتصف به غيرهم، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ، و من ذلك ما قد ينسب الى بعض العلماء من انه لم يرتكب مباحا طيلة حياته و انما كان يأتي به مقدمة لأمر واجب أو مستحب الا انه ملحق بالعدم لندرته، و على الجملة ان أريد بالرواية ظاهرها و إطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مر، و ان أريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أخرى عن العدالة و ليس أمرا زائدا عليها، و قد ورد ان أورع الناس من يتورع عن محارم اللّه، و مع التأمل في الرواية يظهر ان المتعين هو الأخير فلا يشترط في المقلد زائدا على العدالة شي ء أخر» «1».

وجه النظر: ان المستفاد من الرواية كما أشار إليه دام ظله أمر زائد على العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و نحوه.

و ان شئت قلت انه بصدد اعتبار المرتبة العالية من العدالة الحاصلة من المحافظة التامة و المراقبة الشديدة في جادة الشريعة و يناسبة الاعتبار و مناسبة الحكم و الموضوع كما أشرنا.

و المراد بمخالفة الهوى ليس ما عناه دام ظله بحيث يصدق على من ارتكب امرا مباحا لهواه بل المراد هو الأهواء النفسانية الباطلة التي كثيرا ما يعرض للإنسان يمكنه توجيهه على الموازين و لكن يرى الإنسان من نفسه بينه و بين ربه ان

إتيانه مطابق لهواه النفسانية الفاسدة.

و بالجملة هو أمر يدرك و يصعب توصيفه و تبيينه خصوصا بالكتابة، و من كان بهذه المرتبة من التقوى لا يحوم حول منصب رئاسة الفتوى و لا يكون همه نيل الرئاسة لا أقول لا يتصديها أصلا لأنه ربما يستحب بل يجب تصديها بل أقول و أجمل لا يكون همه و مقصوده الرئاسة بل يرى الرئاسة امرا شاقا على نفسه و لا يتصديها و لا يقبلها إلا لأجل أداء الوظيفة و دفع الكربة و اقامة لدعائم الشريعة و اغزازا للحوزة و نحو ذلك و ان أبيت عن اعتبار هذه المرتبة فلا أقل لا بد و ان لا يكون محبا و مكبا على

______________________________

(1) التنقيح ج 1/ 236.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 464

..........

______________________________

تحصيل الرئاسة و لا يكون مجدا في تحصيلها و شائقا في الوصلة إليها بل ينبغي ان يكون بحيث لو حصلت له الرئاسة و خضعت له أزمتها ركبها و أخذ زمامها و نال منها ما ينتفع به للدين و الديانة و الا ألقاها على عاتقها.

و قد كان سماحة أستاذنا العلامة البروجردي قدس يقول عند تعطيل دروس الحوزة العلمية ما حاصله: «ان من يتعلم و يتدرس للنيل الى ما ابتلينا به أخريات عمرنا فهو مجنون» مع انه قدس صار مرجعا عظيما، و زعيما بلا منازع للحوزات العلمية، فإذا كان النيل بالمرجعية العظمى للشيعة جنونا فما ظنك للنيل و الوصول الى دون تلك المرتبة عصمنا اللّه و إياكم من الوقوع في المهالك.

و لعمر الحق ان المستفاد من الخبر الشريف بعد التأمل الصادق هو هذه المرتبة العالية من التقوى و هذه المرتبة هي التي تناسب مقام الفتوى الذي مزلة،

للإقدام و مخطرة عظيمة، و لو لا هذه المرتبة العظيمة لما يبقى الاستقامة في جادة الشريعة.

و لصاحب الحدائق و سيد مشايخنا (قدس سرهما) كلمة نفيسة في هذا المضمار ذكرناها في مسئلة اعتبار العدالة فلاحظ/ 429.

الاستدلال بالأخبار لاعتبار المرتبة العالية من العدالة في مرجع الفتوى

يمكن الاستياس بل الاستدلال لما ذكرنا ببعض الأخبار التي نشير الى ثلة منها.

مثل خبر معمر بن خلاد عن ابى الحسن عليه السّلام انه ذكر رجلا فقال انه يحب الرئاسة فقال:

ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرئاسة «1».

و خبر ابى عامر بن جناح عن رجل عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

من طلب الرئاسة هلك «2».

و في خبر ابى سياح عن أبيه قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 1.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 2.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 465

..........

______________________________

من أراد الرئاسة هلك «1».

و خبر أبي حمزة الثمالي قال قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إياك و الرئاسة «2».

و مرفوع إسماعيل بن بزيع قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث نفسه بها «3».

و خبر محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

أ ترى لا اعرف خياركم من شراركم؟! بلى و اللّه ان شراركم من أحب ان يوطأ عقبه، انه لا بد من كذاب أو عاجز الرائي «4».

الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في الباب الخامس من أبواب جهاد النفس من الوسائل فلاحظ.

و خبر هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

رأس كل خطيئة حب الدنيا «5».

و خبر الكراجكي قال:

قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله: من أحب دنياه أضر بآخرته «6».

و خبر عبد اللّه بن سنان عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ان أول ما عصى اللّه به ستة: حب الدنيا، و حب الرئاسة، و حب الطعام، و حب النوم، و حب الراحة، و حب النساء «7».

و في إرشاد المفيد في كتاب ابى عبد اللّه عليه السّلام الى أهل الكوفة.

______________________________

(1) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 7.

(2) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 3.

(3) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 6.

(4) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 9.

(5) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 1.

(6) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 5.

(7) الوسائل باب 5 من أبواب جهاد النفس ح/ 3.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 466

..........

______________________________

فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالسيف الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات اللّه «1».

الى غير ذلك من الاخبار التي يجدها المتتبع.

الشرائط التي يذكر لمرجع الفتوى غير ما ذكره الماتن

اشارة

هذا كله في الشرائط التي أوردها المصنف لمرجع الفتوى فحان عطف النظر الى ما ربما يذكر له من الشرائط.

فمنها: غلبة الذكر
اشارة

بان يكون حفظه متعارفا لم يغلبه النسيان فان كان دون المتعارف فلا يعتنى بارائه

وجه اعتبار غلبة الذكر في مرجع الفتوى و دفعه

قال المحقق في المختصر: «لا بد و ان يكون القاضي ضابطا فلو غلبه النسيان لم ينعقد له القضاء».

و قال في الرياض: «انه قال المحقق هنا (يعني في المختصر) و في الشرائع، و الإرشاد، و القواعد، و الدروس، و غيرها و الظاهر عدم الخلاف فيه، و تدل عليه عبارة الروض ظاهرا، و وجهه واضح. و قيده بعضهم بالضبط في محل الحكم لا مطلقا إذ ما نجد مانعا لحكم من لا ضبط كثيرا له مع اتصافه بالشرائط و ضبط هذه الواقعة انتهى و لا بأس به» «2».

و حيث ان المعتبر في القضاء معتبر في الفتوى فيعتبر ذلك في الفتوى أيضا.

و قد حكى ان الفقيه الهمداني (قدس سره) طرء عليه في أخريات عمره الشريف حالة لم يكن معها بحيث يغلب عليه حفظ المطالب فأشار الى مقلديه بالعدول عنه.

و فيه: ان طرو النسيان ان كان بحيث يسلب عنه العلم و الدراية فله وجه و الا فإن كان متحفظا على آرائه مضبوطا و مكتوبا عنده بحيث لا يتجاوزه و لا يتعداه

______________________________

(1) إرشاد المفيد/ 225.

(2) رياض المسائل ج 2/ 389.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 467

..........

______________________________

فلا دليل على اعتبار الحفظ، كما هو الشأن في بعض المراجع العظام في أخريات أعمارهم الشريفة فتريهم لا يكون لهم قوة الحفظ و الذكر و لا يكادون يتحفظون على المطالب و المسائل و الدقائق، و قد كانوا حافظين لها في أوائل أعمارهم و أوساطها، و لكن مع طرو هذه الحالة لا يكادون يفتون بمجرد المراجعة لديهم و السؤال عنهم بل يحتاطون و يوظفون أنفسهم بالمراجعة

إلى المدارك و ما حصّلوه من الفتاوى.

ثم انه لو ثبت اعتبار غلبة الذكر في باب القضاء فلم يثبت ان كل ما يكون شرطا في القضاء يكون شرط في الفتوى كما ذكرنا غير مرة.

و منها: الكتابة
اشارة

قال المحقق في الشرائع في شرائط القاضي: «الأقرب ان يكون عالما بالكتابة لما يضطره من الأمور التي لا يتيسر لغير النبي صلّى اللّه عليه و آله بدون الكتابة» و قال نحوه في المختصر، و عن المسالك نسبته الى الشيخ و أكثر الأصحاب و ربما ادعى الإجماع عليه

توجيه اعتبار الكتابة و دفعه

الوجه في اعتبار الكتابة هو اضطرار القاضي لها في الأمور التي لا يتيسر لغير النبي صلّى اللّه عليه و آله لعدم عصمته و إمكان سهوه و نسيانه و غفلته، فلا يقاس بالنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لعصمته و امتناع السهو و النسيان عليه قطعا، و قوة حافظته بحيث لا يحتاج إليها مع استمداده بالوحي.

فباعتبارها في القضاوة يعتبر في الفتوى أيضا.

و لكن في الجواهر «انه لا دليل على اعتبارها سوى الاعتبار المزبور الذي لا ينطبق على أصولنا، بل إطلاق دليل النصب في نائب الغيبة يقتضي عدمه، على انه يمكن الاستغناء بوضع كاتب بل و غير الكتابة من طرق الضبط بل ربما لا يحتاج إليها» «1».

______________________________

(1) جواهر الكلام ج 41/ 20.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 468

..........

______________________________

و لو سلم اعتبارها في القاضي بدليل الاعتبار، أو الإجماع، فلا دليل على معرفتها بخصوصها في مرجع الفتوى فمن كان متذكرا للمطالب و لكن لم يقدر على الكتابة و لكن كان له محرز يحرز المسائل و المطالب لما كان دليل على اعتبارها.

كلمة في كتابة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قراءته

ينبغي الإشارة الإجمالية إلى كتابته صلّى اللّه عليه و آله و قراءته.

اختلفت الأمة الإسلامية في كتابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده المباركة.

فعن جمهور العامة: انه صلّى اللّه عليه و آله لم يكتب و أوّلوا الأخبار التي فيها انه أخذ الكتاب أو كتب فحملوها على انه أمر ان يكتب الكتاب و الى هذا القول يشير ما قيل:

نگار من كه بمكتب نرفت و خط ننوشت بغمزه مسئله آموز صد مدرس شد

و ما أنشده السنائي:

اگر بودى كمال أندر نويسائى و خوانائى چرا آن قبله كل نانويسا بود و ناخوانا

و عمدة

ما يستدل لهم أمران.

الأول: قوله تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ «1».

و قوله تعالى فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ «2».

بدعوى أن الأمي من لم يحسن القراءة و الكتابة.

الثاني: قوله تعالى وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لٰا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتٰابَ الْمُبْطِلُونَ «3».

فقد نفى القراءة و الكتابة عنه صلّى اللّه عليه و آله و لا يخفى ما في الاستدلال بهما.

اما الأول: فلأنه ذكر لاميته صلّى اللّه عليه و آله معاني و ان كان أحدها ذلك، فلا وجه

______________________________

(1) الأعراف: 7/ 157.

(2) الأعراف: 7/ 158.

(3) العنكبوت: 29/ 48.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 469

..........

______________________________

لاختصاص الآية الشريفة بذلك المعنى.

و من تلك المعاني كونه صلّى اللّه عليه و آله منسوبا إلى أم القرى.

و منها: كونه عربا، و تدعى العرب الأميون، و قد حمل عليه.

قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1».

و يحتمل ان يراد بالاميين من لم يبعث إليهم نبي في قبال أهل الكتاب، فيكون المراد بالنبي الأمي: المبعوث الى امة لم يبعث إليهم نبي.

فإذا لا وجه لحمل الآية على ذلك المعنى.

و اما الثاني: فلان النفي في الآية الشريفة بالنسبة الى قبل نزول القرآن، و قبل تحقق امنيّته و رسالته، و اما بعد نزول القرآن فلا مانع من ان يعرف القرآن من غير معلم بمعجزة أخرى فتدبر، و قد حكى ذلك عن السيد المرتضى (قدس سره) فقال ان ظاهر الآية يقتضي نفى القراءة و الكتابة بما قبل النبوة، و لأنهم إنما يرتابون في نبوته لو كان يحسنها قبل النبوة، و اما بعدها فلا تعلق له بالريبة، فيجوز ان يكون يعلمها من جبرئيل بعد النبوة و يجوز ان

لم يتعلم فلا يعلم.

و عن شيخ الطائفة: انه صلّى اللّه عليه و آله كان عالما بالكتابة و انما كان فاقدا لها قبل البعثة.

و عن الحلي: انه صلّى اللّه عليه و آله عندنا يحس الكتابة بعد النبوة و انما لم يحسنها قبل البعثة اه.

و ظاهره الإجماع عليه منا.

و الاخبار في الباب مختلفة فاستظهر من بعضها انه لم يقرء و لم يكتب، كما ان في بعضها الأخر انه كان يقرء و لا يكتب.

ففي خبر هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال:

كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يقرء الكتاب و لا يكتب «2».

______________________________

(1) الجمعة: 62/ 2.

(2) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 470

..........

______________________________

و خبر حسن الصيقل قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

كان مما من اللّه عز و جل به على نبيه صلّى اللّه عليه و آله انه كان أميالا يكتب و يقرء الكتاب «1».

و في ثالث انه صلّى اللّه عليه و آله يقرء و يكتب.

فعن العلل، و معاني الاخبار، و الاختصاص، و بصائر الدرجات عن جعفر بن محمد الصوفي قال سئلت أبا جعفر محمد بن على الرضا عليه السّلام فقلت: يا بن رسول اللّه لم سمي النبي صلّى اللّه عليه و آله الأمي فقال:

ما يقول الناس قلت يزعمون انه انما سمى الأمي لأنه لم يحسن ان يكتب فقال عليه السّلام: كذبوا عليهم لعنة اللّه انى ذلك؟! و اللّه يقول في محكم كتابه: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم، و يعلمهم الكتاب و الحكمة «2» فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن و اللّه كان رسول اللّه،

يقرء و يكتب باثنين و سبعين، أو قال بثلاثة و سبعين لسانا، و انما سمى الأمي لأنه كان من أهل مكة و مكة من أمهات القرى و ذلك قول اللّه عز و جل:

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ «3» وَ مَنْ حَوْلَهٰا «4».

و عن العلل، و بصائر الدرجات و تفسير العياشي عن ابى جعفر عليه السّلام نحوه «5».

و في خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يقرء و يكتب و يقرء ما لم يكتب «6».

و ورد من طريق العامة ما رواه السيوطي عن عون بن عبد اللّه عن أبيه قال:

ما مات النبي حتى قرأ و كتب، فذكرت هذا الحديث.

______________________________

(1) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(2) الجمعة: 62/ 2.

(3) الانعام: 6/ 92.

(4) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(5) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

(6) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 132/ 333/ 134

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 471

..........

______________________________

للشعبي فقال صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك «1».

فالمتحصل من هذه الاخبار انه صلّى اللّه عليه و آله كان يقرء، و اما كتابته فمختلف فيها.

فيمكن الجمع بينها بوجهين.

الأول: انه صلّى اللّه عليه و آله كان يحسن الكتابة و لكن لم يكتب لضرب من المصلحة.

و قد اشتهر- كما في الاخبار الصحيحة و التواريخ- قوله صلّى اللّه عليه و آله في أخريات عمره المبارك! ايتوني بدوات، و كتف اكتب كتابا لن تضلوا بعدي أبدا، فمنع عنها فما في بعض الاخبار انه صلّى اللّه عليه و آله في قضية صلح الحديبية كتب كتاب الصلح بيده المباركة «2» مخالف للأخبار

الواردة في القضية، و لقول أهل السير و التأريخ حيث يستفاد منهما ان الكاتب لصلح الحديبية كان على بن أبي طالب عليه السّلام بإملائه صلّى اللّه عليه و آله «3» لاحظ بحار الأنوار باب غزوة الحديبية «4».

الثاني: حمل الأخبار النافية على نفى الكتابة على تعلمها من أبناء البشر، و من الطرق المتعارفة، و ما دل على كتابته انه كان باقداره تعالى من طريق الوحي.

يلائمه ما رويناه عن السيوطي، و اختاره العلامة المجلسي (قدس سره) فقال في وجهه:

«كيف لا يعلم من كان عالما بعلوم الأولين و الآخرين ان هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف، و من كان يقدر بإقدار اللّه تعالى له على شق القمر، و أكبر منه كيف لا يقدر على نقش الحروف، و الكلمات على الصحائف و الألواح؟!» «5».

و لكن لا يخفى ان ما أفاده في حد نفسه حسن لا ريب فيه، الا انه لا يثبت المقصود لان مجرد إقدار اللّه تعالى إياه على شق القمر، أو أكبر لا يثبت أنه أقدره على الكتابة أيضا، إذ من الممكن انه لم يقدره عليها، كما لم يعلمه الشعر و ما ينبغي له لبعض

______________________________

(1) الدر المنثور ج 3/ 131.

(2) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(3) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(4) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 20/ 371/ 335/ 317.

(5) بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 16/ 134.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 472

..........

______________________________

المصالح تأكيدا لأمر الرسالة، و تثبيتا للإعجاز، كما لم يحسنهما له قبل البعثة لذلك فاذا يقرب ان يقال بلحاظ الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام انه صلّى اللّه عليه و آله كان

يقرء، و يحسن الكتابة الا انه لم يكتب أصلا، و لم يعهد روية كتابة منه، و ما اشتهر في الصحاح و التواريخ شاهد صدق على ذلك، لأنه صلّى اللّه عليه و آله أراد ان يكتب في أخريات عمره الشريف لان يذهب الشك في أمر الخلافة من أصله، بداهة ان كتابة من لم يعهد منه الكتابة طول حياته، لها تأثير غريب في المجتمع ما لا يكاد يخفى على الخبير بل توجب حسم اى شك و شبهة من أرباب الضلالة و الغواية و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله:

ان بعد الكتابة لن تضلوا بعدي أبدا، و قد شعر بذلك من لم يؤمن باللّه طرفة عين ابدا و ابرز كفره و قال فيما قال. و جنى جناية عظيمة فاضل الأمة الإسلامية فاوقعهم في الضلالة و الغواية فلم يزالوا و لا يزالون فيها الى ان يظهر قطب فلك دائرة الإمكان بقية اللّه في أرضه جعلني اللّه من كل مكروه فداه اللهم اجعلنا من أنصاره و أعوانه و الذابين عنه و المستشهدين بين يديه.

و منها: البصر
اشارة

قال المحقق في الشرائع: و في انعقاد قضاء الأعمى تردد و خلاف أظهره انه لا ينعقد لافتقاره الى التمييز بين الخصوم و يعذر ذلك مع العمى الا فيما يعمل.

توجيه اعتبار البصر و دفعه

و قد يوجه بأن الأعمى لا تنفذ شهادته في بعض القضايا كالشهادة على الزنا و القاضي تنفذ شهادته في الكل، و افتقاره الى مشاهدة الغرماء للحكم على أعينهم و ان البصر طريق الى المحسوسات التي يحتاج إليه القاضي.

و في الرياض: «مع اشتراط المعرفة بالكتابة يستلزم اشتراط البصر كما نبّه عليه في التنقيح قال استدلالا بالملزوم على اللازم فتدبر» «1».

و حيث ان المعتبر في القضاء معتبر في الفتوى فيعتبر البصر في مرجع الفتوى

______________________________

(1) رياض المسائل ج 2/ 290.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 473

..........

______________________________

و فيه: انه لم يقم دليل على اعتباره في القضاء إلا إذا توقف القضاء عليها.

مع انه يمكن الفصل و تعيين المدعى و المدعى عليه بالبينة و نحوها، و عدم نفوذ شهادة الأعمى في بعض الموارد لو تم فإنما هو لأجل توقف الشهادة على الزنا مثلا على الرؤية و لا يكاد يحصل بدون البصر، و قد عرفت عدم اشتراط الكتابة فضلا عن لازمه.

و على تقدير تماميته في القاضي بلحاظ أمر اعتباري لا دليل على الملازمة بين القضاء و الفتوى فلم يقم دليل على اعتبار البصر في مرجع الفتوى.

و منها: ان لا يكون معوج السليقة منحرفا عن الطريقة القويمة. توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

قيل: «ان الوجه في اعتباره هو ان الاعوجاج آفة للحاسة الباطنة فكما أن الحاسة الظاهرة ربما تصير مئوفة مثل ان يكون بالعين آفة يدرك الأشياء بغير ما هي عليها، أو بالذائقة، أو غيرهما كذلك، و الاعوجاج قد يكون ذاتيا كما ذكر، و قد يكون كسبيا باعتبار العوارض، مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته غفلة، فان الحاسة تصير حينئذ مئوفة كالأول كما لا يخفى مثلا الذائقة ربما تصير مرا بالعوارض فكل شي ء تذوقه تجده مرا و قس عليه سائر الحواس.

و طريق

معرفة الاعوجاج، العرض على إفهام العلماء المعروفين بالاستقامة و حسن السليقة و اجتهاداتهم فان وجد فهمه و اجتهاده موافقا لطريقتهم فليحمد اللّه و يشكره و ان وجده مخالفا لفهمهم فليتهم نفسه، كما ان من كانت حاسة من حواسه الظاهرة مئوفة يرجع الى اولى الحواس السليمة ليقيس سلامة حواسهم حاسته حتى يميز سقمها عن سلامتها، و لكن ربما يلقى الشيطان في قلبه ان موافقة الفقهاء تقليد لهم و هو حرام فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهدا فاضلا، و هذا غافل لا يعلم ان هذا من غرور الشيطان و ان حاله حال ذي الحاسة المؤفة الذي يلزم عليه الرجوع الى ذي

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 474

..........

______________________________

الحاسة السلمية» «1».

أقول: غاية ما يمكن ان يقال في اعتباره هو انصراف الأدلة عن مثل هذا الشخص و عدم ثبوت بناء العقلاء على المراجعة بمثل هذا الشخص في مهام أمورهم.

و لكن حيث ان اعوجاج السليقة ذات مراتب لا ينبغي الإشكال بعدم مضرية بعض مراتبها، و لا يكون منشأ لانصراف الأدلة عنها، و لم يثبت عدم البناء من العقلاء على المراجعة إليه كما لا يخفى.

و بعض مراتبه الخارجة عن طور الاجتهاد المتعارف المتلقاة يدا بيد لا يبعد دعوى انصراف الأدلة عنه و عدم ثبوت بناء العقلاء على المراجعة بمثله.

و بعض مراتبه مما يشك في ذلك، فمع الشك في تحقق البناء في مثله و الشك في شمول إطلاقات الأدلة لمثله فالأصل يقتضي عدم اعتباره و عدم حجيته لما قلنا ان الشك كلما يرجع الى مقام الحجية و الاحتجاج فالأصل عدم صحة الاحتجاج فتدبر و اغتنم.

و منها: ان لا يكون بليدا لا يتفطن بمعضلات المسائل و الدقائق و يقبل كلما يسمع و يميل مع كل قائل. توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

يقال في وجه اعتباره: «انه لا بد لمرجع الفتوى من

حذاقة و فطنة يعرف الحق من الباطل و يرد الفروع إلى الأصول، و يدري في كل فرع انه من أي أصل يؤخذ و يجري مسائل الأصول في الآيات و الاخبار» «2».

أقول: لا اعلم وجها لاعتباره بعد اعتبار ملكة الاجتهاد في مرجع الفتوى لان من كان بليدا لا يكاد يهتدي إلى الغوامض و المسائل و الدقائق و يقبل كلما سمع كيف يكون مجتهدا فلا يكون اعتباره أمرا زائدا على اعتبار الاجتهاد كما لا يخفى.

______________________________

(1) مدارك العروة للعلامة البيارجمندى ج 1/ 86.

(2) مدارك العروة ج 1/ 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 475

..........

______________________________

نعم من لا يكاد يهتدي إلى غوامض المسائل المشكلة و دقائقها و لكن يعرف و يهتدي إلى المسائل التي ليست بتلك الغموضة فيكون مجتهدا متجزيا، و قد تقدم جواز تقليد المتجزي إذا صدق عليه عنوان الفقيه، و العارف بالأحكام و الناظر في الحلال و الحرام، فيصح تقليده فيما اجتهد و استنبط.

فتحصل ان اعتبار عدم البلادة إما يرجع الى عدم كونه مجتهدا، أو الى عدم كونه مجتهدا مطلقا، فلا وجه لجعله شرطا مستقلا في مرجع الفتوى.

و منها: ان لا يكون جريئا غاية الجرية في الفتوى
اشارة

كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرية فترى وقوع تلفات كثيرة من آرائهم بخلاف المحتاطين منهم كما لا يخفى.

توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

و بالجملة وقوع المتجري في الفتوى في خلاف الواقع كثير بخلاف من احتاط منهم فينبغي اعتبار عدمه «1».

أقول: زيادة الجرية ان كانت لغلبة الحذاقة و كثرة المزاولة، و الممارسة، فان لم يكن موجبة لتعين الأخذ برأيه فلا أقل لا تكون قادحة الا ان يرجع الى اعوجاج السليقة و الانحراف عن الطريقة المألوفة و قد عرفت الحال في اعتباره.

و منها: ان لا يكون مفرطا في الاحتياط توجيه اعتباره و بيان المراد منه

قد يقال بأنه لا بد و ان يكون المفتي متعارفا في الإفتاء بالاحتياط فإن الإفراط في الاحتياط قد يخرب الفقه كما شاهدناه من كثير ممن أفرط في الاحتياط، بل كل من أفرط فيه لم تر له فقها لا في مقام العمل لنفسه و لا في مقام الفتوى لغيره «2».

أقول: ان كثرة الاحتياط ان كان لأجل التورع و التقوى و عدم الجرية على الانتساب الى اللّه تعالى، و الرسول، و أئمة الهدى صلوات اللّه عليهم ما لم يطمئن به

______________________________

(1) مدارك العروة ج 1/ 88.

(2) مدارك العروة ج 1/ 88.

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 476

..........

______________________________

فهو ممدوح و ان كان العمل بفتواه موجبا للصعوبة كما هو دأب شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) على ما حكى.

نعم ان كان الاحتياط لقلة الباع و البضاعة و عدم النيل الى مغزى المسئلة فلا يكون شرطا زائدا على الاجتهاد.

و منها: ان لا يكون متسرعا في الفتوى توجيه اعتباره و دفعه

لعل وجه اعتباره هو انصراف الأدلة عن مثل هذا المجتهد و وقوعه في خلاف الواقع كثيرا.

و لكن لا وجه له فان التسرع في الفتوى ان كان لحدة ذهنه و قوة ذكائه و وقوفه على الدقائق بسرعة، فلو لم يكن موجبا لتعين الأخذ بفتواه فلا يقل عن آراء من يكون دونه في الحذاقة و الذكاء و ان كان لعدم مبالاته بالشريعة و عدم خوفه من هول المطلع فيكون غير عادل، و قد عرفت اعتبار العدالة كما لا يخفى فلا يكون شرطا زائدا.

و منها: ان لا يكون حسن الظن بارائه.
اشارة

بحيث يكون معجبا بنفسه في العلميات بحيث يصده ذلك عن البحث و التنقيب و الغور و الدقة و اعمال النظر في مستند الحكم.

توجيه اعتباره و تبيين المراد منه

و بالجملة لا يكون مستبدا برأيه مع قصور باعه فربما ترى كثيرا من طلبة العلم في ابتداء أمرهم في نهاية قصور الباع و فقدان الاطلاعات اللازمة، و مع ذلك يستبدون بارائهم القاصرة و يخطئون آراء المجتهدين و خبراء الفن و يطعنون عليهم و ينكرون عليهم أشد الإنكار.

أقول: إعجاب المرء بنفسه قبيح و ربما يؤدى الى عدم الغور في مغزى المسئلة و لا يجتهد فيها كما ينبغي فإذا يكون ناقص الاجتهاد فهو غير مجتهد و غير مستفرغ في المسئلة كما ينبغي، و ربما يؤدي إعجاب المرء بنفسه و رأيه إلى هتك الغير و إهانته فهو لا يكاد يصدر ممن له ملكة العدالة، و من لا عدالة له لا يبالي بما يقول و لا يحفظ

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 477

..........

______________________________

لسانه و قلمه بما يجرى عليها. و يهتك العلماء و المجتهدين عصمنا اللّه و إياكم من شرور أنفسنا، و ربما يستلزم إعجاب المرء بنفسه صيرورته عنودا لجوجا فترى بعض المعجبين بارائهم و فتويهم يسيئون الأدب بآراء غيرهم و أحكامهم و ينكرون بعض البديهيات و الواضحات و يرونه خلاف البداهة.

تذكرة

و ليعلم انه ينبغي اعتبار حسن السليقة في الاجتهاد و عدم الانحراف عن طريقة المشهور قديما و حديثا مهما أمكن و عدم الاستبداد بارائه و لا يرى لآرائه المخالفة لهم فضلا و مزية.

و عن بعض الأعلام قدس ان العلمية و الحذاقة في الفقه هي معرفة الآراء المشهور و مستندات فتاويهم و معرفة ظرائف آرائهم و توجيهها بنحو مقبول لا التفرد بالفتوى و اتخاذ طريقة جديدة على خلافهم.

و لا يخفى ان الفتاوى المشهورة غالبا مطابقة للاحتياط الذي أمرنا باتّباعه، و قلما يوجد انحراف

المشهور عن جادة الشريعة، فلا بد للمتدرب و من في طريق الاجتهاد ان يقصّر همه في معرفة آراء المشهور و التدبر في مستندات آرائهم و لا يميل عن آرائهم مهما أمكن زعما منه ان موافقتهم نحو تقليد لهم و هو غير جائز، بل لا بد لإثبات اجتهاده و فضله من مخالفتهم عصمنا اللّه و إياكم عن مزال الاقدام و اللّه ولي العصمة.

تبصرة

و ليعلم ان الشرائط التي ذكرناها من كون المجتهد رجلا عادلا، و طاهر المولد الى غير ذلك انما هي بالنسبة إلى رجوع الغير الى المجتهد و تقليده و اما بالنسبة إلى عمل نفسه فلا اشكال و لا خلاف في عدم اشتراط شي ء منها لان اجتهاد كل أحد حجة له و عليه و ان كان فاسقا غير طاهر المولد أو أمرية بل كما أشرنا لا يجوز له تقليد الغير خصوصا إذا خالفه في الرأي، لأنه في صورة الموافقة في الرأي يكون من

الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، ج 1، ص: 478

..........

______________________________

رجوع العالم و ما حصله الى التعبد برأى الغير و هو كما ترى، و في صورة المخالفة من باب رجوع العالم الى الجاهل لان المجتهد مخطا في زعمه.

هذا أخر ما تيسر لنا إيراده في هذا الجزء، و كان من نيتنا حال الطبع إيراد جميع ما يتعلق بفروع تقليد العروة الوثقى في جزء واحد، و لكن بلحاظ ضيق نطاق الجزء، و سهولة الحمل، و اشارة بعض خبراء الطبع و النشر بدئ لنا ذكر بقية ما يتعلق بفروع التقليد في جزء أخر.

و كان الفراغ من طبع هذا الجزء في شهر رمضان المبارك من شهور 1412 هجرية قمرية على مهاجرها أفضل صلاة المصلين.

نسئل اللّه

من فضله ان يوفقنا في القريب العاجل لطبع الجزء الأخر من (در النضيد) اوله قوله (قدس سره) مسئلة 23- العدالة عبارة عن ملكة. ثم طبع سائر الاجزاء من شرحنا المبسوط على الكتاب القيم (العروة الوثقى) و الحمد للّه أولا و آخرا.

كتبه بيمناه الداثرة الراجي رحمة ربه أقل خدمة فقه أهل البيت عليهم السّلام السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي ببلده قم المحمية عش آل محمد، و حرم أهل البيت عليهم السّلام و اسئل اللّه تعالى العفو عما مضى، و التوفيق للعمل بما يحبه و يرضى.

________________________________________

لنگرودى، سيد محمد حسن مرتضوى، الدر النضيد في الاجتهاد و الاحتياط و التقليد، 2 جلد، مؤسسه انصاريان، قم - ايران، اول، 1412 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.